أخوية

أخوية (http://www.akhawia.net/forum.php)
-   القصة و القصة القصيرة (http://www.akhawia.net/forumdisplay.php?f=17)
-   -   محمود البدوى (http://www.akhawia.net/showthread.php?t=107547)

اسبيرانزا 18/08/2008 21:36

محمود البدوى
 


محمود البدوى قاص ومترجم مصرى ولد فى قرية ابنوب بمحافظة اسيوط بصعيد مصر تدرج فى التعليم حتى المرحلة النصف جامعية فقد ترك الجامعة وهو فى الفرقة التانية لظروف ( ما ) عمل بعد انقطاعه عن التعليم فى احدى الوزارات الحكومية ,,,انشغل فى اوقات الفراغ بترجمه الروايات الاجنبية ومحاولة ولوج عالم القصة القصيرة بالتجريب
اتهم فى بداية مشواره بالسطحية وضعف الاسلوب الا انه سرعان ما اثبت حضوره وجداره اسلوبه حتى اطلق عليه نجيب محفوظ لقب ( تشيخوف القصة القصيرة )
العالم السائد فى محيط كتاباته هو الجو المصرى الصرف بمشكلاته وهمومه كذلك معالجة هموم المصريين فى خارج المحيط المصرى ...روسيا ,,هونج كونج..طوكيو وغيرها
تعرض ادبه وما زال لاتهامات من الجمعيات النسائية المصرية التى ترى انه يدخل المرأة فى سياج قصصه كمعادل موضوعى للفتنة او المتعة
توفى البدوى وما زالت قصصه تحظى بالحضور الجدلى الذى هو سمة الادب الحى

اترككم مع بعض قصصه :D

اسبيرانزا 18/08/2008 21:41

الرنين
 


رن جرس التليفون فى حجرتى بالفندق فى منتصف الليل .. ولم أكن أعرف أحدا فى موسكو .. ولا صلة لى بانسان .. ولذلك تركته يرن .. وبقيت فى الفراش تحت الأغطية الثقيلة ..
وكنا فى صميم الشتاء والثلج يتساقط ، والبرودة تصل إلى 25 درجة تحت الصفر ..
ولما طال الرنين تحركت من مكانى ورفعت السماعة ، فوجدت سيدة على الخط وكانت تتكلم الإنجليزية بلكنة أجنبية واضحة ..
وقلت :
ـ هالو ..
ـ هالو ..
ـ أى خدمة ..
ـ أى خدمة ..
ـ أيقظتينى من النوم يا سيدتى ..
ـ أيقظتينى من النوم يا سيدتى ..
ـ ماذا تريدين ..؟
ـ ماذا تريدين ..؟
ـ لماذا هذا العبث فى مثل هذه الساعة من الليل ..؟
ـ لماذا هذا العبث فى مثل هذه الساعة من الليل ..؟
وهكذا ظلت تردد ورائى كل ما أقوله بلهجة مضحكة ، كانت تنطق الكلمة الإنجليزية خليطا بين الإنجليزية والفرنسية والألمانية ..
ومع أنها سحبتنى من الفراش وأطارت النوم من عينى ، ولكن مجرد سماعى لصوت أنثى فى الليل الساكن وفى هذه الوحدة أشعرنى بالراحة ، فأنا وحيد فى هذه المدينة الكبيرة ، وحيد فى الفندق .. من غير أنيس ولا رفيق .. وقد قضيت أسبوعين على هذه الحالة القاسية ..
ولهذا فإن مجرد سماعى لصوت أنثى فى الليل هز مشاعرى ..
كنت أعيش فى حالة كآبة فى داخل الفندق ، ولا أستطيع التجول فى المدينة لشدة البرد القاتل ، وسقوط الثلج ، فإنه من الصعب على شخص لم يتعود على مثل هذه الحياة أن يتجول ..
كانت درجة البرودة تصل إلى 30 درجة تحت الصفر فى بعض الأيام ولا تقل عن 20 درجة فى معظم الأيام ، ولهذا حبست نفسى فى الفندق ..
ولم أكن أخرج إلا نادرا فى مشوار سريع إلى المكتبة العامة ، وأعود منه مغطى كلية بنتف الثلج ..

وفى الليلة التالية ، وفى نفس الساعة عاد الرنين ، تركت الجرس يرن طويلا ثم تناولت السماعة ، وسمعت نفس الصوت يردد ورائى ما أقوله بالحرف الواحد ..
وقلت فى صوت جاف :
ـ يا سيدتى .. أنا رجل وحيد وبائس .. ولا شأن لى بالنساء ..
ـ يا سيدتى .. أنا رجل وحيد وبائس .. ولا شأن لى بالنساء ..
ـ ولا أحب النساء ..
ـ ولا أحب النساء ..
ـ شىء عجيب ..
ـ شىء عجيب ..
ـ لماذا هذا العبث فى الليل ..؟
ـ لماذا هذا العبث فى الليل ..؟
ـ أريد أن أنام ..
ـ أريد أن أنام ..
ـ سأبلغ إدارة الفندق ..
ـ سأبلغ إدارة الفندق ..
ووضعت السماعة وأنا فى أشد حالات الغيظ .. واستمر الحال على هذا المنوال عشرة أيام متصلة ، ومن العجب اننى كنت أضبط الساعة على رنينها .. فى منتصف الليل بالضبط .. وعندما تتلاقى العقارب الثلاثة كنت أسمع الرنين ..
ومن العجب أننى بعد هذه الأيام العشرة .. أصبحت أحن إلى سماع هذا الصوت ، وأخشى أن ينقطع الرنين .. والإنسان عبد لما تعود عليه .. ويعشق المجهول .. ولقد عشقت صوتها .. كان صوت هذه السيدة جميلا منغما كأنه كروان يغنى على الخط ، كروان يغنى بأعذب الألحان ..
وأصبحت أتصورها من صوتها شابة بين العشرين والخامسة والعشرين .. رشيقة القوام .. شقراء الشعر دعجاء العينين .. صبوحة الوجه .. ولها على الخد الأيسر شامة بحجم العدسة .. وأسنانها بيضاء تفتر عن ثغر جميل خلق للقبل ..
وتظل هذه الصورة فى رأسى مجسمة حية تتحرك ..
***

وفى الصباح وأنا فى طريقى لتناول طعام الافطار فى نفس الطابق الذى فيه حجرتى ..كنت أنظر إلى الأبواب المفتوحة فى الغرف المجاورة لغرفتى .. وألاحظ النساء على الأخص .. الرائحات والغاديات فى الطرقة .. وأسمع الأصوات ، وأحدق فى الوجوه .. لعلى أهتدى إليها ..
***

كان بالغرفة التى على يمين غرفتى ثلاث مضيفات فى شركة الطيران اليابانية .. وكن فى سن متقاربة لا يتجاوزن العشرين .. أنيقات فى زيهن الأزرق وقبعاتهن الصغيرة الزاهية .. وكان نطقهن للإنجليزية بارعا كأنهن إنجليزيات ، فاستبعدتهن تماما من الصورة ..
ثم شقراء بين بين الألمانية والبولندية .. وكانت تقيم وحدها فى الغرفة التى تلى غرفة اليابانيات .. وكانت جامدة الملامح رصينة ، وما أحسب أنها تفكر فى مثل هذا العبث فاستبعدتها أيضا ..

وسيدة هندية خمرية اللون ، طويلة الشعر ، تلبس السارى الهندى ، ومعها زوجها يرافقها ويلازمها ملازمة الظل .. وبعد مشقة سمعت صوتها ونطقها بالإنجليزية فاستبعدتها على التو ..
ثم سيدة روسية نصف .. يعنى فى منتصف العمر .. تشغل الغرفة الرابعة فى نفس الصف ولعلها رسامة جاءت إلى العاصمة فى مهمة عمل .. وهى تتحرك فى ملابس الروسيات الثقيلة ، ومستعدة للثلج وعواصف الشتاء ، وتراها دائما فى معطفها المبطنة بالفرو ووشاحها الصوفى وقبعتها الزرقاء .. تراها دائما فى هذا الزى الكامل فى الكافتيريا وفى البهو .. وفى قاعات الاستقبال .. وكانت صارمة الملامح عادة .. ولعلها مهندسة معمار ..
ولم أسمعها تنطق قط بغير اللغة الروسية فاستبعدتها على الفور ..
ثم سيدة عجوز وزوجها الكهل .. ومعهما ابنة شابة ومن حوارهم بالإنجليزية عرفت أنهم من الأمريكان فاستبعدت العجوز وابنتها لنطقهن ..
ثم شابة رأيتها فى الطرقة تتحرك على كرسى بعجل .. وتدفعها أمها .. ولم أسمعها تنطق .. وكانت تقيم هى وأمها فى الحجرة المواجهة لحجرتى .. وكانت الفتاة ضاحكة السن وتحدق بضراوة فى كل الوجوه التى تمر أمامها فى الطرقة بعينين نجلاوين متطلعتين ..
ثم سيدة جديدة فى مقتبل العمر ، رأيتها لأول مرة تضع المفتاح فى الباب المجاور لباب الفتاة الكسيحة .. ولم أسمعها تنطق بأية لغة وكانت صامتة وقلقة ويبدو على وجهها الأسى ..
واستبعدت النزلاء من الرجال الكبار والصغار فى الطابق الذى أقيم فيه وفى كل الطوابق .. فإن أصوات الرجال واضحة فى سمعى ومن السهل تمييزها مهما حاولوا تقليد النساء ..
وهكذا بقيت فى هذا الفندق الضخم أسمع الرنين ولا أهتدى لصاحبته .. وأنتظر أولجا لتأخذنى إلى بيت دستويفسكى لنطلع على المخطوطات ..
ولكن أولجا حبستها الثلوج فى تفليس وبقيت فى الفندق أسمع الرنين ..
وبعد تفكير طويل ، وبعد النظر فى كل الوجوه ، حصرت العابثة فى فتاة من عاملات الفندق .. وهى التى تعرف رقم التليفون فى غرفتى وتسلى نفسها فى الليل الطويل بهذا العبث ..
***

وفى قاعة البريد الملحقة بالفندق .. جلست أكتب رسالة لأولجا أعرفها بموقفى وحبسى فى الفندق وأغفر لها تأخيرها .. وعدم استطاعتها الحضور .. لأنى أعرف مقدار ما سقط من الثلوج فى قريتها .. وقلت لها بأنى مضطر للعودة إلى موطنى بعد الثامن عشر من يناير .. إن لم تستطع هى الحضور قبل ذلك .. وأعدها بأن أحضر مرة أخرى فى بشائر الصيف ..

وقبل أن أضع الرسالة فى المظروف .. وجدت عينين تحدقان فى وجهى من الكرسى المقابل على نفس المائدة ..

كانت سيدة طويلة نحيفة القوام سوداء الشعر جميلة ناعمة البشرة .. ناعمة البسمة .. وكل ما فيها ناعم رقيق ..
ولكن الوجه بكل ما فيه من جمال وتألق كان قلقا ..
والقلق هو الذى جعلها تحدق فى وجهى لأنها قرأت فيه القلق الذى فى نفسها ..
وتبادلنا بالإنجليزية كلمات قليلة عن الرسائل وطوابع البريد ومتى تفرغ صناديق البريد التى فى داخل الفندق ..
ودون أن توضح لى حالها تماما أدركت أنها تنتظر رجلا .. وأنا انتظر أولجا ..
والرجل حبيبها ولكن أولجا لم تكن حبيبتى .. أولجا مشرفة على بحث أدبى يشغل وقتى وحياتى ..
***

وأصبحنا نتقابل عرضا دون اتفاق سابق فى المطعم ، وفى ردهات الفندق وفى الصالة الكبيرة وأمام أبواب المصاعد .. وحدثتنى أنها كانت فى الطابق الثالث فلما خلت غرفة فى الطابق التاسع انتقلت إليها .. لأنها تود أن تمتع نفسها بالتطلع إلى المدينة من هذا الارتفاع الشاهق وترى الثلج المتساقط وهو يغطى الشوارع والميادين ويتراكم على أسلاك التليفون والبرق .. وترى العصافير وسط هذا الجوالثلجى وهى تحط آمنة على أغصان الشجر ..
وترى العاملات فى الليل يجرفن الثلوج تحت أنوار المصابيح التى غشاها الثلج فغدت تعكس كل الأضواء التى فى قوس قزح ..
واعتادت أن تستيقظ مبكرة .. كما أفعل .. فنذهب معا إلى الكافتريا لتناول طعام الافطار قبل أن يزدحم المكان بالنزلاء .. ونجلس إلى مائدة لا نغيرها ولم يكن بيننا بعد أسبوع من اللقاء المتصل ما يسمى بالحب أو حتى بالصداقة .. وانما كان مجرد ألفة أو لقاء بين غريبين أحسا معا بالأمان فى هذا اللقاء .. وقتل السأم فى محبس الفندق ..
وكان القلق قد أخذ يتبدد تماما .. سواء أقدم الرجل الذى تنتظره أم تخلف .. فإنها قد زارت موسكو كما تزورها كل عام .. وشبعت منها وفى هذا الكفاية ..
وكان الحال كذلك بالنسبة لشخصى فسواء أجاءت أولجا أم تخلفت فإنى قد اطلعت فى المكتبة على مافيه الكفاية .. وتكفى زيارة واحدة فى الصيف لانهاء البحث جميعه ..
وفى صباح يوم رأيت الشمس فيه طالعة .. قلت لها :
ـ الشمس اليوم تغرى بالخروج .. فهل ترافقينى إلى الجوم ..
ـ بكل سرور .. فى أى ساعة تود ذلك ..؟
ـ بعد الغداء .. والأحسن أن أتلفن لك .. لننزل سويا ..
ـ هذا أحسن .. وخذ رقم تليفونى ..
وقلت لها بعد أن دونت الرقم :
ـ وأنا سأعطيك تليفونى ..
ـ أنا أعرفه ..
فحدقت فيها باندهاش ..
إنها تتكلم الإنجليزية بطلاقة فهل هى التى كانت تدق علىَّ فى الليل وتغير لهجتها لتخفى شخصيتها .. وإذا لم تكن هى فلماذا انقطع الرنين بعد أن التقينا ..؟
سبحت فى بحر من الغموض .. ومع ذلك فإنه من السهل عليها أن تعرف رقم تليفونى مادامت قد عرفت رقم غرفتى .. وتكفى نظرة سريعة فى دليل الفندق ..
وتحت تأثير هذه الخواطر ، ازدادت رغبتى فى أن أسمع صوتها فى التليفون لأبدد هواجسى .. فلم أطلبها وطلبتنى هى .. وسمعت صوتها .. كان مختلفا تماما عن الصوت الذى أسمعه فى نصف الليل .. ولكن فيه نفس الغنة .. يا لحيرتى ..
***

ذهبنا إلى الجوم متلاصقين فى الأتوبيس ولما دخلنا من باب هذه السوق الكبيرة شعرت بالزهو وهى بجانبى بفرائها ووشاحها ورشاقتها وجمال قوامها ..
وعندما كان الزحام الشديد يفرقنا عن بعض .. كانت تبحث عنى والخوف يطل من عينيها .. فسألتها :
ـ لماذا الخوف .. لست بالطفل ..
ـ أخشى أن تتوه .. ولن تجد شخصا يعرف الإنجليزية ويدلك على الطريق إلى الفندق ..
وكان هذا الخوف يدفعها لأن تلتصق بى عندما كان الجمهور يجرفنا فى ممرات السوق الضيقة .. أصبحت تمسك بيدى فى كل خطوة ..
واشترينا القليل .. اشترت وشاحا لبنتها .. وعرفت من هذا أنها متزوجة .. ولم أسألها عن زوجها إن كان حيا أم ميتا ..
وفى مصعد الفندق .. صعدنا وحدنا إلى الطابق التاسع .. وأحسست برغبة شديدة فى أن أقبل عينيها وخديها وثغرها .. وأمرغ وجهى فى صدرها .. وكانت فتاة المصعد لاتحول بيننا وبين فعل ذلك ولا شأن لها بعواطفنا ..
وعلى باب حجرتها أمسكت بيدها طويلا ثم تركتها .. وكأننى أسحب معها قلبى ..
***

وفى نفس الليلة .. وأنا أتناول من عاملة الفندق المفتاح .. وأستدير لأتجه إلى غرفتى فى الطرقة الطويلة .. سمعتها تنادينى بعد بضع خطوات ..
ـ يا مستر مختار ..
ـ نعم ..
ووقفت وحولت وجهى إليها ..
ـ ترك لك شخص هذه الربطة ..
ـ لى أنا ..؟!
ـ أجل .. وقال للمستر مختار فى الغرفة 926 ..
ونظرت فى الربطة فوجدت فيها زجاجة فودكا و خرطوشة سجائر كنت ..
فقلت للعاملة :
ـ هذه ليست لى لأننى لا أدخن ..
ـ ولكنه تركها لك ..
ـ أنا لاأعرف أحدا فى هذه المدينة وليس لى صديق فيها على الاطلاق ..
ـ ولكنها تخصك ..
وكانت واقفة بجانبى فى هذه اللحظة فتاة الغرف المختصة بجناحنا .. فمددت يدى إليها بالربطة ..
وقلت بالإنجليزية :
ـ خذى هذه الهدية منى .. مادامت زميلتك تصر على أنها تخصنى ..

فتناولتها الفتاة مسرورة وتضرجت وجنتاها وحييتهما ودخلت غرفتى .. وأغلقت الباب ..
وكان الراديو الصغير الموضوع فى حجرتى يذيع موسيقى شجية تهدى الأعصاب .. فسحبته من مكانه ووضعته على منضدة بجانب الفراش .. ودخلت تحت الأغطية ..
***

وفى أخريات الليل استيقظت على حركة فى داخل الغرفة ..
ووجدت الفتاة التى أعطيتها الهدية تحرك الراديو من مكانه .. وقالت برقة لما وجدتنى قد استيقظت :
ـ لقد تركت الراديو مفتوحا ..
ـ شكرا .. وآسف جدا لقد أزعجت النزلاء ..
ـ لا عليك .. والآن نم هانئا ..
وكانت واقفة بالقرب من الفراش وتحدق وتنظر إلى وجهى بحنان .. فأمسكت بيدها برقة .. وتحركت إلى جانبى ..
ولأول مرة أعرف أن معها مفتاحا آخر لغرفتى ..

=================================
نشرت قصة الرنين فى مجلة الاذاعة والتليفزيون 3/4/1976
وأعيد نشرها فىكتاب قصص من روسيا من اعداد وتقديم
على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى مكتبة مصر ط 2003

اسبيرانزا 18/08/2008 21:42

المعجزات السبع
 
حمل البريد الطواف إلى أمين عبد المولى .. وهو قروى من قرية نافع بالصعيد .. ومن أهل الطريقة ..رسالة معطرة من الشيخ رجب شيخ طريقتهم .. يخبره فيها بأنه سيزور القرية يوم الخميس ..

وسرى الخبر فى القرية مسرى النار فى الهشيم .. وانتقل منها إلى القرى المجاورة ، فقد كان الشيخ رجب مشهورا فى المنطقة كلها ومعبود الجماهير .. وكان يتفضل عليهم بهذه الزيارة كل ثلاثة أعوام مرة .. مرة واحدة .. ليباركهم ويريهم من معجزاته ..

وفى ميعاد وصول القطار ، وقف أكثر من مائة قروى فى محطة أسيوط فى انتظار الشيخ .. ومنهم من لم يدخل محطة حديدية طول عمره .. ولم يركب قطارا فى حياته .. فاضطربوا والتصق بعضهم ببعض على الرصيف .. وأصبحوا كالقطيع قبل أن يدخل السلخانة للذبح .. يرفعون رؤوسهم ويتصايحون ويتدافعون بالمناكب .. وقليل منهم الذى تسلق الكوبرى ليصل إلى الرصيف الآخر حيث يقف القطار ..

وكان القطار يدخن ويصفر .. كأنه يشعرهم بأنه يحمل الشيخ الكبير ..

ومع ذلك لم يجد القرويون الشيخ على الرصيف .. ولم يروه وهو ينزل من القطار .. وإنما وجدوه بعد أن أعياهم البحث خارج المحطة واقفا بعباءته الفضفاضة .. كأنما هبط عليهم من السماء ..

وسأله أحدهم :
ـ أنت جيت فى إيه يا سيدنا الشيخ ..؟
وابتسم ابتسامته المعروفة .. ولم يرد على السائل ..
وصاح أحد الاتباع :
ـ صلى على النبى .. يا جدع .. صلى ..

وصلى الجميع .. وكبروا واهتزت للمعجزة الأولى أسلاك البرق .. فقـد خطى الشيخ .. جاء من القاهرة إلى أسيوط .. أسرع من الصوت .. فى أجواز الفضاء ..

وخرجت الجموع من المحطة .. ولم يركبوا سيارات لأن الشيخ كان يلذ له أن يسير على رأس هذه المظاهرة فى قلب المدينة .. ليراه الناس ووراءه هذا الجمع الغفير ..
***

وبعد أن خرجوا من المدينة ركبوا مركبا كبيرا يعبر بهم النيل ، لأن القرية على العدوة الأخرى .. ونشرت المركب شراعها وانطلقت .. ولكن الجو كان حارا .. والريح ساكنا .. وكان التيار يجذب المركب إلى الوراء .. أكثر مما يدفعها القلع إلى الأمام ..

وظهر الضجر على وجه الركاب .. ونظروا إلى الشيخ ينتظرون منه المعجزة ..

ورفع رأسه ومد بصره .. فرأى السحب تتفرق من بعيد مؤذنه بمقدم الريح .. فأخذ يتمتم ووجهه إلى السماء .. ثم وضع يده اليمنى فى الماء .. وحرك شفتيه ..

وهبت الريح وشال القلع .. وشقت المركب التيار .. وصاح أحد الركاب :
ـ صلوا .. على النبى .. صلوا ..
وكانت المعجزة الثانية ..
***

وعندما بلغوا الشاطىء ، كانت القرية كلها تستقبل الشيخ .. وكل واحد يحاول أن يقترب منه ويلمس ثوبه لتحل عليه البركة .. وخرج المريض العاجـز .. وحتى المشـلول .. والمقعد حمل على الأكتاف .. ليرى الشيخ .. وينتظر البركة .. وخرجت العاقر .. والمطلقة .. وذات الضرة .. والتى تلد الأناث .. والمتزوجه كهلا .. خرجن ليلقين الشيخ .. ويتمسحن به .. ويطلبن الأمانى والأحلام .. ومر الشيخ وهو سائر فى الطريق على مسطاح رجل .. وكان قد كوم الغلـة فى الجرن .. ووضع عليها القلة الفخارية .. وابتدأ فى الكيل ..

ونظر الفلاح المسكين إلى الشيخ الوقور .. ذى الذقن الطويلة والعباءة الفضفاضة .. نظرة المسكين إلى نبى ..
وصاح :
ـ باركنا .. يا سيدنا الشيخ .. باركنا .. وسيدى جلال تباركنا ..

ومال الشيخ على المسطاح .. ووضع يده فى الغلة .. وعندما كال الفلاح الغلة .. أتى الفدان بثمانية عشر أردبا ..

وتطايرت المعجزة الثالثة .. ورقص الفلاحون وهللوا .. ونسى هؤلاء البسطاء المساكين .. أن زراعة هذا الفلاح فى العام السابق أتت بأكثر من ثلاثين نقيصة للفدان .. وأنه أحسن من يزرع الأذرة من الفلاحين ..
***

ومر الشيخ على وابور الطحين .. وكان الوابور يعاكس ويتعطل كثيرا .. حتى أتعب صاحبه .. وأخيرا جاء له بمهندس المانى .. ففكه كله وربط العدد من جديد ..

وفى اللحظة التى مر فيها الشيخ على الماكينة وكانت تحت الجسر وألقى نظرته عليها .. كان العادم يخرج من الماسورة .. وصوت الماكينة .. يتك ..
وانطلقت المعجزة الرابعة أسرع من سابقاتها ..
***

وعندما دخل القرية كانت الطبول تدق والمزامير تزمر .. والرايات مرفوعة .. واشتد التصاق الفلاحين به واحتشادهم حوله .. ورآهم يتنازعون على أول من يتشرف بزيارته .. ويتقاتلون ..

وأطرق الشيخ ثم رفع رأسه كأنه يستلهم الوحى ..
وقال :
ـ سأدخل هذا البيت ..

وعندما كان يشرب القهوة فى فناء البيت .. سمع الزغاريد .. فقد وضعت زوجة صاحب الدار مولودا ذكرا .. لأول مرة فى حياتها .. بعد خمس بنات .. وجاء والد المولود .. يقبل أقدام الشيخ وهو يدفعه عنه فى تواضع الانبياء ..

وطارت المعجزة الخامسة وحلقت فى الأجواء .. وهبطت على كل قرية فى المديرية جمعاء ..
***

وطاف الشيخ بالقرية ومعه الامانى المعسولة .. وأحلام اليقظة .. وكان الشيخ يوزع بركته بالتساوى على الجميع ..

وظل الشيخ يطوف بالقرية حتى جاءت صلاة العشاء فصلوا وراءه فى المسجد ..

وبعد الصلاة .. مدت موائد الطعام فى الساحة التى اختارها الشيخ للذكر ..

وكان كل فلاح يتسابق بما عنده .. ذبحوا العجول والخراف وقدموا الفت والثريد والفطير .. على الطبالى .. ورفعوا المشاعل وجلسوا يأكلون .. ما لذ وطاب ..

وكان الخروف الذى على مائدة الشيخ تتصاعد منه رائحة زكية .. ولا ينقص أبدا .. شهد بذلك الجميع ..

والقلة التى رفعها إلى شفتيه شرب منها مع الحاضرين .. وظلت ممتلئة .. كما هى ..

وهكذا انطلقت المعجزة السادسة تسابق الريح ..
***

وبعد العشاء .. والشاى الأسود .. بدت حلقة الذكر فى الساحة ، ووقف الشيخ فى وسط الصف وحوله أتباعه ومريدوه .. وفى صفوف وراءهم وقف الفلاحون ..

وابتدأ الذكر بهمهمة لامعنى لها .. ثم بتمتمة .. ولم يكن اسم الله يذكر على لسان ..

ثم ابتدأ الطواف .. والزبد على الشفاة .. والصراخ .. ولوثة المشعوذين .. وكان الشيخ يرتفع بجذعه وينحنى حتى تلامس رأسه الأرض ..

وعندما كان يرفع رأسه كان يرى القرويات على سطوح المنازل متحجبات وسافرات يشاهدن الذكر ويتهامسن ..

وكان الشيخ عندما ينفرد نظره بمليحة منهن كان يطيل النظر إليها ثم يغلق عينيه كأنه يسبح ..

وشاهد فى المنزل المواجه له صبية فى جمال القمر .. وعندما انتهى الذكر بعد منتصف الليل .. وأخذ الفلاحون يتنازعون على البيت الذى ستحل فيه بركة النوم ..

قال لهم الشيخ :
ـ الجار أحق بالتشريف ..
واختار بيت الصبية لينام فيه ..

وكان البيت لقروى متوسط الحال .. ورث من أبيه فدانين وتزوج من هذه الصبية الحلوة .. لينجب ويأتى بالوريث .. ولكن بعد زواج أربع سنوات .. لم يأت الوريث .. وكان المسكين قلقا .. ومتبرما .. وعرض نفسـه على جميع الأطباء فى المدينة .. وحمل جميع أنواع الأحجبة .. دون نتيجة ..

وطار قلب الفلاح من الفرح عندما دخل الشيخ بيته .. وتجمع الناس حول الدار .. ولكن الاتباع صرفوا الناس لينام الشيخ .. فى هدوء ..

وحرصا على راحة الشيخ ترك الفلاح القاعة العلوية للشيخ .. ونزل لينام وحده فى الفناء ..

وظلت الزوجة الصبية تخدم الشيخ وتقدم له الماء فى الابريق ليتوضأ ويصلى الفجر .. وهى جالسة أمامه .. وكان هو يمسح على جبينها وشعرها ويتمتم ثم أخذ يباركها على طريقته ..
***

وارتفعت شمس الضحى .. وحلت صلاة الجمعـة فى مسجد القرية .. ولم يحضر الشيخ الصلاة ..

وقال الفلاحون :
ـ انه يصلى فى الكعبة ..
وجاءت المعجزة السابعة .. متأخرة .. قليلا فقد حملت توحيدة زوجة الفلاح العاقر الذى باركه الشيخ ونام فى بيته .. وتأكد الحمل بعد ثلاثة شهور من سفر الشيخ ..
وطبلت القرية كلها ورقصت لهذه المعجزة لأنها كانت أروع المعجزات ..

====================================
نشرت القصة بصحيفة الجمهورية 11/11/1954
وأعيد نشرها فى مجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان الزلة الأولى و قصص من القرية ـ مكتبة مصر 2006

اسبيرانزا 18/08/2008 21:43

العذراء والوحش
 
كان الخواجة لمبو يملك فندقا جميلا على ترعة الإبراهيمية قريبا من شريط السكة الحديد ..

وكان للفندق حديقة مزهرة .. يجلس في ظلها النزلاء بالنهار .. وفي الليل كانت تتحول إلى مرقص ..

وكان لمبو يجلب لهذا المرقص أشهر الفرق الراقصة من القاهرة والإسكندرية وفيها أجمل الراقصات في دنيا الفن ..

وكان المكان يضيق على سعته .. بالعمد والأعيان والوجهاء من منطقة الصعيد كلها من حدود الروضة حتى سوهاج .. وكانت الأكف تضيق من التصفيق .. وأوراق البنكنوت من الفئات الكبيرة .. فئات العشرة جنيهات والخمسين جنيها تحرق تحت أنفاس الغانيات ..

كان كل رجل ينافس غريمه في إرضاء الغانية الأولى في الفرقة .. البريمادونا .. ليفوز بها في آخر الليل ..

وكانت زجاجات الخمر .. تفيض من الكؤوس المترعة على الموائد والمفارش .. وعلى سجاد الأرض مختلطة بأعقاب السجائر ..

وكان الدخان الذي يملأ سماء المكان يزكم الأنوف ويدمع الأعين ويهيج الصدور .. ويتحول إلى كثف من الضباب .. ولكن الجالسين في المكان كان إحساسهم متبلدا من فرط الصخب والضجيج .. فلا يحسون بهذا الاختناق .. وما هو شر منه .. لأن كل شيء ينسى في غمار الأجسام العارية التي كانت تتلوى .. وتتثنى على المسرح ..

ويحدث في كثير من الحالات .. أن تقف راقصة على حافة كرسي من الخيزران .. ترقص رقصا مثيرا .. وفي كل حركة بالبطن .. ولفتة بالعين .. وغمزه بالحاجب .. يتطاير طربوش .. أو تسقط لبدة على خشبة المسرح .. أو تتكور عمامة ..
ثم يبدأ التنافس المروع على حرق أوراق البنكنوت ..

ويخيل إليك وأنت تشاهد أوراق البنكنوت بالخمسين جنيها .. تمتد بها الأيدي لتشعل سيجـارة لراقصة .. لا تساوى مليما واحدا في الآدميين .. انك تعيش في مستشفي المجـاذيب .. ولكن هـؤلاء المجاذيب .. كانوا هم في الواقع الحكام الحقيقيين للإقليم ..

وكانت محادثة تليفونية بسيطة من واحد منهم .. تطير المدير .. ونظرة غضب تطيح بالحكمدار ..

وكان الواحـد منهم يأتي إلى البندر في موكب مسلح من العبيد ..

فإذا رأى الراقصـة التي يشتهيها .. تجالس آخر .. أو تساقيه الخمر .. يتطاير الشرر من عينيه .. ويبدأ أمامها في عرض جبروته وثروته .. بصورة مثيرة تثير الفزع حقا ..

يأمر بصوت جهوري .. أن تفتح جميع زجاجات الويسكى .. وتوزع على حسابه على جميع الحاضرين .. ليموت غريمه من الغم ..
أو يحـرق ثلاث أوراق من فئـة الخمسين جنيها لثلاث راقصات معا ..

وكانت إذا اشتدت المنافسة وتحول الكلام إلى نار .. يتدخل الخواجة لمبو .. بلباقته .. وابتسامته .. ويوزع الغانيات .. على المتنافسين ..

وكان الفندق يتحول في آخر الليل .. إلى وكر رهيب للملذات ..

وكان المال الذي يتدفق على لمبو .. يجعله قادرا على أن يغمض كل العيون ويخرس كل الألسنة ..

***

ثم هبت الريح العاتية .. وطار ورق الحديقة .. وعرى الشجر .. وقوض المرقص وانقطع العمد والأعيان .. وتحول الذهب إلى تراب .. وأصبح الخواجة لمبو لا يستطيع أن يدفع أجر ثلاثة من الفراشين هم كل من بقى من العمال في الفندق ..

وفي خلال تلك الفترة العصيبة ، ماتت زوجته .. وتركت له بنتا وحيدة في الخامسة عشرة من عمرها .. وكانت تتلقى العلم في مدرسة أجنبية في ملوى .. فلما انتهت من دراستها الثانوية .. أشارت عليها خالتها ماريكا بأن تأخذها معها إلى أثينا لتدرس الطب ..

ولم يكن في أثينا طب مشهور حتى تذهب إليه .. أورانيا ولكن الرجل وجد نفسه وجها لوجه .. أمام مشكلة لم يكن مستعدا ولا قادرا على مواجهتها وحده .. فترك الفتاة مع خالتها وسافرت بها ..

***

ولما عادت أورانيا بعد ثلاث سنوات .. لم تكن قد حصلت على إجازة تؤهلها لمزاولة مهنة الطب .. في مصر .. ولكنها حصلت على شىء آخر .. حصلت على جسم .. يفوق كل الأجسام .. التي كانت تتثنى على مسرح الفندق ..

وعندما دخلت الفندق .. لم يكن به أكثر من خمسة من النزلاء .. منهم موظف واحد يقيم بالشهر .. وبائع متجول يغدو .. ويروح .. ورجل عجوز من سكان القاهرة .. كان يجىء في فترة الإيجارات ليجمع إيجار الأرض .. ويبيع ما استطـاع من أملاكه .. فقد مرض مرضا شديدا .. توقع بعده الموت في كل لحظة .. وكان يجب أن يتخلص مما عنده قبل أن ترثه وزارة الأوقاف ، فلم يكن له وريث غيرها ..

وكانت مدخنة الفندق تدخن في الفترة التي يقضيها السيد عصام في الفندق .. فهو يصرف على طعامه وشرابه عن سعة وفي إسراف ..

وكان عصام قد اعتاد أن يشرب في مجلس من الصحاب ليتحدث ويضحك .. كما يفعل في الباريزيانا ..

ولكن كيف يجد الصحاب في الصعيد .. وهو غريب عن المدينة .. فكان يجالسه لمبو في وقت فراغه وتجالسه أورانيا .. كذلك ..

وكان هناك شخص في المدينة يتردد على الفندق في ساعة معينة كل ليلة ..

كان زكى نديم الأثرياء والوجهاء في حانة الفندق .. فلما ذهبوا ولم يعد يراهم أصبح يتجول في المدينة كل ليلة ويدخل كل حانة كانوا يترددون عليها ، وفي ساعات الليل التي ألف أن يراهم فيها ..

وكان يعرف أنهم ماتوا .. وأنهم ذهبوا إلى غير رجعة .. ولكنه .. كان يكرر الجولة .. في كل ليلة .. كأنه يتوقع عودتهم فجأة .. أو كأنه يعجب للقدر .. الذي انتزع منـه رزقه مرة واحـدة .. في قسوة شديدة ..

أو كأنه .. يقول للجالسين وهو داخل عليهم .. ألا تعرفونني ..؟ أنا نذير لكل السكارى ..

***

وذات ليلة لمح زكى أفندي .. السيد عصام جالسا إلى مائدة وأمامه الكأس .. فجلس بجانبه ومن وقتها أصبح جليسه .. ولكنه كان يجلس منكمشا طاويا قفطانه على ركبتيه .. وضاما جبته على صدره .. ومرسلا طربوشه إلى أسفل ..

وكان من نزلاء الفندق نزيل آخر رجل في الستين من عمره .. وكان من أصل شركسى وموظفا في أحد التفاتيش ، فلما استولى الإصلاح الزراعي على التفتيش بقى في مكانه .. وأقام بصفة دائمة في الفندق .. وكان الرجل .. مغرما بالكلاب .. يعيش معه كلب منذ سنوات طويلة .. وكان يلازمه ملازمة الظل ..

ولم يكن حسين .. يؤدى أي شيء خلاف رياضته للكلب .. كان ينطلق به في الصباح بين المزارع .. حتى يخرج من البلدة ..

وفي العصر يجول به نفس الجولة .. وكان الكلب .. في الواقع مدربا .. كأحسن كلاب الحراسة .. ويربض في الحديقة .. أو يدخل طرقات الفندق .. وينام في أى مكان يختاره .. أصبح مألوفا لدى الجميع وكأنه نزيل من النزلاء ..

وكان في الواقع يحرس الفندق كله .. ومع أنه كان شرسا إلى حد التوحش إذا أحس بحركة في المزارع القريبة أو سمع دوى الرصاص .. ولكنه كان في داخل الفندق لاينبح قط .. وكان يوجه إلى الداخل الغريب نظرة صارمة .. ثم يقعد .. واضعا رأسه بين رجليه ..

وفي الفترة التي كانت تقوم فيها ابنة صاحب الفندق بالعمل في المطبخ كانت تقدم له قطع اللحم .. والثريد .. وإذا عاد من جولة في الخارج وهو يلهث من الحرارة قدمت له مايرطب حرارة جوفه .. وأصبحت بينهما ألفة .. زائدة ..وكان الكلب إذا شاهدها من بعيد يبصبص بذنبه .. ثم يقف ينتظرها وكأنه يرحب بها .. فإذا جاءت إليه انطلق بجانبها .. وهو شاعر بالمرح والنشاط ..

وكان الفندق في العام المنصرم .. قد بدأ في الانتعاش .. وفي خلال موسم القطن كان يأتي إليه بعض النزلاء .. ثم يرحلون ..

وكان لمبو .. وقد ابيض شعره .. يجلس إلى الصالة المغطاة بإعلانات الخمور وحيدا .. وتكون ابنته قد فرغت من عملها .. وذهبت لتنام ..

يجلس في الركن .. يسترخى ويتـذكر .. يتذكر .. الرقص والأغاني .. والصاجات والشمبانيا .. وأوراق البنكنوت المحترقة .. والذهب الذي كان يتدفق عليه ويشعر بهزة ويتساءل لماذا ذهب هذا كله مرة واحدة .. لماذا ذهب ..؟ الأنه كان يسير في طريق معوج .. ويجمع المال بكل الطرق غير الشريفة ..؟ الأن الفندق كان ماخورا ..؟ ما أكثر المواخير الباقية ..

ولماذا هبت عليه العاصفة .. وحده .. لماذا ..؟ وكان ينظر إلى ابنته .. وقد غدت أنثى ويتصور أنها واقفة في الصالة الخلفية تتثنى .. وقد خلعت ملابسها قطعة قطعة .. كما كانت تفعل نرجس وعزيزة .. وباتريشا .. وأولجا .. من سنوات .. وعرق جسمه وأحس بالأرض تدور به .. ونهض بعد أن أفاق ليشغل نفسه بأي عمل ..

***

وحدث ذات مساء .. وكان أحد الأعيان قد شاهد أورانيا .. جالسة في الحديقة ورأى فتنتها وجمالها ..
أن قال للخواجه :
ـ إيه .. يا خواجه لمبو .. الحاجات الحلوة اللي نازلة عندك دى بتفكرنا .. بأيام زمان ..
فأحمر وجه لمبو ولم ينبس ..

وهمس الوجيه في أذن لمبو .. وهو صاعد إلى غرفته ..
ـ أبعتها مع عبده .. ومعاه زجاجة ويسكى .. واللي أنت عاوزه خده ..

فأحمر وجه لمبو وسقط رأسه على فكه ..
ـ إيه ..؟
ـ دى .. بنتي .. يا توفيق بيه ..
ـ بنتك .. عندك بنت حلوة كده ..؟ وكانت فين ..؟
ـ في أثينا ..
ـ جوزها .. حالا ..
ـ هيه .. عاوز يشتغل .. مش عاوز يجوز ..
ـ جوزها .. أولا .. دى خسارة ..
وصعد توفيق إلى غرفته آسفا .. وكان الخواجة لمبو .. في الواقع .. يريد أن يزوج أورانيا .. ويستريح ـ كأب ـ من مشكلتها ..

***

ومادام يعيش في الفندق فإنه لم يكن في حاجة إلى رعاية من المرأة .. لأن الخدم يقومون بطعامه وكل ما يحتاجه ..

وفي خـلال تفكيره .. في كوستا .. ابن مخالى .. كزوج مثالي لابنته .. أورانيا هبط نزيل جديد على الفندق ..

وكان سالم شابا في الرابعة والثلاثين من عمره .. وكان يعمل في الصباح فقط .. ويقضى بقية النهار والليل في الفندق ..

وفي خلال الأسبوع الأول من نزوله المدينة .. لم يشاهد في صحبة أحد .. وكان في الفنـدق يجلس وحيدا في المدخل .. وبيده مجلة مصورة .. قد تلوثت وتمزقت من الجوانب من عرق يديه ..
ولم يكن قصير القامة .. لكنه كان ينحنى بجذعه ويميل إلى الجانب الأيمن في مشيته فيخيل لمن يراه على هذه الحالة أنه قصير وأنه أحدب ..

وكان أول من يعود من النزلاء إلى الفندق في ساعة الغداء .. ويرى أورانيا في المطبخ .. أو جالسه بجانب والدها .. على الخزانة .. ولكنه لم يكن يوجه إليها أى كلام .. أو يبادلها أى تحية .. وقد حيته مرة .. بلفظة .. بنجور .. فلم يرد عليها .. وخرس لسانه في حلقه .. ومن وقتها لم تكلمه أبدا ..

وفي الليل .. كان يجلس منزويا في الحديقة ويرى أورانيا وهى جالسة تتعشى وتشرب مع السيد عصام .. وقد وضعت ساقا على ساق .. حتى كشفت عن فخذيها فكان يحس بمثل السعار .. ويعود منكمشا على نفسه ..

وكان يسهر وهو جالس في الحديقة وحده .. حتى لا يبقى أحد من النزلاء ..

فإذا وجده لمبو .. جلس بجواره قليلا .. يحادثه ولكن سالما في الواقع كان لا يستمع إلى ثرثرة لمبو ..

كان يرى أورانيا .. من بعيد .. وهى رائحة غادية في طرقات الفندق .. ثم تغيب عن بصره ..

***

وذات ليلة سمع صوتها وهو متمدد على السرير .. تحادث شعبان الفراش .. فتلفت وتسمع كالثعلب ..

ولما خرج شعبان سمعها تغنى قريبا منه .. فأيقن أنها بجواره .. في الغرفة الملاصقة له تماما .. وأحس برعشة .. ونهض .. ووضع أذنه على الحائط .. ودار برأسه في الغرفة .. يتفحصها .. فرأى لأول مرة أن الدولاب الذي في غرفته وراء باب يفتح على الغرفة المجاورة .. ووضع الدولاب وسمر الباب ليمنع الاتصال ..

ورأى شراعة زجاجية فوق الباب مغطاة بالقماش فدار في الغرفة يفحص كل شىء .. بعين صقر .. وقلبه يرتجف .. ثم سحب كرسيا .. وطلع من فوق الدولاب يتطلع في الظلام .. من الشراعة .. واستطاع بعد مشقة .. وبعد أن فتح ثغرة بأظافره وأسنانه في القماش أن يرى أورانيا .. في الغرفة المجاورة ذاهبة رائحة في الغرفة بقميص النوم وهي تنحني ..
ثم تنهض كأنها تبحـث عن شيء سقط منها .. قريبا من مائدة الزينة ..

***

وفي الليلة التالية .. حبس سالم نفسه في غرفته من الساعة الثامنة مساء .. وكان الصيف .. في حميمه والحر شديدا .. فحبس نفسه داخل الجدران .. في الظلام وأغلق النافذة الخشبية حتى لا يتسرب أي ضوء من الخارج .. وليكون الظلام على أشده .. وصعد إلى الشراعة ليوسع الثغرة .. ويرى أكثر .. وأكثر .. ولمس .. وهو يفعل هذا مسمارا .. ثم أدرك أن الشراعة .. تتحرك .. وأنها مسمرة من ناحيته فقط ..

***

وفي اليوم التالي جاء بكماشة ونزع المسامير في هدأة الليل .. بعد أن أحكم إغلاق باب الغرفة .. ورد النافذة ..

***

وفي العصر خرجت .. أورانيا من الفندق .. متعطرة وهى في أجمل ثيابها .. كان اليوم يوم أحد .. ورآها سالم وهى تمشى مع سيدتين على الترعة ..
وجلس ساعة في حديقة الفندق ثم خرج يتمشى .. وعاد في هدأة الليل إلى غرفته ..

وأغلق الباب وراءه بالمفتاح .. ورد النافذة الوحيدة .. وجلس يخلع ملابسه في الظلام .. وصعد إلى الدولاب .. وحرك الشراعة فانفرجت .. فأعادها إلى مكانها .. بهدوء ..

وجلس على سريره .. وقد أحس برغبة شديدة إلى التدخين .. فدخن ..

وبعد أن هدأت الرجل تماما .. وانقطع كل حس .. وأطفئت جميع الأنوار في الحديقة .. وبقيت فقط الأنوار الضعيفة التي في طرقات الفندق صعد مرة أخرى .. إلى الدولاب بعد أن تلثم .. حتى لا تعرفه أورانيا إذا كانت متيقظة .. وأزاح الشراعة فانفرجت ونظر إلى الفراش فرأى أورانيا .. نائمة ثانية فخذها .. وقد جعلها الحر الشديد لا تطيق حتى .. قميصها ..

وتصور هذا الجمال الذي سيكون في أحضانه بعد لحظة .. وأغلق عينيه وأخذ يتدلى من الناحية الأخرى بحذر شديد .. وأحس فجأة بكف وحش تضربه بمخالبها في صدره فصرخ وسقط على الأرض ..

وعندما دخل لمبو الحجرة على صياح أورانيا .. كان سالم .. قد استفاق من هول الصدمة .. وأدرك ما حدث .. ولكنه لم يستطع أن يتحرك من مكانه .. لأن الكلب كان رابضا أمامه .. وقد تهيأ للوثوب عليه إذا أبدى أية حركة ..

وعندما مر زكى .. على الفندق في الليلة التالية وجد مائدة عصام خالية ..
فقال باسما :
ـ ذهب أيضا ..

واسـتدار ليخرج فرأى الكلب في جانب من الحديقة رابضا وحده .. وكان حزينا لأن أورانيا .. كافأته على عمله النبيل بطرده .. من غرفتها ..

=================================
نشرت القصة بمجلة الجيل في 5/1/1959 وأعيد نشرها في
مجموعة قصص لمحمود البدوي بعنوان عذراء ووحش وفي مجموعة قصص من القرية ـ مكتبة مصر ط 2006
=================================

اسبيرانزا 18/08/2008 21:45

ليلة فى طوكيو
 
قال الكاتب الأمريكى توماس وولف : إذا أردت أن تعرف « نيويورك » فعش فى باريس ، وفى هذا القول اجتمعت كل الحقيقة .. من المدائن والناس..

وأردت أنا ( والقياس مع الفارق بينى وبين الروائى العظيم ) .. أن أعرف القاهرة فعشت فى « طوكيو » .. وحرام أن تظلم القاهرة فى هذه الأيام ، لأنها تمر بمحنة سوء الإدارة .. ومن هذه النازلة تتفرع جميع المساوئ .. سقطت بعض العمارات العالية فى القاهرة ، والذى شيد البناء ساقط . وكل من كان له اتصال بهذا العمل ساقط .. سقطت هذه العمارات ، ولكن لم تسقط الأهرامات التى شيدت منذ آلاف السنين لم يسقط منها حجر واحد .. ولم تسقط قلعة صلاح الدين .. ولم يسقط القضاء العالى .. سيظل شامخًا لأنه فخر مصر .. ورمز مصر الحضارة ، وحصن مصر الأمين .

حرام أن تقارنها بطوكيو مع التشابه الكبير فى عدد السكان .. وعدد الرءوس التى تتحرك فى الشوارع والميادين .. حرام على قاهرة المعز الشامخة بنيلها العظيم .. وبكل مأَذنها ، وقبابها .. وبهجة أنوارها .. حرام أن تقارنها بطوكيو لأن قاهرة المعز .. غشاوة فى هذه الأيام وبعد أن تنجلى هذه الغشاوة .. قارن ما شئت وقارن .
التقيت بالطبيب اليابانى تاشيو فى مدينة « هانشو » بالصين فى المستشفى الضخم الذى يعالج جميع المرضى بغير عقاقير .. وتحدثنا عن فعل الطبيعة فى جسم الإنسان .. وعن الأفذاذ من الأطباء الذين برزوا فى هذا المجال .. ولما علم بإعزازى « بأكفادن » قربنى إليه أكثر ، ودعانى إلى زيارته فى المستشفى الذى يعمل فيه بمدينة « طوكيو » ..
ووجدته فى انتظارى على باب المستشفى .. ومعه طبيب فى مقتبل العمر فى مثل سنى ، خصصه ليتجول معى فى أرجاء المستشفى لأنه فى يوم راحته ويتقن الإنجليزية ..

وطالعنى وأنا داخل إلى أجنحة المستشفى السكوت المطبق ، ودقة النظام ، واستعمال كل وسائل العلم فى كل خطوة .. ومراعاة خبايا النفس البشرية ومتطلباتها ، فالإضاءة مختلفة فى كل جناح .. وكذلك الممرضة والطبيبة .. فهن مختلفات فى الزى والسلوك ودرجة الجمال ..

وقال لى الطبيب المرافق بعد جولة استغرقت ساعة :
ــ حدثنى الدكتور تاشيو .. برغبتك فى تحليل الدم ..
ــ نعم .. وأرجو هذا ..

ودخلنا فى جناح طويل بلون البنفسج كل ما فيه يلمع .. وقدمنى المرافق إلى طبيبة شابة ..

وخلعت معطفى الأبيض المعقم وجاكتتى وقميصى .. وأسلمت لها ذراعى ..

فقالت برقة :
ــ سنأخذ الدم مرتين .. وبين كل مرة زمن ..

ولاحظت وهى تمسك براحتى أن ظفر الإصبع السبابة .. مهروس ..

فقالت وهى منكسة رأسها :
ــ هناك ظفر جديد ينمو مكان هذا .. انظر ..

فقلت وأنا مأخوذ بعظمة الخالق !
ــ سبحان الخلاق العظيم .. إننا بكل علمنا وتقدمنا فى الطب والجراحة ، والفلك والدوران حول الأرض والصعود إلى القمر .. لا نستطيع أن نخلق مثل هذا الظفر .. وهو أضأل شىء فى جسم الإنسان ..
ــ هذا حق .. فلماذا يشمخ الإنسان بأنفه ويتكبر !!

وقالت وهى تضم ذراعى دون أن تنظر إلى وجهى :
ــ وحدك فى طوكيو .. ؟
ــ نعم ..
ــ أين تقيم .. ؟
ــ فى دايتشى ..
ــ رائع .. هناك الفتيات الجميلات يعملن فى كل الطوابق .. !
ــ ولكنهن ينصرفن فى الليل .. بعد العاشرة !
ــ ويعدن لإيقاظك فى الصباح .. فغيابهن قصير .. !
ــ ولكنى مشغول بعملى إلى درجة تفقدنى كل تسلية ..
ــ مهما يكن عملك .. ولكن خسارة أن تكون بطوكيو .. ولا ترى قصر الإمبراطور .. ولا ترى « جنزا » فى الليل .. ولا تزور « فوجى » ..
ــ زرت هذا كله فى المرة السابقة ..
ــ إذن فقد جئت إلى هنا من قبل .. ؟
ــ نعم ..
ــ لا شك أنك تحب المدينة .. وإلا ما كررت الزيارة ..

وابتسمت بوداعة .. ووضعت عينة الدم مع بطاقة صغيرة باسمى وسنى فى طاقة مستديرة .. ونزل كل شىء بشريط كهربائى إلى المعمل .. وجاءت فتاة أخرى أصرت على أن تساعدنى فى لبس ما خلعته من ملابسى .. وقادتنى إلى حيث يوجد الدكتور .. تاشيو ..

وفى مكتب الدكتور تاشيو .. قال لى ..
ــ سنشاهد معًا .. بعد ربع ساعة عملية تدليك للقلب فى الجناح 21 .. وسيقوم الدكتور هيكامو بعملية فى الكلية .. ويمكنك أن تشاهد هذه العملية على شاشة التليفزيون ..
ــ قد أكتفى بعملية تدليك القلب .. لأن عملية الكلية لا يتسع لها وقتى..
ــ كما تحب .. ويمكنك الاكتفاء بعملية الإعداد للعملية الثانية ، وترى كيف تجهز الغرفة ، وفى هذا فائدة كبيرة لك ..
ــ شكرًا عظيمًا .. يا دكتور لكل أريحيتك وسماحة نفسك واهتمامك ..

وكان مريض القلب سمينًا متوسط القامة ، ويبدو فى الخمسين من عمره .. ولم تكن ملامح وجهه يابانية وإن كان ينطقها ..

ومده على طاولة بيضاء بذراعين ، وهو شبه ميت ، وحوله ثلاثة من الأطباء.. وكانت الأنوار فى زرقة ، وفى الغرفة رائحة أشبه برائحة البنفسج .

ووقفت أنا والدكتور تاشيو فى جانب .. وبدأ مسح الجسم بخفة من يد طبيب شاب ، قصير القامة ، هادئ الملامح والطباع .. ثم قامت طبيبة بعملية تدليك القلب .. ببراعة وسرعة .. وخيل إلىّ من سرعة يدها أنها أخرجت مضخة القلب فى يدها ثم ردتها ..

وتنفس المريض وعادت عيناه تسبحان فى الزرقة .. وأمسكت ممرضة برسغة وجست نبضه ..

وخرجنا إلى بهو جميل التنسيق مزهر .. وقدمنى الدكتور تاشيو إلى الطبيبة التى قامت بالعملية فهنأتها بحرارة ..

وسألتها :
ــ هل كل العمليات ناجحة يا دكتورة .. ؟
ــ بالطبع .. إذا كانت للمريض رغبة فى الحياة !
ــ وإذا لم تكن عنده الرغبة .. ؟
ــ لا فائدة من الطب إطلاقًا ..
ــ ما أعظم حكمتك !

وأصرت على أن تقدم لنا الشاى والفطير .. فى صالة المستشفى العلوية ..

ولاحظت من الوجوه التى التقيت بها فى المستشفى والشارع أن اليابانى سيظل يابانيًا فى خلقه وطباعه وسلوكه العام والخاص .. وأنه لا يختلط بأحد.. ولا يحب الاختلاط بالغريب .. وفى طبعه التفرد .. وهو جم التهذيب وسريع الابتكار والحركة ، كما أنه سريع التحول .. وهو ينحنى لك ثلاث مرات إذا أسمعته كلمة حلوة .. ولكن إذا أغضبته وأهنته طعنك بالسونكى .. والمرأة لاتزال تلبس الكومينو .. وتنحنى فى الشارع للسيدة الأكبر منها سنًا .. وتحمل طفلها على ظهرها بطريقة بديعة .. وتتحدث بصوت ناعم كزقزقة العصافير .. وكعاملة فى المتاجر الكبرى ، والفنادق ، والمطاعم ، وقاعات الشاى تسيل رقة وعذوبة .. وكأنها تخرجت فى مدرسة أعدتها لذلك العمل..

وتمشى الوجى فى الطريق .. يعنى بخطوات قصيرة .. كظاهرة مميزة على النعومة والرقة ، وهما من متطلبات الأنثى ..

ولكنك تشاهد إلى جانب هذه من تلبس الزى الأوربى الخالص .. وتقود السيارة بسرعة 100 كيلو فى الساعة .. والجيل الحديث كله من النساء والرجال يتحدث الإنجليزية .. أما كبار السن فندر منهم من يعرفها .. إلا إذا كان يشتغل بالتدريس ومن أساتذة الجامعات .

وشكرت الدكتور تاشيو .. واستأذنت فى الانصراف ..

فقال لى الدكتور :
ــ أتعرف الطريق إلى الفندق .. ؟
ــ نعم .. لقد جئت وحدى ..
ــ إذا اختلطت عليك المعالم فى الليل .. نستطيع أن نرافقك ..
ــ شكرًا .. طوكيو ليست غريبة علىّ .. أعرفها كما أعرف القاهرة .. وسأركب المترو .. وسينزلنى فى شمباسى ..
ــ نعم .. المترو أحسن من التاكس .. لأن المسافة طويلة ..

وسلمت على الجميع .. واتخذت الطريق إلى المترو .. والليل زحف وخيم .. وسماء طوكيو تموج بالبالونات الزرقاء والحمراء والصفراء ، وهى تتلألأ وتسطع فى كل مكان .. وأينما ترفع رأسك تشاهدها تتراقص .

لم تتغير طوكيو عما شاهدته منذ سنوات .. سوى أن العمارات الحديثة انطلقت إلى عنان السماء .. وكثر هذا فى قلب طوكيو .. ولا تزال فى أطراف المدينة المنازل الخشبية القديمة من طابقين ومن طابق واحد .. وهنا يبرز الكومينو فى الطريق والبيت .. ويعد أجمل اجتماع على شرب الشاى ..

المستشفى يقع فى حى هادئ وعلى طريق جانبى ، ولكن لما خرجت منه إلى الطريق العام شعرت بحركة المرور السريعة .. كان المارة يتحركون بسرعة عجيبة ويهبطون من الأفاريز إلى الأنفاق ..

ونزلت درجات قليلة إلى نفق المترو .. ولم يكن فى المحطة أكثر من عشرة أشخاص من الرجال والنساء .. وعللت ذلك بكثرة القطارات التى تمر .

وركبت أول قطار قادم .. ويبدو أنه أحدث القطر التى سيروها على الخط.. فقد كان متأنقًا متألقًا وفخمًا .. ومقاعد العربة من القطيفة الزرقاء ، صفت فى صفين .. المقعد المفرد .. ومن هو على شكل كنبة طويلة .. فاخترت المفرد .. ولم يشعر بدخولى الركاب .. لانشغالهم بحالهم .. وللسكون المطبق على العربة .. وفى المحطة التالية ركبت جماعة امتلأت بهم المماشى .. وما جلسوا حتى عاد السكون .. وبرز راكب واحد من بين ركاب العربة جميعًا .. أحس بوجوده كافة الركاب .. فقد تمدد على كنبة طويلة شغلها وحده .. ومد حذاءه فى وجه الركاب جميعًا .. وبدأ يهذى بصوت عال .. وبكلمات غير مفهومة .. كان فى أقصى حالات السكر .. ويرتدى بنطلونًا غامقًا وصدارًا من الصوف فى لونه .. وكان فى قامة اليابانيين .. ولكنه ممتلئ الجسم بادى العضلات كأنه صب فى قالب صبًا ، وخرج على هذا الطراز المتماسك .

وظل يهذى والعينان تقدحان بالشرر وفى جلسته وكلامه وقاحة .. وعجبت لمقابلته بالصمت والسكوت من الجالسين حوله .. وليس من طباع اليابانى الجبن ولا الاستكانة .. فهو أشجع خلق اللّه .. ويهزأ بالموت ، والحياة عنده رخيصة ، ويستهين بنفسه فى لحظات كدرت عليه الحياة وضاق بها ..
شاهدت مثل هذه العربة وهذا المخمور فى فيلم أمريكى .. وقابله الجالسون فى العربة الأمريكية بالصمت الأخرس الذى طال .. ودعا إلى الضجر والنفور والتقزز .. ثم تحرك جندى معوق فى العربة وأسكت هذا المخمور إلى الأبد .

فهل يحدث مثل هذا الآن فى العربة اليابانية التى أركبها .. ؟ حدث أن قال المخمور اليابانى كلامًا أضحك فتاة كانت تجلس إلى مقعد بجانب مقعدى.. فلانت ملامحى لضحكتها .. وضحكت مثلها ..

وانتصب المخمور وهو لا يكاد يتماسك واتجه إلينا وفى عينيه يقدح الشرر الضارى ويبرز الجنون الأعمى ..

وقبل أن يصل إلى الفتاة .. أدركته يد قوية من جالس طرحته أرضًا ..

وكان القطار فى هذه اللحظة يهدئ من سرعته وهو داخل المحطة ، وعندما فتح الباب وتوقف القطار طرح اثنان من الركاب بالمخمور وألقياه على الرصيف .

حدث كل هذا فى خطف البرق وسرعة عجيبة حتى إن نصف ركاب العربة لم يشعروا بالذى جرى ..

وتحرك .. وبدت الأنوار القوية تلمع فى الشوارع وفى سقف العربة ، والكل فى سكون .. وخفت من هذا السكون .. وخشيت أن يكون هذا القطار من الطراز الذى يتحرك من غير سائق .. فأنا منذ ركبت لم أر وجه سائق ولا سحنة كمسارى . واستقر رأيى على النزول فى أول محطة يقف فيها القطار ..

ونزلت والليل من حولى كله ضياء ، والجو رائع منعش .. والبالونات تسبح فى السماء من كل الألوان وكل الأحجام ..

ولزمت الرصيف الطويل متجهًا إلى الوجهة التى أتصور فيها الفندق .. وكلما قابلنى عابر سألته عن الفندق ، وجدته بالمصادفة لا يعرف الإنجليزية .. وتكرر ذلك وأنا أسير فى اتجاه واحد ثم أصبحت أدور وألف وحدى .. وأصبحت المفرد تحت البالونات .. فهل خلت المدينة التى يزيد عدد سكانها على عشرة ملايين من سكانها ومن البوليس .. وهل قادتنى قدماى إلى ضاحية ساكنة جامدة مهجورة من ضواحى طوكيو .. وأنا لا أدرى .. ؟

وشعرت بالخوف يشل حركتى .. وفى مثل خطف البرق لمحت عربة متوسطة من عربات السياحة اليابانية التى يعمل مثلها فى المطار .. فاستوقفتها صارخًا بالإنجليزية .. فوقفت وسألت عن الفندق ..

فقال الراكب الذى بجوار السائق :
ــ انزل واركب المترو .. خمس محطات .. !

وشكرته وأنا شاعر بالغيظ ..

واستأنفت السير وأنا أقول لنفسى ما أشد حماقة الإنسان .. لماذا لا أركب تأكسيًا وأتخلص من هذا الضيق . والمسافة ليست بالبعد الذى أتصوره فالبالونات لا تزال تتموج فوق رأسى والبالونات كلها فى قلب « جنزا » والفندق فى طرف من جنزا .. فلماذا الهلع .. ؟


اسبيرانزا 18/08/2008 21:48

وتخطيت الشارع وقد عاد إلى قلبى وبصرى الهدى .. لأشير إلى أول تاكسى يمر .. وفيما أنا أهم بذلك لمحت ضوءًا صغيرًا من لافتة تشير إلى «نزل». لافتة بالإنجليزية مضاءة بحروف صغيرة جدًا تتجاوزها العينان فى الليل .. ولكنى قرأتها بقلبى وبصيرتى ..

واتجهت إليها وقلبى يزداد وجيبه لشعور لا أعرف كنهه ..

وطالعنى وأنا أجتاز ممر الحديقة المعشب ، بسكون جامد ، حتى تصورت أن ليس بالنزل أحد .. ووجدت على كرسى بجانب الباب المغلق شيخًا يابانيًا.. أفسح لى الطريق بعد أن قرع جرس الباب ، وأدركت من زيه وعمله أنه خفير النزل ..

وخلعت حذائى ومشيت تحت الأنوار الخافتة على طرقة مفروشة بالحصر المضفر الملون .. إلى حيث توجد فتاة فى لباس الكومينو .. جالسة على حشية مزركشة ، وبجانبها طاولة ورفوف من الخشب .. وحييتها وأنا أقدم لها جواز السفر .. صامتًا .. مستغربًا .. محدقًا فى وجهها ببلاهة .. أخذتنى الرجفة ..

وسمعتها تقول بإنجليزية سليمة :
ــ لا داعى لجواز السفر .. هنا نزل خاص ويكفى أن تدون اسمك وعنوانك فى هذه البطاقة .

ودونت ما طلبته وأنا أحدق فى وجهها وأزداد تحديقًا واستغرابًا .. وسلمتها البطاقة .. فقرأت ما فيها ..

وقالت .. بصوت عال ..
ــ طبيب ..
ــ وكأنها سرت لأنى طبيب .. وأحمل هذه المهنة ..

وقلت :
ــ نعم .. وأنا قادم من مستشفى الدكتور تاشيو .. ورأيت هناك طبيبة تشبهك تمامًا .. شبهًا يدير العقل .. بل أنت فى الواقع .. التى كانت هناك .. وهذا ما جعلنى فى شبه ذهول ..
ــ أنا .. أنا ما برحت هذا المكان .. وعملى فى هذا النزل فقط ..
ــ ألك توأم .. ؟
ــ أبدًا ..

وضحكت من قلب طروب ..
وقلت وأنا أضحك أيضًا ..
ــ إن هذا لعجيب وهذه ليلة العجائب ..
ــ أهذه أول ليلة لك فى طوكيو .. ؟
ــ لا .. نزلت طوكيو منذ عشرة أيام .. وأقيم فى فندق دايتشى .. وحدث أن ضللت الطريق إلى الفندق ، وأنا راجع وحدى من المستشفى .. وهدانى قلبى إلى هذا المكان .. لأقضى فيه ليلة .. بدلاً من الدوران بالتاكسى..
ــ جميل أن تستدل علينا فى الليل دون دليل .. لأن اللافتة الخاصة بالنزل مكتوبة بحروف دقيقة لا تكاد تقرأ .. !
ــ هذا من حسن حظى ..
ــ والآن .. سأريك الغرفة ..

وسارت أمامى فى طرقة مستديرة مزينة بالأصص والورود والزخارف اليابانية .. وعلى الجانبين حجرات منها الصغير والكبير ، تقسم بأبواب خشبية متحركة حسب الرغبة ..

وقالت تشير إلى غرفة وصلنا إلى بابها :
ــ اخترت لك هذه الغرفة ..
وأرتنى غرفة جميلة مفروشة بالحصر والحشيات والمساند .
ــ لا توجد أسرة فى نزلنا وستنام على الحصير !
ــ لقد نمت على الحصير مع جدتى فوق سطح بيتنا .. أعوامًا طويلة .. فهى ليست غريبة على مثلى ..

ونظرت بتأمل ثم قالت :
ــ سأجىء لك بقميص .. فليس معك بيجامة !
ــ شكرًا .. وأستطيع أن أنام بالبنطلون والقميص .

وأزاحت بابًا جانبيًا صغيرًا .. وهى تقول بزهو لأنها تعرف أن ما تقوله يسر كل مسافر ..
ــ والحمام داخل الغرفة ..
ورأيت المناشف والمرايا والنظافة والأناقة ..

وسألتها وأنا أحدق فى البانيو الصغير الحجم .. وهو معد قطعًا للمرأة قبل الرجل ..
ــ سمعت أن المرأة اليابانية تستحم كثيرًا .. فكم مرة فى اليوم ..
ــ ثلاث وأربع مرات .. !
ــ ثلاث وأربع مرات .. وليس عندكن النيل مثلنا .. وإذا وجد النيل فكم مرة .. ؟
ــ ولا مرة .. !!
وضحكنا كثيرًا .. لأن هذا ما يحدث فعلاً ..

وسألت : أتعشيت .. ؟
ــ أبدًا ..
ــ سنعد لك العشاء ..
ودلتنى على مائدة الطعام ..
ــ أتحب أن تتعشى الآن .. ؟
ــ الأحسن بعد ساعة .. لأنى أكلت فطيرًا مع الشاى فى المستشفى ..
ــ كما تحب ..

وتحركنا فى الطريق إلى الأمام .. لترينى حديقة « النزل » ومرت بنا عاملة وهى تمسح عبراتها .. وسألتها مرافقتى بالإنجليزية :
ــ ما الخبر .. ؟
فردت هذه اليابانية وهى تشهق حابسة عبراتها .. واجتازتنا مسرعة فسألت مرافقتى فى خجل :
ــ ما الذى جرى .. ؟
ــ فتاة من العاملات فى النزل ماتت .. مع أن الطبيب كان عندها منذ ساعة وطمأنها .
ــ ما الذى كانت تشكو منه .. ؟
ــ أشياء كثيرة .. عدة أمراض ..
ــ أمتزوجة .. ؟
ــ أبدًا .
ــ هل أستطيع أن أراها .. ؟
سأقول لماما .. وماما .. صاحبة النزل لأن بابا ميت ..

وجلسنا فى البهو على الحشيات .. وجاءت ماما سريعًا ، تلبس البياض فى بياض .. لأنها بيضاء فى قمة رأسها وما لفته حول عنقها .. وتدثرت به حتى قدميها .. وطالعتنى بوجهها السمين ، وبعينيها الساكنتين .. وكان معها شيخ يابانى جلس صامتًا يحدق فى وجهى .. ولم يقدمه لى أحد .. فأدركت أنه من أقربائهن ..

ولم يطل الصمت .. حدثت الفتاة أمها برغبتى .. وتحركنا جميعًا إلى غرفة الميتة ..

ودخلت وهم حولى وركعت على الأرض بجانب الميتة .. لأنها كانت مطروحة على خشية .. وتبدو صفراء ذابلة كأجمل الورود .

ورفعت رأسى وأشرت إلى النافذة .. وهم يتفرسون باستغراب وفضول .

ونظرت إلى عينى الميتة وحركت الجفن .. ورأيت فى الشعيرات الدقيقة للعين الحياة .. الحياة ..

وقلت لمن حولى بزهو :
ــ إنها لم تمت ..

وخرجت من الجموع الواقفة همهمة عالية ، وصرخة عفوية مكتومة ، مع كل ما هم عليه من تهذيب ورقىّ .

وتحولت سريعًا إلى الفتاة مرافقتى وقلت لها :
ــ استدعى طبيبها أو أى طبيب يابانى حالاً ..
ــ وأنت .. !!
ــ أنا لا أستطيع أن أزاول المهنة هنا .. من غير تصريح ..
ــ أرجوك يا دكتور « حسن » أن تنقذها .. لعنة اللّه على التصريح .. إن حياة هذه المسكينة على يديك ..
ــ سأشترك مع الطبيب اليابانى عندما يجىء .. فلا تراعى ..

وكنت أعرف أن الطبيب فى اليابان يأتى فى زمن يقل عن ثلاث دقائق .. وأقل من هذا الزمن يأتى الإسعاف والبوليس .. ولذلك لم أشعر بالقلق على المريضة ولم يؤنبنى ضميرى .. لأنى تركتها من غير علاج بعد أن عرفت أنها حية ..
وجاء طبيبها وقدمونى له .. وحدثته على عجل .. وأصبحت أنا وهو والسيدة الكبيرة والفتاة مرافقتى داخل الغرفة وخرج الجميع وأغلقنا الباب .

وكشفت الفتاة عن صدر زميلتها .. وشعرت بالخجل وأنا أرى هذا الجمال الأسر .. سبحان من أعطى المرأة اليابانية كل هذه النعومة وهذه الأنوثة وهذه الفتنة وسلبها من الرجل .

وقفت خجلاً مبهورًا والفتاة تكشف فتنة الأنثى فى منبع الأمومة والرضاعة والحنان .

كان الطبيب اليابانى يرغب فى إعطائها حقنة فاعترضت بأدب .. وقلت له :
ــ إنها الآن فى حاجة سريعة إلى تدليك أولاً .. وبعد ذلك تأتى الأدوية والحقن ..
وأخذ الطبيب بوجهة نظرى وانحنى عليها وأخذ يدلك قلبها .. ونظرت المرافقة إلى ناحيتى .. فابتسمت وأدركت غرضها ..

وقلت للطبيب اليابانى بأدب :
ــ هل تسمح لى بمساعدتك يا دكتور .. !
فتنحى جانبًا ..

وركعت بجانب الميتة .. وحدقت فى عينيها .. ووضعت خدى على قلبها .. ولمست يداى صدرها .. وأخذت أدلك فى نعومة ودقة.. ولأول مرة أنسى نفسى وأضع فمى على فمها وأنفخ فيه بحرارة .. وشعرت بشرايين الحياة .
وفتحت المريضة عينيها بثقل .
وفى غمرة الفرح بنجاة الفتاة طوقنى الطبيب اليابانى وكل من كان فى داخل الغرفة .

وقلت للطبيب :
ــ إن هذه الخبرة تعلمتها منكم والدكتور تاشيو هو أستاذى وأنا فخور به كأستاذ .

وأحنى رأسه محييًا .. ورأيت أن يبقى هو بجانب المريضة ، ويعطيها ما يشاء من الأدوية .

وقادتنى المرافقة إلى غرفة الطعام .. وهى تطير من الفرحة ..

اسبيرانزا 18/08/2008 21:48

وجلست إلى طاولة مستديرة كالطبلية .. وحولى النقوش والزخارف على الجدران .. والتماثيل الخزفية فى الأركان ..
وكان الضوء خافتًا والقناديل تسبح فى زرقة القاعة .. والموسيقى اليابانية الخفيفة تذاع فى نغم رتيب يجلب النعاس .. فأحنيت رأسى وأسبلت عينى ..

وأفقت على رنة صحن وضع أمامى وفيه الفوطة المشبعة بالبخار .. فرفعت رأسى إلى وجه الفتاة التى وضعت الطبق ..

وأحسست برعشة الفجاءة التى تهز كيان الجسم كله فى لحظة أسرع من خطف البرق ، ومن رعشة الجفن ومن سريان التيار الكهربائى .. لحظة مباغتة سمعت لها دقات قلبى وكأنه المطرقة ، فى عنف دقه .. لحظة يذهب لمثلها العقل .. وكانت هى بقدر ما تلاقت أعيننا الأربع ، وحدقت وأتسعت ، وأرتجفت الأجفان بقدر ما غاب إنسان العين بعد ذلك من هول المفاجأة .

وجرت إلى البطاقات التى فى المدخل .. وأخرجت البطاقة الخاصة بالنزيل الجديد الذى وفد الليلة وقرأت الإسم .. وسألت الفتاة الموكلة بالبطاقات عن اسمى وجنسيتى للتأكيد .. فلما عرفت كل هذا وتيقنت منه عادت تحمل أطباق الطعام فى تباطؤ وجمود ، وكأن ما حدث لم يكن قد حدث .

وكنت أمسح بفوطة البخار وجهى وعينى وأشعر بما تفعله هذه الفوطة من راحة للأعصاب .

واشتقت إلى أن أسمع جرس صوتها بعد هذه الغيبة الطويلة .. وهل تغير كما تغير عودها فقد سمنت قليلاً وثقل خطوها .

وسألتها دون أن أرفع وجهى عن الأطباق :
ــ هل جنزا بعيدة عن هنا .. !
ــ بعيدة جدًا .. أربعون دقيقة بالتاكسى ..
ــ وإذا مشيت .. ؟
ــ تصل صباح الأربعاء ..

وكنا فى يوم الاثنين .. فأدركت مداعبتها ..
وسألت بجفاء وهى تحرك أشياء على المائدة :
ــ وما الذى تريده من جنزا فى الساعة التاسعة ليلاً ..
ــ أريد أن أرى السفينة ..
ــ أية سفينة .. ؟
ــ السفينة الراسية على شط جنزا ..
ــ غرقت من سنين وتحطمت قمراتها ..
ــ وركابها .. ؟
ــ غرقوا جميعًا .. ونجا اثنان .. رجل وامرأة .. وقد طوح بهما الزمان .
ــ ولكنهما التقيا ..
ــ أبدًا أخلف الرجل وعده .. كالعادة .. وعاشت المرأة فى محنتها ولوعتها شبه مذهولة .. ثم تمالكت نفسها واستردت أنفاسها وأخذت تعمل فى كل مكان فى المطاعم والمحلات .. وأنساها العمل لوعتها وحبها القديم .. وهكذا تمر الأيام .
ــ قد يكون للرجل عذره .. وتكاليف السفر باهظة ..
ــ أبدًا .. يستطيع أن يعمل حمالاً فى باخرة .. ويأتى كما وعدها ..
ــ اعذريه لفقره .. لقد حاول بكل ما يملك من جهد أن يسافر كطالب إلى بكين أو هونج كونج .. ليكون قريبًا منها ، ولكنه فشل بعد جهود مضنية مرغت نفسه فى التراب .
ــ لا فائدة ترجى من الكلام الآن .. هل تريد شيئًا آخر .. ؟
ــ ستذهبين معى الليلة إلى جنزا ..
ــ أنا .. كيف تطلب من سيدة متزوجة هذا الطلب .. أنا زوجة وأم ..

وابيض وجهى وأطرقت .. زوجة وأم ..
الآن جاء لسع السياط ..

وأطرقت وأخذت استرجع شريط الذكريات ..
منذ سبع سنوات وفى مثل هذا الشهر .. شهر أكتوبر .. وقفت وحدى فى طرف .. جنزا .. بعد أن عبرت الكوبرى الصغير والقناة . واستدرت إلى يسار وكانت الساعة العاشرة ليلاً والجو صحوًا لطيفًا .. لا تؤثر برودته على الواقف فى المكان يتأمل ما حوله حتى إن طالت وقفته .

ولمحت على بعد خطوات منى بناية على شكل سفينة عائمة على الأرض .. وقناديل قمراتها تتوهج بلون فسفورى جذاب .. وساريتها مرفوعة تناطح البالونات المتأرجحة فى الحى كله .

وفى وقفتى ، وأنا منبهر طارح ، وجدت من يسألنى :
ــ أتود أن تشاهد السفينة .. ؟
وأفقت على أنثى رقيقة تجاوزت فى وقفتها كتفى ..

وتأملت عينيها نصف المسبلتين ، وقوامها ولباسها الأوروبى البسيط من قطعتين جونلة وبلوزة .. لم تكن تلبس الكومينو ..
ــ وبكم المشاهدة .. ؟
ــ الساعة بألف ( ين ) .. فى القمرة ..

ولم أعقب .. وظل التفاعل النفسى والجذب والشد .. يعمل .. ويعمل بضراوة .. وسقط شىء علينا من سماء طوكيو أشبه بالبرد أو نتف الثلج .. فضحكنا .. وظلت هى ممسكة بالحبل ..
ــ إذا لم يكن معك هذا المبلغ .. نستطيع أن نتمشى بعض الوقت .. المهم أن نبقى معًا ..
ــ ولماذا أتعبك بالمشى .. سندخل السفينة .

وفى الطابق الثانى احتوتنا قمرة ضيقة أشبه بقمرة البواخر .. وفيها كل أثاثها ومعداتها .. وشربنا النبيذ والساكى .. وتحدثنا عن القاهرة وطوكيو .. بحب وحماسة ..

وسألتنى :
ــ أين تقيم .. ؟
ــ فى دايتشى ..
ــ إنها على بعد خطوات من هنا .. سأكتفى بعملى الليلة فى السفينة وأخرج معك .. لنتجول فى جنزا ..

وشعرت بالسعادة تغمر قلبى .. وسرنا فى الليل الحالم فى حى الألف ملهى وألف حى كأنما رسمه ووضع له الخطوط فنان لا يجارى فى عبقريته ونبوغه .. ملاه زاهية بألوانها وقناديلها ورسومها .. فى صفوف تدور وتطول .. وكلما دارت تألقت إلى لون آخر .. أكثر جمالاً وأشد فتنة .. وعلى كل باب تقف فتاة فى حفل من الزينة والعطر .. والكومينو ينسحب إلى الأرض ..

وفى الداخل ترى صفًا من الفتيات اللابسات الأقنعة .. جالسات فى صمت أخرس تحت الضوء الشاحب .. يتفرسن فى كل داخل .. ومنهن مع كل ما فيها من رقة وعذرية وجمال .. من تقع فريسة سكير فظ يذيقها كل أنواع العذاب .. وتتحمله بصبر عجيب .. وتظل تعمل فى المكان .. والسكير المتشرد يتردد ويختار .. عجبًا للدنيا بتصاريفها .. فلا يقع مثل هذا فى جنزا وحدها ولا فى طوكيو وحدها .. وإنما فى كل مدينة يقع فيها ليل وملهى ..

بعد أن تجولنا أنا وفتاة السفينة فى طرقات الملاهى وشبعنا من النظر .. اخترنا ملهى من طابقين لنأكل ونسمع فى هدوء الموسيقى الخفيفة .

وجلسنا متجاورين إلى مائدة مستطيلة فى نصفها زهرية .. وجاءت العاملة بالفوطتين المشبعتين بالبخار .. كل واحدة فى طبق .. كأول ما يقدم للزبائن..

وتناولت فوطتى .. وأخذت أمسح وجهها وأضغط على خديها وأنفها وهى تضحك مسبلة عينيها .. وساعدنى على الاسترسال فى العملية خلو المكان .. وفعلت هى بفوطتها فى وجهى مثل ما فعلت ..

وخرجنا كأننا نسبح فى الجو ..
وقلت لها :
ــ أين تقيمين .. سأوصلك إلى منزلك .. ؟
ــ سأذهب معك ..

وحاولت أن أقول شيئًا ..
ــ لا تفتح فمك ..

وانقطعت أسبوعًا كاملاً عن عملها فى السفينة لتبقى معى . وتصاحبنى فى كل جولة ..
وفى يوم سفرى كان قلبى يتمزق وروحى ضاعت ..

وسافرت لأعود بعد شهور قليلة .. ولكنى عدت بعد سبع سنوات كاملة.. ويجمعنى القدر بها فى هذا النزل .. فى ليلة عجيبة بكل تصاريفها .. يجمعنا بعد أن طوح بنا الزمن ، وتصورنا أن الموت فرق بيننا .. وخيم اليأس الذى لا رجاء بعده ..

ولكن ها هى الآن واقفة أمامى بلحمها ودمها وكل ما فيها من جمال ورقة.. واقفة فى هذا النزل وكأنه لم يحدث بيننا فراق ولا غيبة طويلة .. واقفة بكل أنوثتها .. ولكنها جامدة .

وذلك لأن العواطف المتأججة الصارخة أخرسها اليأس والزمن الطويل .. وكان اللقاء المفاجئ كأنه يمسح على جسد مريض طال مرضه وطالت بلواه.. بغير أمل فى الشفاء .

قالت بظل ابتسامة :
ــ تحدثت مع المدام وستذهب معك مس « أكى » إلى جنزا ..
ــ أريدك أنت وإلا فلا داعى لهذه الجولة .
ــ سأجعل المدام تتصل بزوجى وتستأذنه ..
ــ ما عمله .. ؟
ــ إنه موسيقى يعمل فى مسرح ميكامو .

لابد أن يكون زوجها عازفًا فنانًا شاعرى الطباع .. فمن كان فى مثل رقتها وطباعها لا يتحمل خشونة رجل آخر ..
ــ وابنك .. كبير .. ؟
ــ عمره ست سنوات

وأحسست بالأرض تدور
ــ أحب أن أراه .

فى الصباح ستراه .. وهو يوزع جريدة أساهى قبل أن يذهب إلى المدرسة.
ــ أمعك صورة له ..!
ــ معى ..
ــ أرينيها .. أرجوك ..
ــ أخاف أن يغمى عليك .. وأنت طبيب ..

وشعرت بالدنيا تدور فعلا قبل أن أرى الصورة ..

اسبيرانزا 18/08/2008 21:49

الشيخ عمران
 
وحاولت خلال ذلك أن أتناسى ما حدث ، ولكننى كلما تمثلت الأصابع وهى موضوعة على بطن زوجتى أستطير خبلا ، وأكاد أمزق نفسى ..

كانت عندنا فرس من كرام الخيل ، خرج بها الخادم إلى المرعى وعاد بدونها ، ولم نكن ندرى أسرقت منه وهو عائد بالخيل فى ظلمة الليل ، أم ذهبت على وجهها فى الحقول ؟!..
وبحثنا عنها فى القرى والعزب المجاورة فلم نعثر لها على أثر ..
وأخيرًا رأى والدى أن يرسلنى إلى الشيخ عمران فى النجع .. ليبحث عن الفرس قبل أن تتسرب إلى السوق ..
وراح الخدم يخرجون الخيل .. وانطلقنا إلى النجع وقد انحسر الظل على دروب القرية ، وحميت شمس الضحى واشتد وهجها على الجسر . وكان معى خفيران من خفراء المزرعة ، مسلحان بأحدث طراز من البنادق ، فقد كان علينا أن نسير ساعتين على ظهور الجياد فى طريق مقفر يكثر فيه قطاع الطرق فى تلك المنطقة من الصعيد ..
وأخذ مسعود ـ أحد الخفيرين ـ يحدثنى عن الشيخ عمران حتى أفزعنى.. فقد قص علىّ أنه كان ذات ليلة فى مزرعة بطيخ له ، فمر تحته قارب صيادين ، ورأى الصيادون بطيخ المزرعة الناضج ، فسولت لهم أنفسهم أن يقتربوا منه ، وأحس بهم الشيخ عمران .. وجاء بهم بعد أن أوثقهم بالحبال ، ثم صنع من لحومهم طعمًا للأسماك !..

وكان فى ثورة سنة 1919 على رأس الرجال الذين عبروا النيل إلى قرية الوليدية فى أسيوط .. وكمن هناك فى النخيل قرب الخزان حيث يعسكر الإنجليز ، وأخذ يحصدهم حصدًا ..

ولما أراد العرب أن يعبروا الخزان ، أرسلوا إليه فتقدم ومعه رجلان إلى موقع المدفع الرشاش المصوب على الخزان ، وظل يطلق النار حتى سكت المدفع .. وأدير الكوبرى .. ومر العرب يقرعون الطبول ..

قص على مسعود هذا وغيره . وكنت أعرف الكثير عن الشيخ عمران ، أعرف أنه أشد الرجال بأسًا وأعظمهم جبروتًا ، وما من حادثة تحدث فى المنطقة بأسرها إلا يعرف سرها .. وما من رصاصة تطلق فى الليل إلا يعرف مصدرها .. إنه رجل رهيب ، إذا دخل قرية فى وضح النهار أرعبها وأفزع أهلها ، وإذا تنكر لقوم بطش بهم .. مسحهم من الوجود مسحًا .. بدأ حياته كقاطع طريق صغير ، ثم تطور وعظم أمره ، وغدا أشد فاتك فى المنطقة وأعظم الرجال بطشًا ، كنا نسمع عنه الكثير من القصص المروعة ونحن صغار، وشببنا عن الطوق وصورة هذا الرجل تملأ قلوبنا رعبًا ..

ولهذا ظللت طول الطريق أفكر فيه وأتمثله بعين الخيال ، رجلا فى طول المارد وبطشه ، له جسم ثور وقوة عنترة .. دائما مسلح ، دائما مقاتل ..

واقتربنا من النجع ، وكانت الجياد تتصبب عرقًا ، والتعب قد بلغ منا منتهاه . ولاح لنا النخيل يطوق البيوت المبنية من الطوب الأسود ، ثم عيدان الذرة والحطب على السطوح ، والجريد والدريس والنواعير الخربة فى خارج البلدة .. والكلاب تنبح فى كل مكان ، إنها الصورة المكررة للقرية المصرية منذ الأزل ..

ولم نجد الشيخ عمران فى النجع ، بل كان فى جزيرة وسط النيل ، فتركنا الخيل فى النجع ، وركبنا زورقا إلى الجزيرة ..

* * *


وجدناه فى عريشة صغيرة على ربوة عالية فى طرف الجزيرة . ولقد ذهلت عندما رأيته ، كان رجلا متوسط الطول أقرب إلى النحافة ، مدور الوجه جامد الملامح ، ينسدل شاربه على فمه فى غير نظام ، جاوز الخمسين هادئًا ، ساكن الطائر . هل هذا هو الشيخ عمران الذى أرعب المنطقة قرابة ثلاثين عاما وما زال يرعبها ؟!..

رأيناه من بعيد جالسا القرفصاء وكان ينكت الأرض بعصا قصيرة ، ولم يكن يلقى باله إلينا ، ثم رآنا نصعد فى الطريق إليه فأرسل بصره ثم رده وعاد ينكت الأرض !! وكان يجلس فى ظل العريشة وحيدًا ... لم تكن حوله كلاب، وكيف تعيش الكلاب فى عرين الأسد ..؟!

وعرف مسعود ، ونظر إلىّ قليلا ثم قال :
ـ إبراهيم ابن الشيخ عبد الرحيم ؟..
ـ أجل ..

فرحب ، وفرش لى زكيبة وجلست بجواره فى الظل ، وعيناى لا تتحولان عنه . لا ، إننى مخطئ . إن نظرتى الأولى كانت عاجلة . إن هذا الرجل ليس كالرجال ، إنه من طراز آخر ، إن له شخصية جبارة ..

وشربنا القهوة ، وحدثته عن الفرس ، فضحك وقال :
ـ لم يبق إلا هذا ..!
ثم أردف :
ـ لقد شرفتنا ، ونحن فى موسم الإيجار ، ولقد بدأنا فى جمعه فعلا ، وستحضر بنفسك تحصيل الباقى ، وتعود إلى والدك محملا بالمال ..

ابتسمت وشكرته ، إن جمع الإيجار معناه أننى سأبقى مع هذا الرجل القاتل المطارد ثلاثة أيام أو أربعة فى هذه الجزيرة الموحشة ..

وتغدينا وأكلنا البطيخ ، وصرف الشيخ عمران الخفيرين وهو يقول لهما :
ـ قولا للشيخ عبد الرحيم إن إبراهيم فى ضيافتى وسأرافقه حين عودته إلى القرية ...
ومشى معى يطوف بالحقول ..

* * *


مررنا على مزارع البطيخ على شاطئ الجزيرة ، ورأيت الفلاحين يقفون خاشعين صاغرين أمام الشيخ عمران ، كانوا فى أخصاص من البوص قائمة فى صف واحد فى نهاية الحقول . لكل مزرعة خصها وكلابها ورجالها ، فإذا بصروا بنا نهضوا ، وزجروا الكلاب ، ودار الفلاح فى حقله يضرب البطيح بيده لينتقى لنا أحلاه وأنضجه ، فإذا رفضنا قال فى حماسة :
ـ إن هذا لا يصح .. إن هذا لا يصح ..

ولقد وجدت البطيخ مكوما فى أطراف الحقول ولا أحد يحرسه .. والمواشى ترعى الكلأ فى قلب الجزيرة ولا أحد وراءها .. ولم أر فلاحا واحدًا يحمل عصا ، ولا خنجرًا ولا بندقية .. إنهم جميعًا فى حمى الشيخ عمران ، وقد عجبت للهدوء الذى يخيم على الجزيرة .. إنها فى قبضة مارد جبار .. وحدثته عن هذا ، فنظر إلى مليًا ، ثم قال مبتسمًا :
ـ إن كل شىء هنا حسن .. والشر يجىء لنا دائمًا من المدينة ، عندما يذهب الفلاح إلى المدينة ليبيع فى السوق ، يعرف الشاى الأسود والتمباك والحسن كيف .. ويرى الذين يلبسون الأحذية ويقرعون بها الأرصفة ، والذين يركبون السيارات الفخمة ويخطفون بها خطفًا فى الطريق .. ويرى الذين يسكنون القصور وحولها البساتين ، ويرى الأنوار تتلألأ فى الليل ، والملاهى البراقة فى كل مكان ، يرى كل هذا ، فإذا عاد إلى قريته جر رجليه جرًا ، كان كمن ضرب على أنفه ، إنه يسأل نفسه وسط الظلام والقاذورات والحشرات ، وروث البهائم .. هل أنا كائن حى ..؟ هل أنا مخلوق بشرى حقًا؟.. هل أنا من طينة هؤلاء ؟.. عاد والغل والحسد والحقد وصفات الشر كلها تأكل قلبه أكلا . وأنت تراهم هنا وتحسبهم ملائكة ، لفرط ما تحسه من سكون يخيم على الجزيرة .. ولكنك لو تركت الحبل على غاربه يا بنى لأكل بعضهم بعضًا .. إنهم يحبون السرقة والسطو على زراعة الجار .. ويغشون ويخادعون ، ولو لم أكن معك الآن لألقوا بك فى النيل ، لأنك صاحب الأرض ، ولأنك كما يتصورون تأخذ من قوت عيالهم ..

فكرت فيما قاله الشيخ وقلت لنفسى :
ـ إنهم يفعلون ذلك كله تحت تأثير نير القرون .. ظلم أجيال وأجيال . إن الفلاح المصرى يسرق ، ويخادع ، ويستريب نتيجة لحياة البؤس والاستبداد التى عاشها منذ آلاف السنين ، ولم يتنفس الصعداء إلا فى عهد العرب ..
متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا ..؟

ثم ماتت هذه الكلمات وعاد الرق والاستبداد كما كانا ..

وعدنا إلى العريشة نشرب القهوة ، ونودع الشمس الغاربة ..

* * *

ابتدأ النساء فى الجزيرة يخرجن من الأخصاص ، وعلى رؤوسهن الجرار ويتجهن إلى النيل . رأيت سواعدهن البضة وهى تتحرك من بعيد ، وبعض وجوههن النضرة .. كن يمشين فى خفر أسرابا ، وكن جميلات فاتنات ..

ونزل الشيخ عمران إلى النيل وتوضأ ، ولما غربت الشمس صلى ، وعاد فجلس بجوارى صامتًا ، وكان الظلام يتساقط رويدًا رويدًا ..

وتعشينا ، وفرشوا لى لأنام ، كان الشيخ عمران يود أن أنام داخل الخص ولكننى رأيت أن أنام فى العراء لأرى هذا الرجل الرهيب فى الليل ..
إنه لا يدخن ، وهو رجل قليل الكلام ، كثير الصمت ، وصوته ليس جهوريا ، ولكنه قوى آمر . ولعل ذلك راجع إلى أنه تعود صيغة الأمر دائمًا فى حديثه مع الناس . وهو فى الليل لا يغير ثوبه كما يفعل كثير من القتلة ، وإنما يظل كما هو لا يتغير فيه شىء .. تتركز حواسه كلها فى باصرتيه ويغدو خفيف الحركة ، سريع اللفتة ، يقظ السمع ، يرنو ببصره إلى بعيد ، لقد أدركت قوة بصره فى الليل وهو يرى من وراء الأبعاد ، ويخترق به حجب الظلام ، ويسمع أدنى حس . كانت تمر تحتنا قوارب الصيادين ، وكان يسمع حركة المجاديف وهى مقبلة من بعيد ، فإذا اقتربت من رأس الحجر فى طرف الجزيرة صاح بصوته المرعب :
ـ من هناك ..؟
ـ نحن يا عم الشيخ عمران ..
ـ ابتعد عن الحجر وخليك إلى الشرق ..
ـ حاضر ..
إنه لا يريد أن يقترب أحد من عرينه .. إنه قاتل ، والقاتل فى الصعيد دائما مطارد ، ولو عاش ألف عام . وعندما يخور الشيخ عمران ويستضعف سيتمزق إربا ، ولقد خلف وراءه فتيانا أشداء ، وله أسرة مرهوبة الجانب ، وقد يعيش فى هذه الشيخوخة فى ظلها وعلى حسها ، وإن كان لا يزال شامخ الأنف ، لم يسقط فى حياته سقطة واحدة ..

شمل الظلام كل شىء ولفنا فى ردائه ، ونام من معنا من الفلاحين ، وبقيت ساهرًا مع الشيخ عمران . لقد شعرت بطراوة الهواء ولينه ، وعمق السكون ، وكنت أود لو أتمرغ على الرمل وأنزل لأسبح فى النيل ، كان كل شىء ساكنا ، والطبيعة سافرة طليقة من كل قيد ، تشعر الإنسان بالحرية الصحيحة ، كنت أشعر أننى قد تحررت من قيود المدنية الزائفة وأخذت أنظر إلى النجوم البراقة فى السماء ، وإلى الغياهب .. غياهب الليل .. وإلى النيل الجارى تحتنا ، وإلى مزارع النيل من حولنا .. وأتأمل وأفكر ..
إن الشيخ عمران يجلس على هذه الربوة وحيدا فى الليل ، وأولاده فى كل مكان ، معاذ فى الماكينة ، و سلمان فى النجع ، وعبد الكريم فى الجبل ، ولكن أنفاسهم جميعا معه ..

وفى الهزيع الثانى من الليل ، رأيته يدخل العريشة ويعود وفى يده شىء ، إنها بندقيته .. وهى من طراز هندى ككل البنادق التى تراها فى الريف .. ولكنها فى يده شىء آخر .. وضعها بجانبه واستلقى وعينه إلى الغرب .. وضعت رأسى على الفراش وحاولت أن أنام ، فالشيخ عمران ساهر علينا جميعا ، ولكننى لم أنم ، وظللت أراقبه .. تحرك ، ومد البندقية .. وأطلق .. أطلق فى الهواء .. وسمعت صوت الطلقة وطاف بذهنى شىء .. لقد تذكرت ، سمعت صوت هذه الطلقة فى الليل من قبل ، كانت طلقة واحدة تنطلق فى ساعة معينة بعد نصف الليل .. وكنا نسمعها ونحن فى أجران العزبة ، ونصيح فى صوت واحد :
ـ الشيخ عمران !..

اسبيرانزا 18/08/2008 21:50

إنه ظل على عادته يرسل هذه الطلقة كل ليلة .. طلقة واحدة ليس إلا ، ثم يضع البندقية تحته وينام ..

اعتمدت بمرفقى على تل من الرمل ، وأقبلت أتحدث معه .. أخذ يحدثنى عن مغامراته فى الليالى السود ، والمعارك الدامية التى تحدث فى القرى على لا شىء .. وحوادث السرقة فى وضح النهار ، والزمن الذى تطور ، وطوى معه كثيرا من القتلة فى الريف .. كان حديثه طليا ساحرا يستغرق الحواس كلها ..
طلبت منه أن يحدثنى عن أول حادثة قتل فى حياته ، فتجهم وأطرق طويلا .. لقد نبشت دخيلة نفسه .. إنه يتذكر .
رفع رأسه وقال فى صوت متغير :
ـ سأحدثك يا بنى ..
وأطرق مرة أخرى ، ثم رفع رأسه وقال :

كان ذلك منذ سنين طوال .. كنت فى صباى .. وكان والدى يحب أن يزوجنا صغارًا ، فزوجنى من ابنة عم لى ، على عادة العرب فى قصر زواجهم على الأقارب .. وكانت صغيرة .. وكنا قد شببنا معا ، ورعينا الغنم معا ، فكان حبى لها قويا .. وكان كل شىء فى الحياة يمضى رتيبا ثقيلا .. لم تكن الحال كما تراها الآن آلات للرى ، وزراعة ، وعمران ، بل كان جدبا شديدًا وفقرًا شاملا ، كنا نعيش من بيع الملح .. نجىء به من الجبال ونبيعه فى القرى النائية . وكنت أطلب الرزق أينما وجد . فلم يكن من السهل على رجل فى مثل شبابى ورجولتى أن يتبطل ..
وكان هذا الفقر يدفع العرب إلى السلب والنهب ، وقطع الطريق على الناس .. فكانت الحوادث تترى ، والرصاص يدمدم فى كل ساعة ..
وحدث أن أغار جماعة من العرب على مزرعة واستاقوا مواشيها ، وقتلوا خفيرا من خفرائها .. وجاء الجند ، وعلى رأسهم ضابط طوقوا النجع .. وبدأوا يفتشون فى بيوتنا لأنها فى اعتقادهم وكر الجريمة ..! وكنت غائبا ، ودخلوا بيتى وفتشوه ، وسأل الضابط « جميلة » زوجتى :
ـ أين زوجك ..؟
ـ مسافر يا سيدى منذ شهور يجرى وراء معاشه ..
ـ ومن الذى وضع هذا فى بطنك إذن ..؟
ووضع أصبعه على بطنها ، وكانت حبلى « بمعاذ » ..
فعل هذا وخرج .. وصعقت المسكينة .. وطار الخبر فى كل مكان ..

وعدت من سفرى وسمعت بما حدث وأنا فى الطريق .. ودخلت البيت ولكننى لم أحادث جميلة ولم أر وجهها .. وتناولت بندقيتى وخرجت .. وذهبت عند صديق لى فى الجبل ، ومكثت عنده أياما .. وحاولت خلال ذلك أن أتناسى ما حدث ، ولكننى كلما تمثلت الأصابع وهى موضوعة على بطن زوجتى أستطير خبلا ، وأكاد أمزق نفسى ..

وتركت البندقية عند صاحبى ، وخرجت متنكرا أطوف حول « النقطة ».. ورأيت خير ما أفعله أن آخذه ، وهو خارج للدورية ، بعيدًا عن النجع والقرى المجاورة لنا ..

وخرجت فى ليله سوداء لا أنساها ما عشت ، ففى هذه الليلة تقرر مصيرى يابنى ، ورسم القدر خط الحياة لى .. وكانت ليلة من ليالى الشتاء ، ضريرة النجم شديدة البرد ، وكانت معى بندقيتى وخمسون طلقة ، وكنت على استعداد لأن أقاتل جيشا بأسره ، وأفتك بكل من يعترض سبيلى حتى ولو كان أبى ..
كانت ثورتى جامحة ، وغضبى لا يصور ..
وكمنت فى زراعة قصب ، وانتظرته وهو مار على ظهر جواده فى الطريق.. وجاء .. وصوبت وسقط ..
وأطلق العساكر النار ، ولكن طوانى الليل ..
وبت هذه الليلة فى بيتى ، واستطعت أن أقابل « جميلة » ..

وصمت الشيخ عمران قليلا ثم أضاف :
ـ بعد هذه الليلة يا بنى تغير فى كل شىء ، وجدت شيئا جديدا يعتمل فى داخل نفسى ، واستطعمت رائحة البارود ، وأصبحت حياتى كما تعرف وترى .. وأنت لا تستطيع أن تغير الدم .. الدم الجارى فى عروقك ، أو تمحو أثر البيئة ، وأنت تتعلم وتتهذب وترقى ، ولكن دمك سيظل عربيا لأنك ولدت فى النجع ونشأت فى النجع ، وفى هذا الجو الطليق عشت ، وتنفست أول نسيم للحياة ..

وصمت الشيخ عمران وتركنى لأنام ..
مضى وحده فى الظلام ، فقد سمع نباح كلاب شديد ..


* * *

بعد قليل عاد إلى مكانه ، وكانت الكلاب قد كفت عن النباح ، وعاد السكون .. وكانت النجوم تهوى فوقنا متعاقبة ، والظلمة شديدة ، والماء يجرى تحتنا ويهدر .. ومن ساعة إلى أخرى كنا نسمع صوت رصاصة تنطلق فى الجو .. لابد من هذا فى الريف ، كان صوت الرصاص مألوفا عند الفلاحين ..

بل لعلهم يأتنسون به أكثر من صوت الكلب ، وصوت الإنسان ، ويشعرون بالوحشة عندما يشتد السكون ..

غلبتى النعاس ، وصحوت والشمس تغمر وجهى ، ولم أجد الشيخ عمران .. وسألت عنه فقيل لى :
ـ انه ذهب إلى النجع ..
ورأيته بعد ساعة مقبلا من بعيد يمشى تحت وهج الشمس .. ووراءه ابنه معاذ .. معاذ الذى يحرس « الماكينة » بذراع واحدة .. فقد ذهبت ذراعه الأخرى فى حادث .. كان وهو غلام فى « الماكينة » ومعه أخوه الأكبر .. وذهب أخوه إلى القرية ليجىء بشىء ، وتركه وحده .. فهجم عليه اللصوص فى الغروب .. وظل يقاتل .. واخترق الرصاص ذراعه ، ومع هذا لم يستسلم ، ولم يستطع أحد أن يقترب منه ، أو يمس حديدة فى « الماكينة » .. هذا هو معاذ ، إنه من دم عمران ومن صلبه ، كان يجىء إلى قريتنا كثيرا يحمل الإيجار ، ويحاسب على الأرض ، وكنا نعرفه جميعا .. وكان إذا تأخر واحد من إخوتى فى الليل ، أو بات فى الأجران ، سأل والدى عن الذى معه .. فإذا عرف أنه معاذ اطمأن وكف عن السؤال .. كنا نسميه « أبو ذراع » وكان واسع الحلم طيب المعشعر .. فإذا غضب انقلب أسدًا ..

حيانى معاذ وجلس .. وبعد قليل تحركت ذراعه .. ودفع يده فى جيبه وأخرج صرة ناولها لى وهو يقول وعلى شفتيه ابتسامة :
ـ هذا إيجار زراعات الماكينة جميعا ..
ـ جمعته كله يا معاذ ..
ـ أجل ..
ـ ولم يبق أحد .. ؟
ـ ولم يبق أحد ..
ونظرت إليه ، وكان يبتسم وعيناه تلمعان .. إنه صورة من والده .. نفس النظرة القوية .. ونفس الملامح الصارمة .. ونفس الشخصية الجبارة التى تفرض نفسها على من حولها ..

جمع الشيخ عمران باقى المستأجرين ، وشغلت طول النهار بتحصيل الإيجار ، وفى المساء وضعنا الأوراق المالية والفضة فى كيس كبير أعطيته للشيخ عمران فوضعه فى العريشة أمام الجميع ..!

وهبط الليل ، وكنت قد تعبت طول النهار ، فنمت فى أول الليل وصحوت على صوت طلقة .. لم تكن الطلقة التى تعودت سماعها من الشيخ عمران .. طلقة تذهب فى الهواء تدمدم .. لا .. إنها طلقة مكتومة .. رصاصة أصابت جسما واستقرت فيه .. فتحت عينى وتلفت حوالى .. لا أحد بجوارى غير عمران .. كان على قيد خطوات منى ، نائما على بطنه ويده تعمل فى البندقية .. لقد أخرج الظرف وألقى به بعيدًا ، ولما أحس بى ، وعرف أنى صحوت ، قال وهو يبتسم :
ـ لا شىء .. إنه ثعبان ! ..
ـ أقتلته ..؟

وصمت ولم يقل شيئا ، وظل وجهه مبتسما ، ويداه تعملان فى البندقية .. ثعبان .. ؟ تلفت مرة أخرى .. أرسلت بصرى إلى رأس الحجر كان هناك شىء أسود وفتحت عينى جيدًا ، وتفرست فى الظلام ، وتملكنى الرعب .. إنه رجل نصفه فى الماء ، ونصفه على الأرض .. وقد منعته الحجارة من أن ينجرف مع التيار ..

ولقد جاء بعد أن عبر النيل فى زورق أوسواه ليقتلنى أو ليقتل الشيخ عمران ، ولكنه انتهى فى لحظة واحدة وما أحس به إنسان ..

ونظرت إلى الشيخ عمران .. نظرت إلى هذا الرجل ، وحاولت أن أقرأ على وجهه شيئا ينم عن فعلته ، شيئًا يدل على أنه قتل نفسا بشرية ..

ولكنه على حاله .. لم يتغير فيه شىء .. إنه هادىء ساكن ، وما نبض فى جبهته عرق ، ولا إختلجت شفة ، ولا اهتزت يد .. أى قلب ..! وأى أعصاب ..! ومن أى طينة هذا الرجل .. إننى إذا ضربت خادما بعصا فى ثورة غضب ، أظل طول الليل أتململ فى فراشى ، والندم يأكل قلبى ، ولا أعود لنفسى إلا إذا طلبت من الخادم أن يصفح عنى .. أما هذا الرجل فهو يقتل إنسانًا .. ولا تتحرك فيه جارحة ، ولا يظهر على وجهه شىء .. أى قلب ..! وأى أعصاب ..!

بعد قليل تحرك ، ومشى إلى رأس الحجر .. مشى متمهلا ، ورأيته يدفع الرجل العالق بالحجر برجله .. وذهب الرجل مع التيار ..
وعاد عمران إلى مكانه كما كان أول الليل .. كأن لم يحدث شىء ..


* * *

فى أصيل اليوم التالى ، غادرنا الجزيرة إلى النجع ، وبعد أن استرحنا ، وشربنا القهوة فى مضيفة الشيخ عمران ، أمر بإعداد الركائب ، وكان هو وابنه « معاذ » سيرافقاننى إلى قريتى ..

ولما خرجت إلى الساحة ، وجدت فيها ما أدهشنى .. وجدت فرسنا التى سرقت مسرجة ومعدة لركوبى ..! ونظرت إلى ذلك الرجل الجبار نظرة امتنان وشكر .. سأعود الآن إلى قريتى مرفوع الرأس وكل ذلك بفضله .. ولقد علمت أن معاذًا جاء بالفرس منذ يومين وكتموا عنى الخبر لأفاجأ هكذا ..

وركبنا نحن الثلاثة وخرجنا من النجع . وكان الشيخ عمران يركب حمارًا وكذلك ابنه ، ولهذا سرنا متمهلين نقطع الطريق بالحديث والتندر مع معاذ .. وكان دائم المرح حلو الدعابة ، لا يكف عن الضحك ولا يعير باله لشىء فى الوجود وهو الرجل المقطوع الذراع .. وكانت وجوهنا إلى الشمس .. فلما غربت تنفسنا الصعداء ، وأسرعنا فى السير ، وكان الطريق على عادته مقفرا وكل شىء فى سكون .. وأخذ الظلام يشتد ويلف كل شىء فى ردائه الأسود ..

وكنا كلما أوغلنا فى السير زاد السكون ، واشتدت الوحشة فى الطريق .. وقطع هذا السكون دوى رصاص شديد انهمر فى غير انقطاع مرة واحدة ، واستمر عدة دقائق .. فتمهلنا فى السير ، وأمسكنا بالبنادق ..

وقلت للشيخ عمران وأنا أتسمع :
ـ عرس فى القرية ..
فقال وهو ينظر إلى ومض البارود :
ـ إنه ليس بالرصاص الذى يطلق فى الأفراح ، إنه شىء آخر ..

انقطع صوت الرصاص ، وخيم السكون من جديد .. وظللنا نرقب .. ورأينا من بعيد خطا أسود يزحف إلى الغرب .. ومددنا أبصارنا وتبين الخط الأسود .. وضح ما فيه .. إنها ماشية تساق سراعًا فى طريق غير مألوف .. وخلفها وأمامها رجال مسلحون .. لقد سرقوا هذه المواشى من القرية ، واشتبكوا مع الحراس فى المعركة التى سمعنا دويها . ثم تغلبوا عليهم وهاهم قد أفلتوا بالماشية يسوقونها سراعا ..

وترجل الشيخ عمران ، وأشار علينا بالنزول .. ترجلنا وبحثنا عن مكان نربط فيه الركائب ، ووجدنا ساقية خربة .. فربطناها فى ترسها وأخذنا نرقب .. تحول الرجال بالماشية إلى طريق آخر ، ومضوا فى الظلام وابتدأ عمران يعمل بسرعة .. تناول بندقيته ومضى فى أثرهم .. ولما هممنا بالذهاب معه ، رفض .. وحلف على معاذ بالطلاق أن يبقى معى فى الساقية ولا يتركنى حتى لو قتل .. وبعد أن تنتهى المعركة بخير أو بشر نستأنف السير إلى القرية ..

وخرج الرجل وحده ، رأيناه يمضى سريعا كما يمضى الليث فى الظلام ..

وبعد قليل سمعنا الرصاص يدمدم .. ابتدأ عمران يقاتل وحده .. أخذت بندقيته تزأر .. إن له طريقة فريدة فى القتال ، كما أنه رجل فذ فى كل شىء ..

واستمرت المعركة حامية مدة . ثم انقطع صوت النار .. وخيم السكون ولاحت لنا أشباح تتحرك . تتحرك فى اتجاهنا . إنها المواشى . وها هو عمران وراءها يسوقها .. لقد خلصها من اللصوص وحده ..

ودخلنا بالمواشى المسروقه القرية ، واستقبلنا أهلها استقبال الفاتحين .. وكان عمران يسير فى المؤخرة وحده .. مطرق الرأس ، متواضعا كأنه ما فعل شيئًا ..

=================================
نشرت القصة فى صحيفة أخبار اليوم 7/12/
1946 وأعبد نشرها فى مجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان العربة الأخيرة و قصص من الصعيد
من اعداد وتقديم على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر

اسبيرانزا 18/08/2008 21:51

الغزال فى المصيدة
 
نزلت سنية من الترام تحمل صغيرها على صدرها .. وكانت شمس يوليو حامية الحر يلفح الوجوه .. وصعدت فى الشارع الطويل المؤدى إلى المستشفى وهى تحس بالتعب الشديد وبوخز الإبر فى عظامها ولحمها .. فقد أرهقها مرض ابنها ومزق أعصابها .. عالجته بكل الوصفات المعروفة دون نتيجة .. وأخيرا ذهبت به إلى المستوصف القريب من بيتها فأخبرها الطبيب بأنه مريض بالحمى ويجب نقله إلى المستشفى فورا ، وإلا ضاع بين يديها .. سمعت هذا وطار قلبها شعاعا .. وحملته إلى المستشفى وهى تحبس عبراتها ..
ولأنه وحيد وقطعة من كبدها وجاءت به بعد موت اثنين من ابنائها .. فقد تجمعت كالقوقعة واحتضنته وحرصت على أن يبقى لها .. ولا يموت كما مات من قبله .. وأن تزود عنه عاديات الأيام .. وكل الاعاصير التى تهب فجأة فى وجه الفقير .. وأن تكافح لتمرضه بكل ذات نفسها وكل ذرة فى جسمها ..
وكانت الشمس تتوسط كبد السماء ، ولم تجد سنية مكانا للظل فى الشارع ، وكان هناك صف من العربات التى تجرها الخيل واقفة فى بداية الشارع ، تنتظر النازلين من الترام ، لتهون عليهم مشقة الطريق إلى المستشفى ، أو إلى أى مكان آخر فى هذا الجو الشديد الحرارة ، ولكن سنية لم تكن ممن يركبن العربات ، فسارت وحدها فى الطريق الصاعد ، ولمحت عن بعد نسوة يتقدمنها فى ملاءات سوداء .. نساء يلبسن نفس زيها .. وفى مثل فقرها وبأيديهن الصرر ، ووراءهن أطفال يتدحرجون فى الشارع الساكن ..
وعندما مالت فى الطريق الرملى إلى اليسار ، سألت عن المستشفى بعد أن اختفى أثر النسوة .. فقد خشيت أن تتوه بعد أن تكشفت أمامها رمال الصحراء .. وتعددت البنايات الكبيرة ..
وعرفت المستشفى من عربات الطعام والفاكهة الواقفة بجانب السور والتى يحط عليها الذباب بكثرة .. ورأت سيارة من سيارات نقل الموتى قريبة من الباب الواسع .. ونساء فى سواد يولولون .. فانقبض قلبها لمنظر السيارة وحال النسوة ..
وكان الباب مفتوحا على مصراعيه لأنه يوم زيارة عامة .. فدخلت سنية مع الداخلين ..
ودلوها على غرفة الاستقبال .. وكشف الطبيب على الصبى .. وحملوه عنها إلى عنبر فيه غيره من الأطفال المرضى .. وكانوا فى حالة تعيسة .. وجوه شاحبة وعيون تبدو واسعة بعد أن هزل اللحم وبرزت العظام .. وقذارة فى الفراش وفى الأرض .. وأصاب سنية الذعر ولكن ماذا تفعل .. أرقدوا ابنها على حشية عليها ملاءة قذرة تغير لونها من فرط ما سكب عليها وكان الذباب يتكاثر فى العنبر والجو خانقا ..
وبقيت سنية جالسة على الأسفلت بجانب ابنها ملتصقة بالسرير ودافنة رأسها فى الملاءة القذرة التى تغطى الحشية .. كان الصبى جامد النظرات ، ساكن الجوارح .. ولكن على وجهه الرضا لأنه يحس بوجود أمه عن قرب ..
ووقفت ممرضة على رأس سنية وقالت لها :
ـ تعال يا ست ..
ـ إلى أين ..؟
ـ ستأخذين حقنة ..
ومشت وراء الممرضة فى الطرقات الطويلة .. وفى بناية فى حديقة المستشفى حقنها طبيب بحقنة ضد التيفود .. وخرجت من البناية لتعود إلى ابنها .. ورأت بابا مفتوحا فى غرفة قليلة الضوء .. غرفة ساكنة باردة فى هذا الحر .. فدخلت من الباب تنظر .. رأت جسم صبى ملقى فى حوض كأحواض السمك وعليه قطع الثلج .. وتقدمت لتنظر وقد أقشعر بدنها .. وأدركت أن الصبى ميت وهذه هى الثلاجة .. وحاولت أن تصرخ ولكن خانها صوتها .. وخرجت مهرولة إلى عنبر ابنها .. وهناك احتضنته .. ودفنت رأسها فى صدره ..
واستغرقت سنية فى وضعها ونسيت نفسها ثم استفاقت على صوت التمرجى يقول لها بغلظة :
ـ ميعاد الزيارة انتهى .. اتفضلى .. روحى ..
وسألته :
ـ أروح .. واترك الولد ..؟
ـ نعم .. هذا مستشفى .. وليس بيتا ..
وأحست بحرقة ، أحست بمن يخنقها ، تتركه لهم ليضعوه فى حوض وعليه الثلج كالذبيحة .. أبدا .. أبدا ولو قطعوها إلى قطعتين .. تتركه هكذا وهو بين الموت والحياة .. أبدا ..
أخرجوها من العنبر بالقوة .. ومن باب المستشفى .. ولكنها ظلت لاصقة بالسور ..
***
وعندما خيم الظلام على الصحراء وشمل السكون المنطقة .. اقتربت من الباب ودفعت خمسة قروش للبواب ودخلت متسللة كاللصة .. كانت تعرف مكانه رغم تعدد العنابر وكثرة الطرقات ..
ودخلت العنبر وهرولت إلى سرير ابنها وهى تدير عينيها فى الضوء الباهت بذعر ورجفة .. لم يكن هناك ممرض ولا ممرضة .. وكانت تسمع بكاء الأطفال فى العنبر فيرتجف قلبها .. واحتضنت ابنها وأحست بالحرارة الشديدة فى جسمه .. وكان الصبى يهذى وجسمه الصغير يرتعش وألصقت قلبها بقلبه .. وخيل اليها أنها لاتسمع ضربات القلب الصغير .. وألصقت خذها بخده وأخذت تبكى .. ابنها يموت ..
وخرجت من العنبر مهرولة تبحث عن طبيب لينقذ ابنها .. وظهر رجل فى رداء مصفر فى نهاية الطرقة .. فلما رآها أسرع نحوها وأمسك بها وقال بخشونة :
ـ كيف دخلت المستشفى فى مثل هذه الساعة ..؟
ـ ابنى يموت ..
ـ وما الذى جاء بك فى الليل .. وكيف دخلت ..؟
ـ من الباب .. ابنى يموت ..
ـ من الباب .. مستحيل .. تعالى .. نسأل البواب .. وليلته سوداء إن كان قد أدخلك ..
وأمسك بها من يدها بعنف وجرها إلى البواب .. وأنكر هذا أنه رأى حتى ظلها ..
وقال التمرجى وهو يحد النظر إلى وجهها :
ـ إذن فقد تسلقت السور لتسرقى .. ولا بد من تسليمك للبوليس ..
ـ سرقت ..!؟
ـ أجل .. والعنبر ملآن بأشياء الحكومة .. والمخزن مفتوح .. وكل ليلة تسرق أغطية وبطاطين وآلات طهى .. ولا نعرف السارق .. وأخيرا وقعت ..
وأخذت تتوسل ..
ورأى لأول مرة جمالها الباهر وصباها .. وعينيها والثوب الأسود والمنديل الأزرق يغطى الرأس ويزيد وجهها نضارة وتألقا ..
وبكت ..
ـ اعمل معروف .. أنا مسكينة والولد بيموت .. أليس عندك أولاد ..
ـ عندى ولكنى لا أتسلق السور فى الليل ..
ـ البواب .. كذاب .. حلفه .. لقد دخلت من الباب ..
ـ طيب .. تعالى .. وفى الصباح سنسلمك للمعاون وهو يتصرف ..
وسحبها إلى غرفة فى حديقة المستشفى ..
ـ نامى هنا إلى الصباح ..
وأغلق عليها الباب ..
ظلت متيقظة فى الظلام تنظر إلى السقف .. وهى ترتعش من الخوف .. كانت قد فوجئت بهذا الاتهام الذى شل حركتها وإرادتها تماما .. ورقدت خائفة .. وبعد ساعة أحست به يدخل عليها ويرقد بجوارها ..
وقاومت بكل شبابها وأنشبت أظافرها فى لحمه .. ولكنه لم يتراجع واغتصبها وهو يسيل عرقا من فرط مقاومتها العنيفة ..
وفى الصباح لم يسلمها للمعاون وتركها تذهب إلى العنبر الذى فيه ولدها ..
ومضت أيام وهى فى داخل المستشفى بجانب ابنها ..
وجعلوها تغسل بلاط العنبر وطرقات المستشفى وتحمل التراب والنفايات .. جعلوها تفعل كل هذه الأشياء لكى تبقى بجانب ابنها .. ومادام ليس معها نقود .. فقد كانت تدفع عرقها ..
كان كل همها أن يعيش الصبى .. ومادامت بجانبه ترعاه سيعيش ..
***
وظلت عشرين يوما فى المستشفى ..
وكانت تذهب إلى البيت خطفا ثم تعود جريا إلى المستشفى .. ونسيت زوجها الفران .. كان عمله كله فى الليل ، فإذا جاء فى الصباح عرف أنها فى المستشفى ونام .. كان يحب الولد وكان مطمئنا عليه مادامت أمه بجانبه ..
ظلت تكنس وتمسح البلاط وترضخ لكل ما تطلبه منها الممرضات وهى فى كل يوم خائفة أن يقدمها ذلك الرجل للبوليس كسارقة .. ومن السهل على مثله أن يلفق لها تهمة كبيرة .. كانت تخاف منه وكان هو يخاف منها أن تحدث الناس بفعلته .. تحكى القصة لطبيبة أو لممرضة وهذه تأخذها إلى مدير المستشفى ثم يصل الأمر إلى النيابة فى الحال ، كان يخاف منها أكثر مما تخاف منه .. وفى كل يوم كان يحب أن تبقى فى المستشفى وأن يراها بعينيه لأنها لو خرجت ستتحدث .. ولو تحدثت بما جرى لها سيحرضها الناس على إبلاغ البوليس ..
كان وجودها تحت سمعه وبصره يطمئنه .. كما أنها كانت تطمئن عندما تراه فى طرقات المستشفى ساكنا جامدا .. فتدرك أنه نسى أمرها ..
وفى ظل هذا الخوف الرهيب المتبادل قضيا معا عشرين يوما يطوقهما سور المستشفى الكبير وهما فى عداء باطنى خفى قاتل ..
كان يكرهها وكانت تكرهه ..
كانت تكرهه لأنه سبب لها كل هذا الرعب .. وكان يكرهها لأنها قد تكون السبب فى فصله من عمله وتشريده فى الطرقات ..
***
فى الظهر .. مر الطبيب وكشف على الطفل .. وسمح له بالخروج ..
وخرجت به سنية من باب المستشفى فى مثل الساعة التى دخلت فيها منذ ثلاثة أسابيع .. وكانت الشمس حامية والحرارة أشد ضراوة .. ومشت فى نفس الطريق الذى جاءت منه من قبل ..
كانت فى هذه المرة تنزل ولم تكن تصعد ، وكان المشى أكثر سهولة .. ولكنها كانت تشعر بالانقباض .. كان الصبى قد شفى تماما واسترد كامل صحته .. ولكن عافيته لم تشعرها قط بالفرحة .. كان هذا الصبى هو السبب فيما حل بها من بلاء ، لو كان معها نقود لمرضته فى البيت ونجت من هذا الوغد .. مرضته فى البيت بعيدا عن العيون .. ودون أن تخبر أحدا بنوع مرضه .. ولكنه مرض بحمى معدية .. ولا بد أن يشيع الخبر ويتسرب من أى شخص .. وكتمانه من المستحيل .. وسينقلونه إلى المستشفى رغم أنفها ..
إن ما حدث كان مقدرا لها والمحنة التى مرت بها لن تغفر لها خطيئتها قط .. كان يجب أن تستقتل ولو مزقها إربا وقطع أنفاسها ..
وقبل أن تخرج من الشارع الرئيسى مرت بجانبها سيارة صغيرة وأطل رأس رجل فى قميص مفتوح وأوقف السيارة وقال برقة :
ـ تعالى أوصلك .. يا سنية ..
وجفلت .. كيف عرف اسمها .. ثم تذكرت هذا الوجه .. أنها رأته فى المستشفى .. وكان دائما بشوشا طلق المحيا كما هو الآن .. فى أى عنبر رأته وفى أى مكان ..؟ لم تكن تدرى ..
وردت سنية بضعف :
ـ كتر خيرك .. قربنا من الترام ..
ـ اركبى من أجل الصغير .. الشمس حامية ..
ونظر إليها مرة أخرى نظرة كلها حنان ..
فقالت لنفسها :
ـ وماذا يضير .. وما الذى بقى لى بعد الذى جرى ..؟
وركبت فى المقعد الخلفى صامتة والغلام فى حجرها ..
وقال الطبيب وهو يسير بالسيارة متمهلا :
ـ ابنك .. استرد عافيته ..
فهمست :
ـ ليته .. مات ..
ولم يسمعها ..
وقال وهو ينظر إلى الطريق دون أن يدير رأسه إلى الخلف :
ـ لقد حقنتك حقنة التيفود .. بعد أن وضعنا الصبى فى العنبر .. وكنت لا تريدين أن تشمرى عن ذراعك .. أتذكرين ما حدث ..؟
وضحك .. وابتسمت ..
ـ أنا جاهلة .. يا بيه .. وهذه أول حقنة فى حياتى وكيف أشمر عن ذراعى أمام رجل ..؟
وتذكرت كل شىء لقد حقنها حقا .. وكان رقيقا مهذبا وإنسانا ولكنها كانت فى دوامة ، ومر هذا سريعا .. مرت هذه اللمحة الإنسانية سريعا وبقى الأثر المدمر .. الذى محا كل عاطفة أخرى تأتى من إنسان ..
لقد جرجروها ومزقوها بغلظتهم لأنها فقيرة .. واستغل الرجل النذل جمالها ليلطخه بالوحل .. النذل أرهبها ليوقعها فى الشرك .. نصب لها المصيدة الجبان .. النذل ..
وسمعت الطبيب الشاب يسألها :
ـ ساكنة فى أى جهة ..؟
وخجلت أن تقول فى الدراسة قريبا من المقابر ..
وقالت :
ـ قريبا من الحسين ..
ونظر إلى عينيها وكان يود أن يقول لها :
ـ أنت جميلة يا سنية ولم أر مثل جمالك قط فى أنثى .. وأنا سعيد بركوبك معى .. سعيد سعادة ليس لها من حدود ..
وقالت بعد أن اقتربت العربة من شريط الترام :
ـ سأنزل ..
ـ لا .. سأوصلك إلى بيتك ..
وصمتت وكانت الدموع فى عينيها وهى تحدق فيه ..
وهمست :
ـ أخيرا .. يجىء إنسان ..
وسألته وهى نازلة .. تضع طرف طرحتها على جسم الصبى ..
ـ ألا تريد شيئا .. يا دكتور ..؟
ـ أبدا .. شكرا ..
ـ أنظف لك البيت .. وأغسل ملابسك ..
ـ شكرا .. تسلم يدك ..
وظلت واقفة فى مكانها شاردة حتى بعد أن تحركت العربة واختفت عن نظرها ..

اسبيرانزا 18/08/2008 21:54

الرجل الصامت
 
أحمد إبراهيم ولم يكن هذا اسمه المدون في شهادة الميلاد .. ولكنه كان اسمه الذي اشتهر به وأصبح لا يسمع سواه ولا ينادى بغيره .. حتى نسى على توالى الأيام اسمه الحقيقي ..
وعندما التقيت به لأول مرة استرعى انتباهي بهندامه الغريب وملامح وجهه الفريدة ، كان رأسه كبيرا .. وجبهته عريضة .. وأهدابه غزيرة كثة وعيناه ضيقتين تلتمعان بحدة .. وأنفه قصيرا .. وشعر رأسه أسود خشنا كفروة الخروف ..
وكان يعمل طاهيا في بيت ضابط النقطة وفي بيتي ، وفي بيوت كثيرة في الحي .. وما كنا جميعا ندرى كيف تتاح له كل هذه المقدرة ..
ولكنه في الواقع لم يكن طاهيا بالمعنى الدقيق لصاحب هذه الصفة .. بل كان لا يعرف إلا صنفا واحدا من الطعام يطهوه في كل البيوت .. وكنت أجد الكفاية في أن يجيء إلى شقتي يومين في الأسبوع يطهو فيهما وينظف البيت ..
وأحسب ضابط النقطة كان يفعل مثلى .. ويترك ما بقى من الخدمات للعساكر ..
ولا أدرى كيف وقع عليه الضابط .. أما أنا فقد وقعت عليه في عصر يوم وأنا راجع من الجامعة ونازل من الترام في دوران فم الخليج ..
وكان معي كراسة المحاضرات في يد .. وفي يدي الثانية بطيخة اشتريتها بقرشين من الميدان .. فأشفق على منظري وحمل عنى البطيخة إلى البيت ، ومن وقتها لازمني ..
وكان يرتدى بدلة عسكري كاملة .. السترة سترة ضابط والبنطلون بنطلون رجل من رجال السواري .. ضيق محبوك .. والسترة واسعة مهلهلة .. مفككة الأزرار منفوخة الجيوب ..
فكان منظره مضحكا لكل من يشاهده ، ولكن ما من شخص كان يجرؤ على الضحك عليه ، لأنه كان مرهوبا من الحي كله لمجرد التصاقه بالنقطة ولأنه يخدم الضابط ..
ولم يكن الضابط الشاب مكروها ، بل كان محبوبا طيب المعشر .. ولم يكن من طباعه أن يحتجز أحدا من الناس في النقطة إلا في حالات الضرورة التي يتطلبـها الموقف .. بل كان يتصرف بالحسنى والمرونة والكياسة في غالبية الحالات العارضة ..
وظل هذا الطبـع الخـير يلازمه في أثنـاء المظاهرات التي كانت كثيرة في هذه الحقبة من حياتنا .. والتي كانـت تأتى حشوده من الجيزة ، مركز تجمع الطلبة ، وتعبر كوبري عباس .. إلى كوبري الملك الصالح .. وعنـد دوران فم الخليج ، كان الضابط يفرقها بالكلمة الطيبة والجلد على مغالبة الموقف .. قبل أن تصـل إلى مدرسة الطب في شارع القصر العيني .. وكان دائما يبعد الكونستبلات الإنجليز عن الاحتكاك بالطلبة وإثارتهم .. ويتصرف بلباقة .. وبجانبه يقف إبراهيم في بدلته العسكرية ، طويلا صامتا ، كأنه الجنرال الذي يكتفي بإصدار الأوامر مرة واحدة .. ثم يطبق بعدها فمه إلى نهاية الجولة .. وما أظن إلا أن حدة الطلبة كانت تتكسر على طلعته وزيه الغريب .. وتخبو مرة واحدة .. وفي غمضة عين تصبح النار المشتعلة رمادا وهشيما ..
وكان إبراهيم يستريح من عناء كل الأعمال بعد الغروب ، ويتبختر مزهوا في المنطقة بين كوبري الملك الصالح ودوران فم الخليج .. ويفرض أتاوته على المعدية .. وعلى الباعة الجائلين ..
وإذا أرخى الظلام رواقه ، أصبح شاطئ الترعة الذي يخيم عليه الشجر الضخم الملتف رهيب الوحشة في الليل .. شديد الظلام مرعبا .. حتى لا ترى موضع قدميك بعد ثلاثة أقدام .. لأن هذه المنطقة لا تضاء بالمصابيح إطلاقا ، كما لا توجد حوانيت في الواجهة المقابلة تخفف من وطأة الظلام .. بل كانت هذه الرقعة الكثيفة الأشجار خالية تماما من الدكاكين .. وحتى المنازل المتناثرة هنا وهناك كانت صامتة رمادية شهباء خرساء .. تضفي ظلا كئيبا موحشا على الشارع كله .
ويحدث أن يصدم الترام ، أو تدهس سيارة عابر سبيل وتلقيه تحت الشجر ، أو يطعن شخص غريمه في هذه الظلمة الرهيبة ..
وعندما يبلغ الحادث للنقطة يكون إبراهيم في خطف البرق قد نفض جيوب المصاب .. قبل أن يأتي المحقق أو تصل عربة الإسعاف ..
وكان يلتذ من هذه العملية حتى وإن لم يجد في الجيوب غير بضعة قروش قليلة .. ويعد هذا العمل مغامراته الكبرى .. ويترقب الحوادث ويشتمها من بعيد بلذة عارمة ..
وكان يحكى لي كل ما يجرى ويعترف بعملية السطو الليلية هذه وهو هادىء الملامح تماما .. كأنه يقوم بعمل مشروع ..
ولما أبديت له سخطي ونفوري من فعله .. قال في سخرية :
ـ إذا لم أسرقهم أنا سيسرقهم غيري .. قبل أن يصلوا إلى المستشفي .. أو إلى المشرحة في زينهم .. هل تتصور أنه يمكن أن توجد أمانة في هذا الجو ..؟
ـ لماذا لا ..؟
ـ إن هذا مستحيل تماما .. الحياة غير الذي تقرؤه في الكتب يا عبد الحميد أفندي .. عندما تنام عين الإنسان يتحرك الشيطان .. ويتحرك بكل ضراوة .. وسم هذه خسة .. ولكنى أفعلها .. وسأظل أفعلها ..
وقد عجبت لهذه الأفكار السوداء في رأس إبراهيم .. وقدرت أن طفولته كانت قاسية ومرة .. حتى جعلته هكذا ..
ورغم هذه النزوة التي كان يندفع إليها في الليل ، وهو مسلوب الإرادة تماما .. فإنه كان في منتهى الأمانة في كل ما يتسوقه لي من أشياء .. ولا يزيد مليما واحدا ، بل كان يتحمل المشقة ويذهب إلى حي السيدة .. ليشترى لى الأجود والأرخص ويوفر بضعة قروش في كل مرة ..
ومن البيوت التي كان يخدمها .. شقة في الدور الرابع في نفس العمارة التي كنت أقيم فيها .. وكانت تسكنها سيدة ومعها بناتها الثلاث وكن جميعا يلبسن السواد في الليل والنهار .. ووجوههن شاحبة حزينة ..
وكانت هذه الأسرة ضحية لرجل اشتعلت في رأسه الوطنية ـ منذ الصبا ــ وأخذ يكافح الاستعمار الإنجليزي بكل الوسائل .. وحدث أن وقعت حادثة اغتيال لبعض كبار الإنجليز في مدينة القاهرة فاتهم فيها .. وأعدم .. ونسى الناس الأرملة وبناتها نسوهن تماما .. وعشن بعد عائلهم في فقر وحزن .
وعرفت من إبراهيم أنهن يعشن من دخل ضئيل ولولا هذا لمتن من الجوع .. وكنت كلما شاهدتهن أشعر بشيء ثقيل يحط على قلبي ويكاد يسحقه .. ويضاعف من ألمي أنني كطالب فقير لا أستطيع أن أفعل لهن شيئا..
وكنت أتساءل كيف نسيهم الناس ونسيتهم الأحزاب .. ثم أدركت السبب .. كان الخوف من بطش الإنجليز وإرهابهم يبعد الناس عنهم .. لقد أمات الإرهاب كل مروءة وشهامة في طباع البشر .. وقتل الخوف كل خير في الإنسان ..
وإلى جانب هذه الأسرة التاعسة التي نسيها الناس .. يعيش في القاهرة نفسها المهرجون والخونة والمتجرون في الوطنية .. يعيشون في القصور ويكنزون الأموال ..
وكان إبراهيم الذي لا يعبأ بالطعام ، ولا بالشراب ، ينام كيفما اتفق في مدخل العمارة .. أو على البسطة التي أمام شقة الأرملة وبناتها .. يفرش حصيرا ويتمدد .. وكثيرا ما كانت تنتابه حالة اكتئاب حادة تجعلني في حيرة من أمره .. وفي أثناء هذه الحالة يكون طعامه رديئا .. وطباعه متغيرة .
وكان يتقاضى منى جنيها واحدا في الشهر نظير خدمته .. ولا يطلبه إلا إذا أعطيته له .. فلم يكن في حاجة لنقود لطعامه ، أو ملابسه لأنه يأكل في البيوت التي يشتغل فيها ويرتدى الملابس القديمة .. ويوما طلب منى هذا الجنيه وهو يبدى أسفه ، وعلى وجهه الخجل ، فأعطيته له ولم أسأله عن السبب .. فتناوله وخرج في الحال ..
وقد جعلني هذا أراقبه من النافذة .. ورأيته بعد ساعة يدور في الميدان ، وبجواره طبيب الحي ممسكا بحقيبته ..
ثم وجدته يصعد به إلى شقة الأرملة ..
وحدث ما جعله يدخل قفص النقطة .. وهو الذي كان يتفرج على المحجوزين فيه ويسخر منهم .. ذلك أنه شاهد شابا خليعا يلاحق كبرى بنات الأرملة .. تحت الشجر .. ويمسكها من معصمها في غبش الظلمة .. فصرخت الفتاة وكان إبراهيم يعس كعادته في هذه الجهة .. فجرى على صوتها وأمسك بتلابيب الشاب .. وكان مع هذا نصل حاد أراد أن يطعن به إبراهيم .. فانتزعه منه إبراهيم ، وهو في ثورة غضبه على الفتاة ، وطعنه بقوة وسقط الشاب ..
وتجمع الناس في الظلمة .. وقد روعهم المشهد الدامي .. ولكن إبراهيم تقدم وحده دون أن يمسك به إنسان .. ودخل النقطة ..
وروت الأرملة كل شيء عنه بعد ذلك .. وكيف أنه كان يعطيهم كل ما كان معه من نقود ، ويحرم نفسه من كل الأشياء ..
وأدركت أنا ، بعد اعترافها هذا ، أنه كان يعطيهم حتى النقود التي كان يجمعها من جيوب المصابين في الحوادث..
===============================

اسبيرانزا 18/08/2008 21:55

الحقيبة
 
دخلنا في عاصفة عاتية قبل أن نبلغ طوكيو ..

وأخذت الطائرة الضخمة تتأرجح وتلعب بها الأنوار ..

وكان بجواري راكب من سنغافورة .. لم يستطع أن يصمد في كرسيه فأخذه القيء.. وخشيت أن تصيبني عدواه.. بعد أن أصبحت المضيفات الثلاث عاجزات عن إسعاف الركاب لكثرة من أصيب منهم بالدوار في ساعة واحدة..

فتحركت من مكاني إلى أربعة صفوف أمامية في الدرجة السياحية.. كانت خالية تماما من الركاب ..

واسترخيت على الكرسي الطويل .. معلقا عيني بعد أن أغلقت أزرار المصابيح المضاءة فوق رأسي.. وزر مكيف الهواء أيضا .. فقد كنت أود أن أنام .. وأغيب عن وعيي حتى تنجلي العاصفة .. ولقد أفلحت في هذه المحاولة فعلا وانقضت فترة طويلة وأنا لا أحس بشيء مما يجرى حولي.. ثم فتحت عيني فوجدت المكان قد شغل براكب آخر.. ولعله آثر أن يفعل كما فعلت .. ولكنه لم يكن في مثل حالي..كان متيقظا تماما وليس على وجهه أي أثر للإعياء ..


ولما رآني أفتح عيني وأحدق فيه برهة قال بإنجليزية فيها لكنة .. لقد مرت العاصفة ..

وأشار إلى اللافتة المضيئة التي تحمل في مضمونها هذا النبأ .. والتي تعلن فك الحزام الذي يربطنا بالكرسي..

وقدرت من جلسة الرجل وملامح وجهه أنه صيني من هونج كونج أو تاجر من أهل سيام .. ذاهب في مهمة إلى طوكيو .. ثم ظهر لي من حديثه أنه ياباني من سكان طوكيو نفسها وأنه كان في مهمة في الخارج وعاد إلى وطنه .

ولما علم أنني مصري في رحلة سياحية إلى طوكيو .. تهلل وجهه .. وقال :

ـ لقد تخلصتم من الاحتلال الإنجليزي بضربة قوية .. وسنفعل مثلها لنتخلص من الأمريكان..
ـ إن شعبكم قوى ولا يمكن أن يرضى بأي احتلال..
ـ لقد فرضته علينا الحرب .. وهذا أشد شر فيها ..

وانطلقنا في فنون الأحاديث .. وكلما مرت دقيقة ازداد الرجـل مودة لي وألفة .. وطلب من المضيفة كأسين من النبيذ ..

ثم أخذ يقص علىّ سيرة حياته ويفتح لي من طوابا نفسه .. حتى علمت منه أنه عضو في جمعية لمقاومة الاحتلال الأمريكي لليابان ، وأنه كان في مهمة خطيرة ويحمل معه في هذه اللحظة حقيبة صغيرة .. وفيها أشياء لو ضبطت معه سيعدم..

وسألته :
ـ أين هي ؟
ـ هناك على الرف ..

وأردف ببساطة :
ـ هل يمكن أن تحملها عنى .. إني أنمر فيك مذ ركبنا الطائرة.. ولن يفتشوك في الجمرك ولن يفتحوا حقائبك إطلاقا..
ـ وإذا فتحوها..
ـ لن يمسوا منك شعرة .. لنا وسائلنا ..
ـ ما دامت الحقيبة تساعد على إنهاء الاحتلال في اليابان .. فإني احملها كجندي متطوع ..

فتهلل وجهه أكثر .. وقال بابتهاج :
ـ هذا ما قدرته .. إنك باسل ..

وأعطاني بطاقة فيها العنوان الذي أحمل إليه الحقيبة .. إذا حدث شيء يمنعنا من المقابلة في بوفيه المطار.. بعد أن تتم جميع الإجراءات .. وطلب كأسين من النبيذ ..

وناولني الحقيبة ولم تكن عليها أية بطاقة فوضعتها بجانبي ببساطة ..

والواقع أنني كنت أتصور أن المسألة سهلة.. ولكن لما هبطت الطائرة على الأرض وأمسكت الحقيبة في يدي شعرت برجفة هزت كياني كله.. ولم تكن ثقيلة ولكنني أحسست بها تخلع كتفي ..

وكان معي حقيبة أكبر منها على الرف ومعطف.. فاضطررت أن ارتدى المعطف مع أنه لم يكن هناك برودة.. لأستطيع أن أحمل الحقيبتين..

ونزل مسيو كوجا أمامي على سلم الطائرة .. ونزلت وراءه .. ولكنه اختفي عن نظري ..ثم ظهر مرة أخرى في صالة المطار الكبرى عندما اجتمع جميع الركاب .. وأخذ موظف في المطار .. ينادى الركاب بأسمائهم وشعرت بالاضطراب الشديد وأنا واقف وحدي.. وقلت لنفسي من يدرى .. لعل الرجل خدعني بالحديث الوطني وأشعل في النخوة .. وهو في الواقع ليس أكثر من مهرب وليس في الحقيبة سوى مهربات جمركية.. عملة مهربة أو جواهر ..وإذا ضبطت ستكون فضيحة لي.. لقد البسنى الرجل التهمة بكل بساطة وهرب .

وظللت في دوامة عاصفة من الخواطر أكثر من ثلث ساعة.. وأنا جـالس في صالة المطار ..

ورأيت أن حركة انجاز أوراق الركاب تتم ببطء ودقة .. مع أننا لم ندخل منطقة الجمرك بعد .. فكيف إذا دخلناها .. وندمت على تسرعي .. وبحثت عن الرجل لأرد له الحقيبة ولكنني لم أجده فقررت أن أتركها.. بجانب الكرسي ..

ولكن عندما دخلت من باب الجوازات كانت في يدي وتركت الأمر للمقادير تفعل بى ما تشاء ..

ولما دخلت المنطقة الجمركية بعد إجراءات طويلة معقدة .. وجدت حقائبي كلها قد أخرجت من الطائرة ووضعت داخل الحاجز الجمركي مع حقائب الركاب ..

وكان موظفو الجمارك في الناحية المقابلة لي يفتشون حقائب أخرى .. ولاحظت أنهم يفتشون كل حقيبة تفتيشا دقيقا ..

وجاء دورنا .. رفعوا حقائبنا عن الأرض ووضعوها على الطاولة المستديرة .. ولكنني بقيت في مكاني لم أتحرك .. ظللت بعيدا وعقلي يشتغل بسرعة ..

وعندما جاء فوج من الأجانب وقدرت أن فيهم بعض الأمريكان وقفت في زحمتهم وحقائبي كلها وسط حقائبهم ولاحظت أنهم يفتحون جميع الحقائب ويفتشونها بدقة ويسألون دائما عن السجائر والويسكي ..

وهنا أخرجت المفاتيح من جيبي وفتحت جميع الحقائب بما فيها حقيبتي الصغيرة التي كانت في يدي .. وأبقيت حقيبة الرجـل تحت الحاجز الخشبي بين رجلي ..

وجاء الموظف وفتش حقيبة من حقائبي فقط ثم شغل بمشادة بين زميل له وأحد الركاب وكان قد وجد في حقيبته سجائر لم يخطر عنها .. وعلا صياح الراكب وتجمع حوله الركاب .. ولما عاد الموظف إلى مكانه .. نظر إلى حقائبي المفتوحة ..

وقال :
يمكنك أن تغلقها ..

ورأيته قد استدار ليختم مشط سجائر وجده في بعض الحقائب .. وأخذت أغلق حقائبي .. وأنا أرقبه .. رفعت حقيبة الرجل ووضعتها وسط الحقائب المفتشة دون أن يلحظ ذلك أحد .. وقفز قلبى وأنا أفعل ذلك .. وتصبب العرق ..

ولكن لما وجدت أن أحدا لم يشاهد هذه الحركة طرت من الفرحة..

وسألني الرجل عندما واجهني مرة أخرى ..
ـ كم حقيبة معك .. ؟
ـ سبعة ..
ـ وفتشت كلها .. ؟
ـ أجل ..
ـ وليــس مـعك سجائر .. ولا ويسكي .. ولا أي شيء ممنوع ..؟
ـ إطلاقا ..

وكان في أثناء كلامه يضع العلامة على كل حقيبة بالطباشير ثم توقف.. وكأنه ارتاب في حقيبة الرجل .. فنظر اليها قليلا بإمعان ..

ثم سألني :
ـ وهذه هل فتشت ..؟
ـ أجل .. هل أفتحها مرة أخرى ..؟
ـ أظن أنه لا داعى ..

ووضع العلامة على الحقيبة بالطباشير ..

حدث هذا في سرعة رهيبة .. وكأنما فك حبل المشنقة عن عنقى ..

وتركت الموظف يشير بيده للعمال الذين وضعوا الحقائب كلها على السلم الكهربي .. ليذهب بها سريعا إلى خارج حاجز الجمرك ..



***

واتجهت إلى السلم الذي سيقودنى إلى الخارج وأنا شاعر بفرحـة كبرى .. وقبل أن أبلغ آخر درجة .. رأيت كوجا يسير أمامى .. ولكنه لم يكن وحده كان بجانبه اثنان من البوليس الحربى الأمريكى وجنديان يابانيان وكانوا جميعا يحملون المدافع الرشاشة .. وأدركت أنه وقع في أيديهم ..

وأسرعت خلفهم .. حتى رأيتهم يدخلونه سيارة مغلقة .. ومضوا به سريعا ..

وشعرت بشىء ثقيل يضغط على قلبى ويكتم أنفاسى .. وعدت إلى الداخل وأنا أخرج من قاعة وأدخل أخرى .. كأني أدور في بيت جحا .. حتى وجدت نفسى في القاعة الكبرى المعدة لراحة المسافرين ..

وجلست على كرسى جلدى وأغلقت عينى .. نصف دقيقة ولما فتحتها كنت أنظر بقوة إلى اللوحة المضيئة لمدينة طوكيو والسهام النارية التى تنطلق منها إلى جميع أنحاء العالم ..

وأخذت أفكر فيما أفعل بالحقيبة بعد أن قبض على صـاحبها بسرعة فائقة .. ورأيت أن ألحق سيارة شركة الطيران قبل أن تتحرك من المطار .. بدلا من ركوب تاكسي إلى الفندق ..

وأخرج عمال الشركة حقائبي ووضعوها في السيارة .. وحملت حقيبة الرجل في يدي ودخلنا في المدينة الحالمة ذات الأنوار على الجانبين والسيارات تنطلق كالسهام ..

وأنسأني جمال المدينة .. وجمال النساء في الكومينو .. ونظافة الشوارع .. وبهجتها كل ما يتعلق بالحقيبة .. واخترت غرفة في الدور السابع في الفندق لأكون بعيدا عن زحمة النـزلاء الذين يتركزون عادة في الأدوار السفلى .. ولأبعد أيضا عن ضجيج المدينة التي تظل ساهرة إلى الصباح ..

وتعشيت في الفندق وخرجت إلى المدينة أمشى كما أتفق مستعرضا واجهة الحوانيت ..

ولم يكن الجو شديد البرودة .. وكنت ارتدى المعطف .. وقد ساعدني هذا على أن أتجول أكثر وأكثر .. وكان عقلي في الواقع يشتغل وأنا لا أدرى ويحاول أن يبعدني عن مكان الحقيبة ..

وجذبتنى الأنوار البراقة في ملهى على شكل سفينة قريبا من محطة شمباسى فاتجهت نحوه وبجوار كشك التذاكر وجدت ثلاث فتيات يرتدين فساتين سواريه وصدرهن العاري يبرز كل مفاتنهن ..وتطلعن إلى وجهي .. ووجدت واحدة منهن تعرف الإنجليزية فشرحت لي نظام السفينة ..

وحجزت كمرة بألفين في الدرجة الأولى.. وصعدت مع الفتاة إلى الأدوار العليا ..وفي ممشى السفينة الدائري .. فتحت لي بابا صغيرا .. وأصبحنا وحيدين في غرفة صغيرة أنيقة على شكل الكاميرا في عابرات المحيط ..

وكان لابد أن نشرب شيئا وكل كأس بألفين ..

وسألت الفتاة عن الشراب الذي ترغبه فرفضت وقالت إنه لا داعي لأن تشرب هي .. وتحت الحاحى قبلت أخيرا .. وطلبنا كأسين من الويسكي .. ولاحظت ساسا بعد أن فرغنا الكأسين .. أني شارد الذهن ..

فسألتني :
ـ ما بك ..؟
ـ لا شيء ..
ـ ألا أروقك ..؟
ـ بالعكس أنت فتنة في النساء ..

وكان الموقف الطبيعي يقتضيني أن أعانقها وأشرب من رحيـق شفتيها .. ولكنني جلست جامدا ولم تبد منى أية حركة ..
ولما حركتني بسؤالها .. اكتفيت بأن مددت ذراعي الأيمن إليها وطوقتها .. وأخذت أمسح بيدي على ذراعيها .. فاستراحت إلى هذه الحركة وأخذت تديم النظر إلى وجهي الجامد .. فابتسمت وطلبت من الساقية كأسين آخرين..

وفي خلال الشراب حدثتها بصراحة عن الحقيبة وما حدث من القبض على صاحبها في المطار ..
ورأيت سحنتها تتغير .. كأنما أصابتها رجفة .. ثم عادت إلى امتلاك أعصابها ..

وسألتني :
ـ في أي فندق نزلت ..؟
ـ يوكاهاما .. غرفة 703
ـ إنه بعيد جدا عن هنا ..
ـ نصف ساعة بالسيارة ..
ـ لا .. أكثر من ذلك .. اذهب في الحال وابعد هذه الحقيبة عن غرفتك ..
ـ وأين أذهب بها ..؟
ـ أترى هذه الترعة .. القها فيها .. أو في أي مكان من السهل أن تتخلص منها .. لأن هذا يسبب مشكلة ..
ـ ربما يكون الرجل مهربا .. وفيها جواهر

فضحكت .. وقالت
ـ لا داعى لأن تمزح .. أسرع وتخلص منها ..
ـ ماذا تصورت فيها ..
ـ ديناميت .. خرائط .. تصور معسكرات الأمريكان وأماكن احتلالهم في طوكيو وغيرها .. أنت سائح مسكين .. وستعدم دون ذنب ..

فارتجفت ..
وسلمت عليها وهرولت إلى الخارج ..


***

وركبت تاكسي إلى الفندق وقال لي موظف الاستقبال بأدب زائد .. وأنا أتناول منه المفتاح ..
ـ هل يمكن .. أن تنتظر لحظة يا سيد بدر الدين ..
ـ لماذا ..؟

وقد أحسست بالعاصفة تقترب ..
ـ الظاهر أنه حدث سوء تفاهم منذ القبض على كوجا في المطــار .. يريدون فقط أن يسألوا الركاب الذين كانوا معه ..
ـ إن هذا حماقة ..
ـ إنهم حمقى هؤلاء الأمريكان ..

وقلت لنفسي أنني أكثر حماقة لأنني مراقب منذ غادرت المطار والعيون ورائي في كل خطوة .. وأنا لا أدرى ..

وسألته ببلاهة ..
ـ وكيف عرفوا مكاني ..؟
فقال ببساطة :
ـ إن شـركة الطيران .. وزعتكم على ثلاث فنادق معروفة ..

وأدركت مبلغ حماقتي لأني ركبت عربة الشركة .. فطوكيو مدينة ضخمة كالمحيط وكنت أستطيع أن أغوص في أعماقها ولا يعرف أحد مكاني لو لم أركب عربة الشركة وأجعل الخيوط في أيديهم ..

ولمحت ثلاثة رجال في ملابس مدنية يتقدمون نحوى ببطء .. وكنت أود أن أمرق كالسهم من الباب الدوار وانطلق بأقصى سرعة ولكنني استبشعت هذه الحركة في فندق كبير كهذا ..

وقال لي أطولهم وهو الأمريكي حتما :
ـ هل يمكن أن نلقى نظرة على غرفتك ..؟

فاستبسلت وسألته بصوت قوى ضخم فيه لهجة الاستنكار ..
ـ لماذا ..؟
ـ إن هناك حقيبة مغلوطة فلتت من المطار ..
وفي تلك اللحظة كان من السهل علىّ جدا أن أقتل أي واحد منهم لو كان معي سلاح ..

ومشينا صامتين إلى المصعد .. وفي الطرقة الطويلة تقدمتهم إلى غرفتي .. وأعطيت فتاة لطيفة من عاملات الفنـدق المفتاح لتفتح لهم الباب .. لأتفادى رعشة يدي وأنا أدير القفل ..

وفتحت الفتاة الباب ودخلوا ودخلت معهم وأنا أحس بقلبي قد توقف عن الخفقان ..وعندما توسطت الغرفة انتابني إحساس من البلادة وفقدان الحساسية عجبت له وأدركت أنه نفس الإحساس الذي ينتاب من يصعد سلم المشنقة ..

ولكن عندما وقع نظري على الحقائب عاد إلى الإحساس بالموقف أشد وأعظم واضطربت جدا .. ثم كادت أن تفلت من فمي صرخة مدوية صادرة من الأعماق .. فقد اختفت حقيبة الرجل من الموضع الذي وضعتها فيه .. وبحثوا في كل ركن فلم يجدوا سوى حقائبي .. وفتحتها جميعا وجعلتها تحت أنظارهم وحيوا وانصرفوا ..

وودعتهم على باب الغرفة مزهوا ..

وجلست بعد أن ذهبوا أستريح وأشرب القهوة وأنا أفكر في الملاك الذي طار بالحقيبة في اللحظة الحاسمة ..

ونمت نوما عميقا ..

***


وفي الصباح خرجت أتجول في المدينة وقد كف ذهني عن التفكير في اختفاء الحقيبة وقد عللته بأي سبب ..ربما تكون إدارة الفندق قد عرفت الحقيبة لأنها الوحيدة التي لا تحمل بطاقتي فانتزعتها من الحقائب بسهولة وخلصتني من شرها ..

ونسيت الأمر كلية .

اسبيرانزا 18/08/2008 21:56

وفي الليل ذهبت إلى ملهى السفينة .. لأرى ساسا.. وقالت وأنا داخل عليها وقد أشرق وجهها ..
ـ جئت مرة أخرى ..
ـ بالطبع ..
ـ لماذا ..؟
ـ لأني أحبك ..
ـ أوه ما أكثر ما سمعت هذا الكلام .. ولماذا تحبني ..
ـ لأنك جميلة ..
ـ ما أكثر الجميلات في طوكيو ..
ـ الواقع أنني عاجز عن التعبير .. لا يوجـد سبب ملموس لحبي .. هناك ما هو أعظم من الجمال ومن الصفاء اللذين فيك ..
ـ هذا أحسن .. والمهم هل عثروا على الحقيبة ..؟
ـ أبدا .. لقد اختفت من الغرفة ..
ـ اختفت .. ؟
وضحكت بخبث .. وعلمت منها ما حدث .. خشيت ألا أصل إلى الفندق في الوقت المناسب .. فاتصلت في الحال تليفونيا بالطابق السابع الذي فيه غرفتي .. وكانت تعرف هناك فتاة من العاملات تدعى نيدا وحدثتها بأمر الحقيبة وطلبت منها أن تخرجها من الغرفة في الحال .. وكان من السهل أن تستدل نيدا على الحقيبة لأنها الحقيبة الوحيدة التي لا تحمل بطاقة وعليها كتابة باليابانية فأخرجتها في الحال ..

ـ وأين هي الحقيبة الآن ..؟
ـ في مكان ما ..
ـ هل عرفت أنهم فتشوا غرفتي .. ؟
ـ أجل .. وكنت أقدر هذا ولذلك أخفيت الحقيبة ..
ـ إن هذا عمل عظيم لن أنساه لك ..
ـ لا داعي لمثل هذا الكلام ..

ونظرت إلىّ فاحتضنتها .. وأنا أقول ..
ـ لابد أن أحمـــل الحقيبة إلى العنوان الذي تركه لي الرجل ..
ـ ليس من الضروري الآن انتظر أسبوعا ..
ـ لابد من هذا سريعا ..
ـ انتظر أسبوعا .. وسأذهب معك ..
ووافقتها على ذلك ..

***


ومر أسبوع .. واتفقنا على أن نتقابل في محطة من محطات المترو الذي تحت الأرض .. وتكون معها الحقيبة .. ونركب من هناك إلى المكان الذي عينه لي الرجل ..

وفي الموعد المحدد انتظرتها .. وجاءت رشيقة جميلة وبيدها الحقيبة وأخذتها منها .. وذهبنا نضع بضعة ينات في الآلة الأتوماتيكية .. وتناولت نيدا التذكرتين ..

وفي أثناء دوراني في فناء المحطة المسقوف رأيت رجلا عرفته من عينه وكان هو كوجا بعينه وكان يرتدى معطفا سميكا ويضع على عينيه منظارا أسود ..وبيده عصا وعلى رأسه قبعة عريضة .. وكان مشوش الهندام غير حليق على غير ما عهدته في الطائرة ..

وبحركة سريعة تناول منى الحقيبة وشد على يدي وهو يقول :
ـ كنت أعرف أنك ستأتي بها .. إنك شجاع .. لقد أعدت إلى قلبي .. وأقبل المترو .. فأخذها ومضى ..

***

وقلت لساسا وأنا أصعد بها سلم المحطة ..
ـ والآن أين نذهب ..؟
ـ كما تحب ..
ـ هل تذهبين معي إلى الفندق لنشكر نيدا على الأقل .. ؟
ـ فكرة رائعة ..

وفي شارع جنـزا رأيت في كشك صغير صورة كوجا .. في صحف المساء وكان تحتها نبأ هروب بخط كبير ..

ولما رأت ساسا الصورة ضحكت .. وضغطت على يدي ..


============================================
نشرت القصة في صحيفة الشعب 28|4|1958 وأعيد نشرها بمجموعة قصص من اليابان 2001
من إعداد وتقديم على عبد اللطيف وليلى محمود البدوي

اسبيرانزا 18/08/2008 21:57

الشعلة
 
تقع حانة منيرفا في الشارع الرئيسي في حي الملاهي والحانات .. ولكنها لم تكن من طرازها .. كانت مستطيلة وهادئة ، ولها ساحة رحبة ، وشرفة تطل على الطريق .

وكان أكثر المترددين عليها من الأشخاص الذين يتناولون وجبات الطعام في الخارج.. فقد كانت مشهورة بالكفتة الروماني والمكرونة الإيطالي ، وأصناف المشويات الشهية .. وكان صاحبها يديرها برأس الفنان وعقله .

وكنت أذهب إليها كل مساء لأتعشى وأشرب القهوة الجيدة وأكتب تحت ضوء مصباحها وأقرأ .. وأشاهد الحياة تجرى أمامى من شرفتها الواسعة ..

وكنت مذ قدمت من الريف أحس بالفراغ وأشعر بالنقص .. لأني أصبحت بصورة لا تقبل الشك أعيش على هامش الحياة .. وأكتفي بالعمل الروتيني الممل في الصباح .. دون أن أحرك مشاعري أو أن أتقدم خطوة ..

وبعد الحياة الأصيلة وسط الفلاحين في عزبهم وكفورهم .. وبعد مشاركتهم في الطعام والشراب .. والعمل الشاق في الأرض .. وبعد مخالطة الأخيار والأشرار منهم والغوص في الأعماق .. جئت إلى هنا لأنظر إلى الحياة في المدينة من وراء زجاج ..

أصبحت لا أرضى عن هذه الحياة ..

وكنت بحكم طباعي الريفية المتأصلة أنفر من أهل المدن ولا أستطيب صحبتهم .. ثم أخذت أحاول أن أرفع هذا الحاجز .. بالتدريج ..

وكما يحدث لكل إنسان يتردد على مكان معين .. فإني قد وجدت نفسي بعد أسبوع أعرف كل الوجوه التي تتردد على المشرب .

كنت أجد على البار رجلا ضخما عظيم الكرش.. كان السيد عبد الغفار يدخل في الساعة العاشرة تماما .. ويجلس إلى الرخامة العالية .. وأمامه كؤوس الشراب.. ولم يكن يأكل أبدا .. كان يشرب فقط .. ويشرب بشراهة .. يشرب إلى درجة تفوق كل مدارك الإحصاء .. خيل إلىّ أنه يشرب في الليلة الواحدة.. دنا ممتلئ الحافة .. ولم يكن معه رفاق .. كان يأتي ليسكر وحده ..

وقبل منتصف الليل بقليل كان يحصى الموجودين بعينيه ويطلب لهم الشراب.. ولما يجدني لا أشرب يقول للساقي :
ـ حسن لماذا نسيت السيد ..؟
وتلفت إليه أقول شاكرا :
ـ أرجو اعفائى .. اننى لا أشرب ..

ويحدق في وجهي بقوة :
ـ ولماذا تجلس هنا .. اذن ..؟
ـ لأن المكان جميل .. ويريح أعصابى ..
ـ انك كالذي يصلى طول النهار .. ويذهب في الليل إلى وجه البركة .. !
وأعجبت النكتة بعض الحاضرين فضحكوا وضحكت معهم ..
وقال باصرار :
ـ لابد أن تشرب شيئا.. ولو زجاجة صودا..

وتحت الحاحه الشديد طلبت من حسن شوبا من البيرة .. وأبقيته أمامى ممتلئا إلى النصف .. حتى يعفينى من غيره ..

وبعد نصف الليل يطلب عبد الغفار من حسن أن يحضر له عربة يركبها وهو لايكاد يتماسك .. ويضع في يد حسن كل ما بقى معه من فكة ..

وبعد ربع ساعة من خروجه أحمل كتبى .. ويأخذ حسن في إغلاق الأبواب .. وكنت أتخذ طريقى إلى بيتى في الحلمية الجديدة ماشيا على الأقدام .. وكانت تلك الجولة الليلية تطيب لى لأنها رياضة عضلية للجسم المحبوس بين أربعة جدران .. ولأنى كنت أستطيع أن أتبين جمال القاهرة بعد أن تنقطع الرجل .. تبدو العمارات والشوارع تحت الأضواء الساكنة أمتع ما تقع عليه العين.
وحدث وأنا أمضى متمهلا وكنت قد تخطيت ميدان الأزهار .. وانحرفت في شارع الفلكي .. أن رأيت رجلا يمشى أمامى في تثاقل .. وكان شكله مألوفا لدى .. ولما اقتربت منه وجدته عبد الغفار .

وكان قد استفاق من نصف سكره .. وقال لى أنه يسكن في عمارة للأوقاف في هذه المنطقة وأنه خلفها وراءه .. لأنه لم يشعر بالنوم .. بعد أن نزل من العربة.. طارت الخمر من رأسه.. فرأى أن يتجول لأنه يكره البيوت.. وشعرت بثقل الوحدة على نفسه المسكينة ..

وقال لى أنه مقطوع من شجرة ، وأنه بعد سنوات من الكفاح في سبيل العيش وجد نفسه يعيش بغير أمل أو غاية مرجوة .. وقد جره اليأس إلى السكر .. وهو الآن يشرب ليموت .. لأنه لم يعد يستعذب الحياة .

ولم أشأ أن أسأله لماذا لم يتزوج ولماذا يعيش في جفاف عيشة مظلمة .

لأن حياتى كانت جافة ومظلمة مثله ، ولأنى كنت لا أحب أن أسمع المواعظ ولا أحب أن ألقيها على الناس .. وتركت الرجل قبل أن أبلغ محطة حلوان.

***
وفي خلال هذا الركود والملل والفراغ الذي كنا نحس به ونعيش فيه .. اشتعلت نيران الحرب فجأة .. وتطورت الأحوال بسرعة عجيبة وأخذ روميل يزحف في الصحراء متجها إلى الإسكندرية .. وامتلأت مدينة القاهرة بجيوش الإنجليز وحلفائهم وأخذوا يعربدون ويسكرون في حاناتها ..

ولكن الخواجه إيناس منعهم من دخول منيرفا .. كان يود أن يحتفظ بعملائه القلائل .. وبهدوء ونظافة المحل.

وجعلنى هذا أكثر حبا للمكان فلم أنقطع عنه أبدا ..

وفي الوقت الذي كان فيه جنود الحلفاء السكارى .. يحطمون الحانات والملهي .. ويشتبكون في عراك دموي مع السكان الآمنين في قلب العاصمة .. كنا نحن الجالسين في منيرفا نشعر بالهدوء المطلق .. وكانت كل القرائن تدل على أن هذه المجزرة البشرية ستنتهي بسحق الإنجليز واندحارهم .. كانوا يولون الدبر .. في كل ميدان .

ولهذا تحمل الناس الظلام والغارات .. والجوع .. لأن الفرحة الكبرى لتحرير الوطن والتخلص من شرهم .. أتية لا ريب فيها ..

***

ولم تكن حانة منيرفا بالمكان الذي يجلس فيه النساء . ولكن يحدث في بعض الحالات أن تأتى سيدة مع رفقة لها .. أو تجلس وحيدة لتتعشى أو تشم النسيم .

وكنا نحس بوجودنا .. ونشعر بالحيوية كلما دخلت فتاة .. وكان صحن الحانة متسعا وعلى الجانب الأيمن منصة .. كأنها خشبة مسرح قديم .. كانت ترتفع عن أرض الحانة بثلاث درجات ..
وفي هذا المكان المرتفع كنت أجلس .. وأشعر بالراحة .

***

وسمعت ضحكات عبد الغفار ذات ليلة وهو يتجه إلى الباب ، وكان خارجا قبل ميعاده ..
وقال لحسن :
ـ بلاش عربية الليلة عاوز أتمشى .
ـ وكانت الليلة شديدة الحرارة ، والساعة لا تعدو العاشرة ، فرأيت أن أذهب إلى سينما صيفية في شارع عماد الدين .

وخرجت بعد الساعة الواحدة صباحا .. وسرت في شارع محمد فريد .. وقبل أن أعبر شارع الساحة.. رأيت نفرا من الناس متجمعين على عتبة بيت في الشارع .. ويتحدثون بصوت عال ، فنظرت فرأيتهم يحيطون برجل جالس على العتبة ، وهو في حالة إعياء تام ..

وعرفت الرجل فقد كان عبد الغفار ..
وقبل أن أقترب منه .. سمعت من يقول :
ـ الأفندي مات ..
فارتعشت ..
ـ مات من السكر ..
ـ وفين العسكري ..
ـ جاى ..
ـ طيب يا ناس غطوه بحاجة..
ـ حرام..

وقلت للناس أنى أعرف الرجل وأعرف بيته .. وبحثنا عن تاكسي . ومر تاكسي نزل منه حسن ، وكان بعض الناس قد أخبره بما حدث ، فجاء على عجل .

وحمل الرجل وذهب به سريعا ..

وعلمت في مساء اليوم التالي أنه تكفل بمصاريف الدفن .. ولما أخرجت له مبلغا من جيبي لأعاونه في هذه المصاريف ..

قال لى وهو يبتسم :
ـ مش ممكن .. أنت فاكر .. أنا دفعت له حاجة من جيبي دي فلوسه ..
وهكذا بدا مثالا نادرا في الوفاء ..
وحزنا على موت الرجل .. فقد كان يشيع البهجة في المكان ..

***

وفي الساعة التاسعة من مساء اليوم التالي .. دخلت سيدة شابة الحانة .. وجلست إلى مائدة صغيرة .. وكانت جميلة وحسنها يهز المشاعر .. وشعرت بالأسى لأنها اختارت هذا المكان لتجلس فيه وهو ليس أكثر من بار .
وشعرت بالألم لأن شكلها لا يدل على إنها تتردد على هذه الأمكنـة العـامة .

وطلبت طبقا من المكرونة وأخذت تأكل ..

وبعد أن أكلت وضعت الشوكة والسكينة في الصحن .. ونظرت إلىّ قليلا فتـأكـدت من هذه النظرة أنها مصرية.

وكانت جميلة .. وجمالها يصرخ .. فتألمت لأني رأيت هذا الجمال يخرج في الليل وحده وسط الحرب والظلام ..

ولكنى اسـترحت لأن المـكان لا يدخـله عساكر من الإنجليز ..

ولما أعطتني وجهها .. عدت إلى الكتاب .. وفجـأة برق أمـام نظري شيء من الذهب .. وسمعت صوتا خشنا يقول بالإنجليزية :
ـ تشترى هذه .. ؟

ورفعت وجهي عن اليد التي كانت ممسكة بالساعة إلى صاحبها .. فرأيت عملاقا ضخما من عساكر الإنجليز ، ولا أدرى كيف دخل من الباب ، ينحني علىّ وهو مخمور وحسبني لم أسمعه في المرة الأولى فعاد يقول :
ـ تشترى هذه .. ؟
ـ نو..
قلتها سريعا ودون تفكير في العواقب .. درت برأسي في المكان فوجدت جسمه الضخم قد سد علىّ جميع المنافذ .. ووجدت جميع من في الحانة ينظرون إلينا وكأن على رؤوسهم الطير ..

وكان هو أقرب شيء إلى الممر .. فلم يستطع إنسان أن يتحرك من مكانه .. ونظرت فوجدت بجانبه طبنجة موضوعة في جراب .. وخنجرا كبيرا مما تراه مع البوليس الحربي ..

ولمحت وهو يعيد الساعة إلى جيبه .. ثلاثة أشرطة على ساعده .. وشيئا في حجـم القرش كالشـارة . . وقال وهو ينحني بكليته على المنضدة :
ـ أعطني .. شلنا ..
ـ ليس معي نقود ..
قلتها بنفس اللهجة السابقة ونفس التوكيد .. وأحسست بعدها بهزة .. ولم تكن منه فهو لم يتحرك من مكانه .. وإنما كانت منى .. ارتجفت .. خرجت منى الكلمة كالقذيفة .. وندمت عليها .. وأسفت على حماقتي .. فقد كنت أستطيع أن أصرفه وأخلص حياتي بقروش قليلة وأخلص من كل المتاعب ..

ولكن الإنسـان يرث بعض الطباع في مثل هذه المواقف ويتصرف وهو واقع تحت تأثيرها .. فأنا لم أقبل التحدي .. ولا الاستكانة .. رفضتهما وإن كنت أعرف أنني سأموت حتما ..

وفكرت وأنا أرفع رأسي في الشيء الذي سيضربني به هذا الوحش .. ثم رأيت أنه لن يستعمل شيئا أكثر من أن يرفعني بين يديه ويلقيني على الأرض .. فأنا لا أتحمل أكثر من هذه الضربة ..

وقـدرت قوته .. وكان يستطيع بسهولة أن يصرع ثورا.. وأن يطوق بذراعيه جميع الموجودين في المشرب حتى يكتم أنفاسهم .. وتحرك إلى الخلف قليلا .. ثم تقدم وكانت عيناه في لون الدم ..

وفي تلك اللحظـة لا أدرى لم نظرت إلى الفتـاة التي كانت تأكل فرأيتها تشعل سيجارة .. وتنظر إلينا في ابتسام .

وفي غفلة من الرجل وهو منشغل بي .. تسلل معظم الذين كانوا في داخل البار .. وبقيت وحدي أواجـه العاصفة .. وعندما يدرك الإنسان اليأس ويعرف أنه ميت يتصلب جسمه ويفقد الإحساس بما حوله.

وهذا ما حدث لى .. وأنا أراه يضع يده على الخنجر.. وانتظرت الضربة .. فأغلقت عيني .. ولما فتحتهما وجدت وجها أعرفه يقف بين رأسينا..

وقالت الفتاة .. وهي تربت على ذراعيه .. وتنظر إليه في رقة:
ـ تعال .. يا جونى .. سأعطيك كل شيء ..
وكأنما صبت عليه ماء باردا .. فتركني وتحول إليها ..

ووقفت معه على المنصة تضاحكه.. ثم مشت به إلى حافة الدرج .. ودفعته وهو ينـزل الدرجات بكل قوتها فانزلق وهوى بكل جسمه على البلاط .

وفي تلك اللحظة رأيت في يد حسن قطعة من الحديد ، ضرب بها كوبس النور .. فغرقنا في الظلام .

***

وفي اليوم التالي وجدت حانة منيرفا .. مغلقه.. والدكاكين التي بجوارها محطمة ولم أسمع لمن كان فيها خـبرا .

وحزنت على حسن .. وعلى الفتاة فقد كانت الشعلة التي أضاءت ظلمـات حياتي .. وظلت الجذوة المشتعلة في قلبي .. لم تنطفئ نارها أبدا .. وكنت أراها بوجهها الجميل وهي جالسة هنـاك في وداعة .. ومن عينيها يطل الحنان والابتسام ..

***

ومرت سنوات .. والجذوة لم تتحول إلى رماد ..
وذات ليلة كنت أزور صديقا لي في شبرا .. لأول مرة .. ولم أعرف موقع الشارع فوقفت حائرا قبل الدوران.. ثم رأيت نورا في دكان سجاير صغير فتقدمت إليه .. ولما اقتربت من الدكان .. رأيت رجلا داخله.. وخيل إلىّ أنى أعرفه.. ولما دققت فيه النظر .. صدقت فراستي وتأكـدت أنه حسن سـاقى منـيرفا وسألته عن شـارع الشبراوى ..
فنظر إلىّ ولم يعرفني .. ثم خرج من الدكان إلى الرصيف فرأيته يمشى على عكاز .

ونقر على نافذة أرضية .. ثم سأل :
ـ امينة .. فيه شارع هنا اسمه الشبراوى .. ؟
وفتحت النافذة وأطل وجه ..
ـ ايوه .. تانى شارع بعد دكان عبدا للطيف .. على طول .

ومدت صاحبة الصوت رأسها .. فرأتني .

وعرفت أمينة في الحال .. فإن شيئا لم يتغـير من وجهها.. احتفظ وجهها بجماله الآسر وكل ما فيه من فتنة.. وظل صوتها كما سمعته في تلك الليلة .

ونظرت إلى طويلا ولما عرفتني .. ابتسمت ثم غابت الابتسـامة .. طواها أسى أخرس .

فقد رأت الأهوال في رأسي مشتعلة.. وارتجفت كما ترتجف أنثى .. وهي ترى الشباب يذهب من وجه الرجل .. الذي تعرضت للموت من أجله، وما هو أشنع من الموت..

وبقيت أمامها لحظات صامتا أخرس .. ورأيت الدموع تتحرك في عينيها .. ثم سمعت بكاء طفل في الداخل .. فتركت النافذة ودخلت .

وكنت وأنا أخطو في الشارع الطويل الخافت الضوء أود أن أسأل الرجل .. هل فقد ساقه في تلك الليلة المشئومة .. أم بسبب الغارات .. واسأله عن أمينة وأعرفه بنفسي . ولكنى وجدت السؤال يشوه جمال المسألة ..

وكنت قبل كل شيء أود أن تظل الشعلة التي أشعلتها هذه المرأة كما هي .. مشتعلة..

اسبيرانزا 18/08/2008 22:01

حدث ذات ليلة
 
حدث ذات ليلة من ليالي الصيف عام 1919 وكانت الثورة المصرية مشتعلة في طول البلاد وعرضها، أن نشبت المعركة بين المصريين والإنجليز في مدينة أسيوط.. وبدأت بإطلاق النيران على معسكرات الإنجليز عند الخزان .

واحتملت قرية الوليدية وهى قرية صغيرة مجاورة للخزان كل أعباء المعركة .. على أن القرى المجاورة لم تتركها وحدها بل أرسلت إليها أحسن رجالها الشجعان .

كان الرجال يأتون إليها من كل صوب على ظهر المراكب الشراعية الصغيرة والكبيرة.. ويخوضون غمار المعركة مستبسلين.

وكنا نحارب كما يحارب الثوار في غير نظام ولا قيادة.. ومع هذا فقد فكرنا في أن نفعل ما يفعله المحاربون في الميدان حقا .. فكرنا في أن نقطع الخط الحديدي عند قرية منقباد لنمنع المدد والمؤن عن الأعداء وبذلك نميتهم جوعا .

واجتمع في قرية صغيرة على الضفة الشرقية للنيل أكثر من خمسمائة رجل من مختلف القرى مسلحين بالبنادق القديمة والحديثة والخناجر والعصى والحراب .. ومعهم خيولهم وجمالهم وحميرهم .

ونحرت لنا الذبائح .. وجلسنــا نتعــشى في العراء على الطبالى خمسة .. خمسة .. وكنا نتحدث في حماسة بالغة ، ونلتهم الطعام على ضوء المشاعل .. ونسمع صهيل الخيل وهدير الفحول .. وعواء الكلاب في القرية .. وكنت أرى عيون الرجال تبرق في الظلام .. وأشاهد في دائرة الضوء لحاهم وشواربهم الضخمة وأجسامهم الطويلة .. وكانوا يرتدون الجلابيب السمراء والزرقاء ويعصبون رءوسهم .. ويتمنطقون بالأحزمة الجلدية المليئة بالرصاص والخرطوش .

وكانوا يمسحون أفواههم بأطراف أكمامهم ، ويشعلون لفائف التبغ .. ويشربون القهوة .. ويتحدثون عن الليل والرجال .

وكنت مأخوذا بسحر حديثهم وبقوة شخصيتهم .. وبجبروتهم الذي لاحد له .

كان أكثرهم من الرجال الشجعان الذين يقطنون في الجبل الشرقي .. وقد نشأوا أحرارا أشداء .. يأبون الضيم ويدافعون عن العرين .

وعندما وقف واحد من الطلاب وأخذ يتحدث عن الاستعمار والبلاء الأسود النازل بالبلاد .. رأيتهم ينصتون في سكون وعيونهم تلمع ووجوههم منفعلة من فرط الغضب .. ثم أخذوا يعمرون البنادق ويشحذون الأسلحة .

وتركنا الخيل والجمال والحمير مع الغلمان .. وعبرنا النيل إلى الضفة الغربية وهناك انقسمنا إلى فرق صغيرة اتجه بعضها إلى الخزان .. وذهبت مع فرقة مكونة من ثمانية عشر رجلا من الرجال الأشداء إلى منقباد لنقطع الشريط الحديدي وكنت على رأس هذه الفرقة .. وسرنا حذاء النيل على الرمال الناعمة .. وكان الليل في أخرياته والظلام شاملا والسكون رهيبا .. ثم انحرفنا عن الطريق السوى وسرنا وسط الحقول .. وكانت السماء كابية والريح تزأر في أخصاص البوص التي مررنا بها .. ولما صعدنا المنحدر واقتربنا من الخط الحديدي بدا صوت اقدامنا يسمع بوضوح في هذا السكون العميق .. وتقدمنا في قلب الليل ولما بلغنا الجسر كان الشريط يلمع ملتويا في الظلام .. وكانت أعمدة البرق وأسلاك التليفون تهتز والريح تصفر في جنبات الوادي المقفر .. وعندما أخذت أرجلنـا تضرب على الزلط الذي يتخلل القضبان .. شعرت بعظم المهمة الملقاة على عاتقي وانتابتنى الرهبة .. وأخذت المكان بنظرة خاطفة وأعطيت الإشارة للرجال .. وبدأت المعاول تعمل .. وبعد قليل فرغنا من مهمتنا وقفلنا راجعين .

***
تفرقنا في قلب الليل كالذئاب بعد أن تنفض مخالبها من الفريسة .. وسرت وحدي وسط الحقول .. وكان الليل ساكنا وأشجار النخيل تخيم من بعيد على قرية الوليدية وتغرقها في لجة من الظلام الشديد .. وكانت الكلاب لا تزال تنبح في الحقول .. والديكة تصيح في أكواخ الفلاحين معلنة طلوع الفجر .. وعندما بلغت طرف القرية الشمالي شعرت بالجوع والنعاس فتمددت في ظل شجرة كبيرة من أشجار السنط .. وأخذني النوم واستيقظت على دوى الرصاص .. وكان اليوم الثالث للمعركة بيننا وبين الانجليز .. فذهبت إلى الميدان وظللت أقاتل حتى المساء .

وفي اليوم الخامس ظهرت طيارة في السماء .. وأخذت تلقى القنابل على غير هدف .. وذعر الناس ولم يكن لنا بها عهد ..

وحملنا بنادقنا في أيدينا وأخذنا نهيم على وجوهنا في الأرض .. وأخذت المراكب الشراعية تعود بالمحاربين إلى ديارهم ..

وكان الوجوم والتعاسة والخيبة المرة مرتسمة على الوجوه ، وكنا نحن الشبان الأشداء نغلى غيظا فلم نكن ندرى علة هزيمتنا .. لقد بدأنا المعركة كجنود من الطراز الأول وعندما كففنا عن النار خيل إلينا أننا قد انتهينا .. ولكننا مع هذا لم نلق السلاح .

***
وخمدت الثورة في القاهرة وأرسل الإنجليز فرقة جديدة إلى أسيوط .. وكانت ترابط عند الخزان في حديقة كبيرة هناك .. وكانوا يخرجون من معسكراتهم في الليل سكارى ويشتبكون في عراك مع الأهالي .

وكنت قد هجرت قريتي وأخذت أمضى الليل في بستان صغير قريب من الوليدية لأن الإنجليز انطلقوا يفتشون القرى في الشرق ، باحثين عن الأسلحة ورجال الثورة .

وذات ليلة جلست كعادتي في البستان .. وكان بجواره طريق صغير ينحدر إلى النيل ومنه تنزل الفلاحات لملء جرارهن .. وكن يحملن الجرار على رءوسهن وينزلن إلى الماء .. ويشمرن عن سواعدهن ويرفعن أطراف ثيابهن ، وتبدو سيقانهن البللورية وهى تغوص في اللج .. وعندما يملأن الجرار ويطلعن على اليابسة يتركن ثيابهن تنسدل وشعرهن يهتز في ضفائر على ظهورهن .. والخلاخيل الفضية تبدو في السيقان الممتلئة وهن صاعدات المنحدر .

ومر في الطريق بعض الجنود الإنجليز .. وأخذوا في معابثة النساء الخارجات من الماء .. وطار هؤلاء مذعورات وتركن الجرار تسقط وتتهشم .. وأمسك واحد منهم بواحدة من يدها ورأيته يعابثها ويهم بتقبيلها وهى تصرخ وتستغيث ، وتملكني غيظ مستعر وأنا أشاهد هذا المنظر .

وتجمع الأهالي واشتبكوا في عراك دموي مع الإنجليز .. ورأيت أحد الجنود يخرج مسدسا ويطلق النار كالمجنون .. وكان الأهالي عزلا من السلاح .. فأخرجت بندقيتى من مكمنها .. وسددتها وسقط .. وأطلقوا النار في كل اتجاه .. فأصابتني رصاصة في ساقي ولكنني تحاملت على نفسي وزحفت في الظلام .

وفرغت الشوارع من المارة بعد دقيقة واحدة .. وخيم سكون القبور على كل شيء ، وأخذ الظلام يشتد ، وسمعت وأنا ممدد في مكمني حركة في طرف البستان .. ثم ظهرت عن بعد داورية إنجليزية تفتش في كل مكان وبدا لى أنهم أخذوا يطوقون البستان .. فأسرعت وربطت ساقي بقطعة من القماش نزعتها من ثوبي بعد أن حشوت الجرح بالتراب .. وزحفت في حذر .. ودارت عيناي فيما حولي تبحث عن ملجأ في هذا الظلام .

وشاهدت منزلا صغيرا على النيل فاتجهت نحوه وأنا مدفوع بقوة لاقبل لي بها .. ودفعت الباب ودخلت .. وسمعت صوتا نسائيا يقول :

ـ مين ..؟
ـ أنا ..

ورأيت امرأة في صحن الدار .. وكانت تلبس جلبابا أسود .. وعلى رأسها منديل أسمر .. ونظرت إلىّ في هلع وأنا داخل بيتها وبيدى البندقية وعلى وجهي الشر .

وقالت بصوت مرتجف :
ـ مالك ..؟
ـ جريح .. وعطشان ..

ودخلت ومشت إلى الداخل دون أن تنبس ، وعادت بعد قليل بكوز فتناولته منها ورفعته إلى فمي مرة واحدة .. وسمعت حركة شديدة ولغطا في الشارع .. فانزويت خلف الباب وأمسكت البندقية في يدي .. وتهيأت لكل الطوارئ .. ووقفت المرأة تنظر إلىّ من بعيد وهى مضطربة واجمة .

وسمعت طرقا شديدا على الباب .. فلم يرد أحد .. وخيم السكون لحظات .. ثم سمعت من يقول بصوت عال :
ـ دا بيت حميدة .. يا شيخ الخفر .. وهيا مسافرة ..
ـ مسافرة ..؟
ـ أيوه .. مسافره بحري .. من مدة ..

وبعد الصوت .. وخيم السكون من جديد فتنفست الصعداء .. ورجعت إلى صحن الدار وأنا أتحامل على نفسى وتمددت هناك .. ونظرت إلى المرأة طويلا ولم تقل شيئا .. فقلت لها :

ـ لا تخافي .. سأستريح قليلا ثم أذهب .. متى فرغوا من التفتيش
ـ ولماذا تخاف أنت ..؟
ـ البندقية .. وأنت تعرفين الأحكام العسكرية ..
ـ هاتها .. وأنا أخبئها في مكان لا يعرفه أحد ..
فقلت لها وأنا أبتسم :
ـ إنها سلاحي .. وأنا لا ألقى السلاح ..
فهزت كتفها ووقفت ساكنة وبعد قليل تحركت نحو الباب الخارجي .. فقلت لها بصوت هادئ :
ـ إلى أين ..؟
ـ سأشترى بعض الأشياء من السوق ..
ـ مكانك .. لن تبرحي هذا البيت ما دمت أنا فيه ..
ـ إنك مجنون ..
قالت هذا واحمر وجهها غضبا .. وظلت واقفة في مكانها بجانب الباب .. ثم استدارت ومشت إلى الداخل .. وعاد إليها بعض الهدوء ..

وقالت مبتسمة بصوت رقيق :
ـ ألا تعرفني ..؟
ـ أبدا..
ـ أنا حميدة الغربية .. بياعة القماش .. وأنت من بنى مر .. وأنا أعرفك جيدا .. واسمك عبد الرحمن المرى ..

فذهلت .. كيف عرفت اسمي ..
واستطردت :
ـ لقـد ذهبت إلى منزلكم في غرب البلد مرارا .. ألا تذكرني ..؟
وتذكرتها بخالها الأسود على خدها الأيمن .. وبعينها العسليتين وابتسامتها الحلوة .
ـ عرفتني ..؟
ـ أيوه ..
ـ سيبنى أطلع بره ..
ـ لأ..

وجلست على الأرض أمامي .. وكان المصباح البترولي الصغير تهتز ذبالته وبريق الضوء على وجهها الصبوح ، وكان ثوبها الأسمر يلف جسمها الممتلئ ، ومنديلها يغطى جزءا من شعرها .

وأخذنا نتحدث حتى مضى جزء كبير من الليل .. وكنت أتصور أنها تمهلني لأنام .. ومتى نمت خرجت ، ولهذا ظللت ساهرا لا تغمض لي جفن .. وذهبت هى إلى فراشها ..

وفي الصباح ابتدرتها بقولي :
ـ حميدة .. هاتى مفتاح الباب الخارجى ..
فأعطتني المفتاح وهى صاغرة ووضعته تحت رأسي ..

ومكثت معها ثلاثة أيام .. وظلت محبوسة قلقة مضطربة وزادها الحبس اضطرابا وعصبية وكاد ما في البيت من خبز وإدام أن ينفد وجعلها هذا أكثر قلقا .. وكانت ترميني بنظرات نارية وتبتعد عنى ما أمكن ..

ولما نفد معين صبرها قالت لي بصوت خافت :
ـ أنا عارفة ..
ـ عارفة إيه ..؟
ـ القاتل ..
وانتفضت ..

ومضت تقول في خبث ظاهر :
ـ لقد رأيته بعينى هاتين من سطح البيت .. وكان في البستان ..

وتحركت من مكاني أزحف على قدمي ، وعيناي ترميانها بنظرات ملتهبة .. واجتاحتني موجة من الغضب جارفة عارمة .. عندما تبينت أنها تعرف سرى كله .. وأنني معلق في حبل المشنقة ، وهى التي تمسك بيدها الحبل .. وإن شاءت جذبته وطوقت به عنقي ..

وأمسكت بقبضتها وجذبتها نحوى
وقالت بصوت راعش :
ـ سيبنى يا مجرم .. سيب ..

ودارت يدي حول رسغها .. وشددتها إلىّ .. وكنت قد نهضت نصف قومة .. فدفعتني بيدها إلى الوراء بقوة .. وقد تدحرجنا على الأرض فطوقتها بذراعي ، وأخذت أضرب وجهها وجسمها ضربا مبرحا ، وأخذت تبكى بصوت مكتوم وتضربني ما وسعها الضرب .

واشتبكنا في عراك طويل .. ولم تعد بي قوة على الإمساك بها فأطلقتها .. فنهضت وعيناها مخضلتان بالدمع .. وكان شعرها منفوشا ووجهها محتنقا .. ودارت في صحن الدار كالمجنونة ثم بصرت بقالب في الكانون فأسرعت ورمتني به .. وحط القالب على صدغي وغبت عن الوجود .

ولما فتحت عيني كان الظلام يخيم .. وكان الدم يلطخ وجهي وثوبي .. وكانت حميدة جالسة عند رأسي تمسح الدم بمنديلها ! ولما شعرت بأنني تنبهت حركت يدها في لين ورفق على جبيني ، ثم أخذت تتحسس ذراعي .. وقربت وجهها من وجهي ونظرت طويلا في عيني .. ثم ارتمت على صدري ، وطوقتها بذراعي ورحنا في عناق طويل .

ولما التأم الجرح وقويت على السير خرجت في ظلام الليل مودعا حميدة وكانت في لباسها الأسود وعلى رأسها منديلها وخرجت معي إلى الزورق الذي أعدته لي ..

ولما تحرك الزورق بي وقفت على الشاطئ تمسح عبراتها .. فتحولت بوجهي عنها ، وأنا أغالب عواطفي واتجهت إلى الشرق ..


اسبيرانزا 19/08/2008 02:49

الرجل الاشول
 
حدث في أعقاب الثورة المصرية سنة 1919 أن خرج جنديان انجليزيان من المعسكر في مدينة أسيوط .. وسارا على الخيل بين المزارع .. وكان الجو لطيفا فأبعدا في السير .. ولم يستطيعا مقاومة الرغبة في الاستكشاف .. فانطلقا بالخيل على الجسر حتى دخلا القرى التي توجد شرق الخزان .. وقابلهما الفلاحون بالهدوء والصمت .
وفي اليوم التالي رآهما الفلاحون مقبلين من بعيد .
وفي اليوم الثالث كانا يعدوان بجواديهما كأنهما في حلبة السباق .. فنفرت البهائم العائدة من الحقول .. وذعر الغلمان ودهس أحد الجوادين المنطلقين غلاما صغيرا كان يلعب بجوار الترعة .. فقتله ..
وقبل أن يبلغ الجنديان المدينة .. أصابت راكب الجواد الأشهب الذي قتل الغلام رصاصة فسقط على الجسر .
وحوصرت القرية القريبة من مكان الحادث وفتشت وضرب أهلها بالكرابيج ..
ورغم هذا لم يستدل على الفاعل ..
واستمر الحصار وكان والد الغلام القتيل متوفيا فقبض على كل من يمت له بصلة .. ومنع الأهالي من الخروج إلى الحقول بعد الغروب .. واستمر التحقيق أسبوعا بطوله ..
وقرر الطبيب الشرعي أن القتيل أصيب من رصاصة أطلقت من مسافة بعيدة تزيد على مائة متر .. وأن الرامى أصاب سويداء القلب ، وأنه لم يحدث في حياته كطبيب أن رأى مثل هذا التصويب ..
ورأى المحققون أن القاتل لابد أن يكون مدربا تدريبا متقنا على ضرب النار .. ويرجح أن يكون من عساكر الرديف ..
وقبض على كل عساكر الرديف في المنطقة .. وقدم من القاهرة جنود بلوك الخفر وعلى رأسهم ضابط مصري اشتهر في أيام الثورة بكراهيته الشديدة للمصريين .. وأخذ في جمع السلاح من كل بيت في القرية ..
وكان يحلف الرجل على المصحف .. فإذا أخرج ما عنده تركه .. وإذا لم يكن لديه سلاح .. شد الجنود وثاقه وعلقوه في حديد الشبابيك .. وأخذوا يضربونه ضربا مبرحا .. حتى يغمى عليه .
وبدأ بالأعيان .. وبالرؤوس .. ليكون الإذلال تاما .. وتكومت قطع السلاح .. وظل الأهالي يصرخون من التعذيب حتى قارب الليل منتصفه .. ثم تعشى العساكر وناموا ..

***

وفي الصباح القى الضابط نظرة على قطع السلاح التي جمعها .. وأخذ يجرب بعضها في ضرب النار .. ثم أخرج مسدسة .. وأخذ يصوب .
وكان يصيب الهدف من كل الأبعاد .. ورسموا له دائرة بحجم القرش فأصابها من مسافة عشرين مترا ..
وأخذ العمدة والأعيان يصوبون مثله .. ولكنهم كانوا يخطئون الهدف في معظم الحالات .. وأخذت الضابط الحمية فسمح للأهالى بأن يشتركوا في المباراة .. ولكن لم يبلغ أحد شأوه .. وظل هو المتفوق الذي ليس له ضريب .
وأظهر براعته الخارقة بأن كتب اسمه على الحائط بالرصاص وصفق له الناس .. ورجع بكرسيه إلى الوراء وهو يضحك مزهوا ..

***
ولم يكتف بهذا الانتصار .. بل فكر في شىء مثير .. فقرر أن يقف أحد الخفراء في الساحة بجوار حائط الدوار وعلى لبدته الحمراء .. بيضة دجاجة !!
ومع كل ما في المسألة من حماقة لم يستطع أحد أن يفتح فمه ..
ووقف الخفير المسكين .. وطارت البيضة من فوق رأسه وصفق الناس .. وضحك الضابط ..
وقرر أن يخلع الخفير اللبدة وأن توضع البيضة على رأسه وذهل الناس ونظر بعضهم إلى بعض .. ولكن لم يستطع واحد من الجالسين أو الواقفين أن يعارض هذه الرغبة ..
ووضعت البيضة على رأس الخفير المسكين وامتلأت الساحة بالأهالي .. وكتم الناس الأنفاس .
وخيم السكون واستقرت العيون كلها على رأس الخفير .. وكفت القلوب عن الخفقان .. واستعد الضابط ليضرب ضربته .
وفي هذه اللحظة .. انطلق شىء وهو يصفر من فوق رأس الضابط .. وطارت البيضة ..
وتلفت الضابط والناس مذعورين .. ووجدوا رجلا يقف وحده وراء الساحة .. ويمسك بيده اليسرى بندقية قصيرة .
وصاح أحد الواقفين
ـ حسين الاشول ..
وظل الاشول هناك في مكانه أكثر من دقيقة يرقب القوم في الساحة بعينى صقر .. ثم وضع البندقية في كتفه وبارح المكان .

***
وفي ساعة الظهر رأى الضابط من نافذة السيارة .. نفس الرجل الاشول .. يهبط بحمل صغير التل .. وعلى كتفه نفس البندقية .. فوضع الضابط يده على مسدسه .. وأخرجه من جيبه .. وهو يتابع الاشول ببصره .. ومرت لحظة رهيبة .. شعر الضابط بعدها بيده تعيد المسدس إلى مكانه ..
ولما انطلقت السيارة في أقصى سرعتها وغاب الرجل عن بصره .. كان الضابط يسائل نفسه في تعجب ..
ـ لماذا لم يقبض على الرجل .. بعد أن تيقن أنه هو الذي قتل الضابط الإنجليزي .. لماذا ..؟ ولماذا حتى لم يجرده من سلاحه ؟
وأشعل سيجارة شعر بعدها بالراحة .
وكانت السيارة قد اقتربت من المحطة ..


اسبيرانزا 19/08/2008 02:51

الاسرار
 
سافر الدكتور حمدي زميل الدراسة بعد تخرجه من كلية الطب إلى لندن وعمل هناك في مستشفياتها سنين طويلة .. ولما رجع إلى مصر كانت أزمة المساكن قد استحكمت في القاهرة .. فوقع في حيرة شديدة إذ لابد أن يفتح عيادة ويزاول عمله كطبيب أو يعود إلى الخارج كما كان ..
وبعد بحث طويل ومشقة وجد من دله على عيادة في شارع الفلكي لطبيب يهم بمغادرة القاهرة .
وانتقل إليها شاكرا الله على نعمه إذ وفقه إلى المكان القريب من ميدان الأزهار حيث توجد عيادات معظم الأطباء وحيث تحققت الرغبة الدفينة منذ الصبا بالعمل في هذا الموقع ..
واستقر الدكتور حمدي في مكانه وسارت أموره كطبيب على أحسن الوجوه .
وكان الدكتور حمدي مع تفرغه للطب .. يعشق التنويم والإيحاء .. ويقرأ كل الكتب القديمة والحديثة التى تصدر في هذا الباب .. ويزاوله كهواية متمكنة من النفس .
ولهذا خصص لجلسة التنويم غرفة خاصة في عيادته مجاورة لغرفة الكشف .. يزاول فيها عمله في يوم الجمعة فقط ولا يحضرها إلا أخص أصدقائه .
وكان عنده تمرجي أسمه خليل وهو في الوقت نفسه فراش وخادم يقوم له بكل الأعمال .
وكان هذا التمرجي .. ربعه في الرجال وثيق التركيب حاد النظرة سمين الوجه أحمره .. يرتدى مريلة التمرجي البيضاء .. ولا يخلعها في صيف ولا شتاء ..
وكان يعرف أصدقاء الطبيب جميعا من غير المرضى ويعرفهم بكل صفاتهم .
ومع كثرة ترددي على العيادة ، ولكنى كنت أخاف من جوها إذا لم أجد الدكتور إو المرضى .. ووجدت التمرجي وحده ..
كان يصنع لي القهوة ، ويستقبلني بحفاوة وأدب ، ولكن مشيته وصمته كانا يخيفاني .
وكنت أرى الغرفة التي يستعملها الدكتور في يوم الجمعة للتنويم مغلقة وعلى بابها ستارة كثيفة دكناء .. وكان في هذه الغرفة علم الدكتور وأسراره .
وذات مساء .. دخلت العيادة وكان بابها مفتوحا .. فلم أجد التمرجي جالسا في المدخل ، ولا في المطبخ كعادته عندما يكون الدكتور في الخارج .. فرجعت إلى الباب الخارجي وضغطت على الجرس لأنبهه .. ولكنى لم أسمع وقع خطواته الثقيلة استجابة للجرس ، فجلست على أول كرسي في المدخل وأنا أدير بصري في كل الأبواب المغلقة .. ومرت دقائق وأنا أحس بانقباض ضاغط وبرهبة شديدة .. وأن شيئا سيقع .. أو وقع بالفعل ..
وبعد دقائق رهيبة من الفزع والسكون ، دخل خليل في خطوه الثقيل وحيا ..
وقال يبرر غيابه :
ـ كنت عند الدكتور فاضل أصلح له جهاز الأشعة .. فأرجو المعذرة ..
وأضاف :
سأعمل لحضرتك قهوة سريعا .. والدكتور سيأتي حالا ..
وسريعا حمل قهوة تركية على صينية نظيفة .. وكان أحسن من يضع الفنجان وبجانبه كوب الماء المثلج .
وكنت إذا تطلعت إليه أرى رأسه دائما منحنيا .. كان يخصني بأدب جم .. ويعرف مقدار العلاقة الوثيقة التي بيني وبين الدكتور حمدي .. ويلمس ذلك كلما بعثه الدكتور في طلبي لأي عارض أو ألم نزل به فجأة ..
ولهذه العلاقة كان خليل يخصني بالجلوس في مكتب الدكتور حمدي عندما يكون هذا في عمل بالخارج .
وكان مكتبه عامرا بالكتب الطبية والعلمية ، ويعنى عناية خاصة بكتب التنويم .. وقد تمكنت منه هذه الهواية ، وكنت أسمع الكثير مما يقوم به ويعمله في الغرفة المخصصة لذلك .. كانت أعمالا محيرة للعقل وخارقة ..
ولم أكن أحضر هذه الجلسات بصفة منتظمة لظروف عملي .. ولأني كنت ألاقى الدكتور في نفس اليوم في المساء في مطعم كنا نتعشى فيه كل يوم جمعة .
ومع براعة الدكتور في التنويم ، ولكنى لم أكن أؤمن بهذه العملية إيمانا مطلقا .. وكنت أرتعش من مجرد تصور أن الوسيط قد لا يصحو .. من نومه .. وينام نومه الأبد وما ذنب الفتـاة المسكينة .. وكانت وديعـة ورقيقة المشاعر للغاية .
وكنت كلما رأيتها أشفق عليها وأقول لحمدي :
ـ يا أخي .. أختر أحدا غيرها .. إنها مسكينة وتعبت ..
ـ لا يصلح غيرها .. أتعتقد أن المسألة سهلة .. الوسيط له خصائص معينة .. وقد اجتمعت كلها فيها ..
ـ نوم خليل .
وضحك وقال :
ـ خليل .. ينومنا جميعا .. !
***
والواقع أن خليل يستطيع أن ينومنا جميعا كما قال عنه الدكتور حمدي .. لأنه يتمتع بإرادة قوية ونظرات نافذة فيها التسلط والجبروت .. وبهذه النظرات يستطيع أن ينوم من يشاء .. ولهذه النظرات النارية ولارتباطه الوثيق بغرفة التنويم ، كنت أخافه ، فهو يعرف كل أسرارها .
ولقد وجدته ذات ظهر في العيادة ، وكان في حديث حاد مع رجل يحمل حقيبة مكتظة بالأوراق .. وكان الرجل خارجا وأنا داخل .. و خليل لا تزال بيده الورقة التي تسلمها من الرجل الذي أدركت أنه المحضر .. لأني كنت أعرف أن هناك قضايا بين الدكتور وصاحب العمارة بسبب الشقة لأن حمدي أجرها من الباطن .. وصاحب البيت يسعى إلى طرده ..
وأعطاني خليل الورقة المكتوبة بالكوبيا الباهتة وبالخط الرديء الذي لا يقرأ وهو يقول ..
ـ أنظر سيادتك إلى تاريخ الجلسة 19 نوفمبر .. أو 29 الخط غير واضح ..
فتناولت منه الورقة وقلت له :
ـ أنها .. 29 نوفمبر .. على الأرجح .
ـ إن شاء الله لن يكون هناك 19 ولا 29 وسيستريح الدكتور من كل هذا العذاب نهائيا .
ـ لماذا لا تتفقون معه ..
ـ نتفق مع من يا أستاذ رأفت .. الدكتور المهذب الجنتلمان الذي عاش في بلاد الإنجليز يتفق مع وحش .. شيطان من شياطين الإنس .. له ثلاث سنوات يعذبنا .. مرة يعلن الدكتور في طنطا .. ومرة في الإسكندرية .. ومرة يدعى أننا لم ندفع الإيجار ، أساليب كلها شيطانية ملتوية .
ـ أعرف كل هذا .. ولقد حدثني الدكتور حمدي عن الكثير .. وكان مـن الواجـب أن يعمـل العقد في اليوم الأول من سكنه ..
ـ لم يقبل يا أستاذ .. وحاول الدكتور بكل الوسائل ولكنه رفض لأنه جشع يجمع المال بكل الوسائل .. اشترى هذه العمارة في أيام الرخص بتسعة آلاف جنيه .. وفيها الآن أربع شقق مفروشة تغل له أكثر من هذا المبلغ .. ومع هذا الاستـغلال البشـع لا يحمـد ربنا ويريد أم يؤجر شقتنا مفروشة ..
ـ كلهم أصبح هذا الرجل ..
ـ العالم انقلب إلى وحوش .. والإنسان المهذب الذي يعيش بالقيم .. يستضعفه الأنذال .. الدكتور حمدي لم يرفع أجر الكشف كغيره .. ولا يزال أجره جنيها وغيره يأخذ عشرة .. وليس لهم صفاته في العلم .. ولكنهم أصحاب دعاية .. ويأتي إليهم الفلاحون من الريف مساقون وعيونهم معصوبة لا يعرفون الجيد من الرديء ولا الطالح من الصالح .. ويتلذذون من الاستغلال ..
ـ ولكـن مـا ذنبهـم إذا لـم يكن هناك من يدلهم على الطريق ..
ـ إنهم لا يهتدون أبد مهما تحاول معهم .. الدكتور فاضل جارنا كشفه بجنيه وهو رجل صالح وعالم وعنده كل الأجهزة الحديثة .. للأشعة والتحاليل وغيرها ويكشف بأمانة وحرص ومع ذلك يتركونه ويذهبون إلى غيره ويدفعون خمسة جنيهات وعشرة .. جهالة عمياء ..
والدكتور فاضل هذا عندما يذهب إليه صاحب البيت الملعون كمريض ، مع جشعه وكل صفاته ، لا يأخذ منه مليما .. ويحاول إقناعه بأن يتصالح مع الدكتور حمدي ولا داعي للقضايا .. لأنها لا توصل لنتيجة .. ولكنه لا يسمع كلامه ..
شرير يا أستاذ مسلح بكل أنواع الشر ولا يفكر إلا في الفلوس .. كيف يتصالح مع رجل مهذب ضعيف مجرد من كل سلاح ..
يوميا في كل صباح يلقى علينا الزبالة متعمدا .. من شرفته .. انه يسكن فوقنا .. وأزيل كل شيء واصبر ..
ومرة .. كان في حالة موت .. عنده سكر شديد وربو وطلبه لإعطائه حقنة .. ولم يكن في العمارة من الأطباء سوانا .. فأعطيته الحقنة .. ومد لي يده بعشرة قروش .. فرددتها له .. وقلت له عيب يا معلم .. داحنا جيران ..

***

اسبيرانزا 19/08/2008 02:51

واطلع الدكتور حمدي على الإعلان الأخير الذي أرسله إليه صاحب البيت وتضايق منه جدا .. وقال لى بهدوء :
ـ انه يتصور نفسه هرقلا .. ويستضعفتى .. من دون السكان وهذا ما يفجر غيظى .. ولقد استقر رأيى على التخلص منه نهائيا .. لقد طفح الكيل وليس هناك زيادة لمستزيد ..
ـ كيف ..؟
ـ سأسلط عليه الوسيط ..
وضحكنا ..

***
واتجهت إلى العيادة ذات مساء .. فرأيت صوان جنازة في نفس الشارع .. فاضطربت وحسبت أن مكروها أصاب الدكتور حمدي وأنا لاأدرى ..
ولكن لما دخلت العيادة .. وجدت خليل التمرجى .. في مجلسه .. وكان أكثر الناس هدوءا .. فاطمأنيت ..
وسألته عن الدكتور ..
فقال :
ـ تفضل .. هوا جوا ..
ولما دخلت عليه عانقنى .. وقال .. بفرحة :
ـ ربنا خلصنا من المعلم ..
ـ من ..؟
ـ صاحب البيت .. مات ليلى أمس ..
وسألته مازحا ..
ـ أسلطت عليه الوسيط ..؟
ـ يا راجل حرام .. أنا كنت أضحك ..
وكان فرحا ونشطا .. ويحس بأن كابوسا ثقيلا رفع عن كاهله ..
وفكرت هل يفرح الانسان لموت إنسان آخر .. هل يحدث هذا في الحياة منذ وجدت الخليقة .. أم يحدث فقط في هذه الأيام بسبب أزمة المساكن ! !

***
وكان وجه التمرجى يروعنى .. فمنذ مات الرجل وهو على حالة من السكون .
وفكرت هل تخلص منه بحقنة قاتلة أو بغيرها من الوسائل .. لما يلقيه عليه من الزبالة من فوق ، وفعل ذلك لأنه أكثر الناس تضررا منه ..
وهل فعل ذلك وحده وبدافع من نفسه أم بتحريض ودفع من الطبيب .. وهل يفكر الرجل المتعلم المثقف في الجريمة كما يفكر كل الناس ..
وما جدوى العلم والثقافة إذا كنا نتساوى في الانفعالات والسقطات والثورات الجامحة وتنقلب إلى وحوش .. ولا فرق بيـن إنسـان وإنسـان إذا تملكه الغضب وأفلت منه الزمام ..
ظلت هذه الأسئلة تدور في رأسي أياما .. ثم صرفتني شئون الحياة عنها إذ سافرت إلى الإسكندرية في مهمة عاجلة .. ولما عدت إلى القاهرة وذهبت إلى العيادة كعادتي في مساء الخميس وجدت الدكتور قد بكر في الحضور عن ميعاده المسائي ..
والمرضى على غير المألوف وأكثر من المعتاد ..
وكان خليل .. في مكانه من المدخل .. يدخل الزبائن حسب أرقامهم .. ويخطو في الردهة .. بخطوه الثقيل المألوف .. ومرتديا نفس المريلة ..
وبعد أن انصرف المرضى .. وجلست مع حمدي نتحدث وتأملت وجهه البريء وروحه الصافية ، استبعدته تماما من الأمر فانه لايمكن لمثل هذا الإنسان أن يفكر في الجريمة على أي وجه من الوجوه .. مهما أوذي وأصيب من ضرر .
وتعشينا سويا .. وافترقنا على لقاء في الغد لأحضر جلسة التنويم .
***
وحضرت الجلسة .. في الميعاد .. كما حضر الأستاذ رمزي صديق الدكتور الذي وقع في بيته حادث سرقة ..
ودخلنا الغرفة المسدلة الستائر .. وشعرت بالظلام ورهبة المكان ..
وبدأ الدكتور ينوم الوسيط .. وكانت النقود قد سرقت من دولاب في غرفة النوم .. فأوضح الوسيط صفات السارق بدقة .. طوله وعرضه وسنه وملامح وجهه وما كان يرتديه من ملابس وقت الحادث . فعرف الأستاذ رمزي أنه قريب له فاشل وعاطل .. وكان قد شك فيه من قبل ولكنه استبعده لصلته القريبة ..
وقال الدكتور حمدي موجها الخطاب لى :
ـ والآن جاء دورك :
وارتعشت وقلت له على الفور لأقطع عليه السبيل :
ـ ليس عندي مشكلة .. وما سرقني أحد ..
فقال الدكتور :
ـ إنها مجرد نزهة في بيتك من زمان لم نزره ..
هيا يا مديحه ..
ـ أتجعل مديحه تتلصص في بيتى .. لا ..
ـ يا راجل لا تفكر هكذا .. إنها زيارة ممتعة ..
وتركته يفعل ما يشاء
وبعد دقائق قليلة .. نامت مديحه .. وانطلقت إلى بيتي في شارع حسن الأكبر بعابدين وقال لها حمدي ..
ـ صفي له الشقة ..
فوصفتها في دقة غريبة ..
ـ طيب .. هل يوجد أحد .. الأستاذ رأفت معانا الآن ..
ـ يوجد ضيوف .. جالسين في الصالة ..
ـ صفيهم ..
ـ سيدة مسنة .. وشابة .. ومعهما رجل أفندى طويل ..
فارتعشت ..
ـ صفي السيدة المسنة ..
ـ انها بيضاء .. قصيرة .. تلبس السواد .. ملثمة بطرحة .. وعلى خدها الأيسر غمازة .
وقال حمدي :
ـ انها والدتك ..
ـ والدتى جاءت من المنصورة .. الساعة .. من غير اخطار ..
ـ أجل .. وان كنت غير مصدق .. اتصل بها بالتليفون ..
ورد علىّ عبده الخادم ..
فسألته باضطراب :
ـ هل عندك ضيوف .. ؟
ـ أجل يا أستاذ .. الست الوالدة .. وأخت حضرتك وجوزها ..
ـ متى حضروا .. ؟
ـ منذ ساعة ..
وتصورت أن الدكتور أراد المزاح واتصل بالخادم واتفق معه على هذا الرد .
فقلت له لأزيح عن نفسي كل شك .
ـ طيب خلى والدتي تكلمني ..
ولما سمعت صوتها حقا ، سقطت السماعة من يدي ، وأصابني الإغماء !
***
ولما فتحت عيني وجدتني ممددا على كنبة الكشف والدكتور حمدي بجانبي ، وقد أمر خليل بأن يعد لي حقنة مقوية ..
ولما جاء خليل بالحقنة .. كان الدكتور قد خرج من الغرفة لبعض شأنه ..
فقلت لخليل وعلى فمي ابتسامة :
ـ أوعى تكون الحقنة مثل الحقنة التي أعطيتها للمعلم مرسى ..
فرد في هدوء :
ـ ومن قال لك يا أسـتاذ رأفـت .. أنني أعطيت المعلم حقنة .. ؟
ـ سمعت ..
ـ أنا لم أعطه حقنا على الإطلاق .. ولقد وجدته وحده في بسطة الدور الثالث .. وكان المصعد معطلا والنور مقطوعا .. وقبل أن المسه كان قد لفظ أنفاسه ..
ـ هل ضرب ..؟
ـ أجل ضرب في مقتل بطريقة فذة .. طريقة ليس لها نظير .. وأعظم عالم في التشريح لا يجد لها أثرا عضويا يمسك منه خيط الجريمة ..
ـ ومن الذي فعل هذا .. ؟
ـ لا أدرى ..
ـ هل له أعداء ..
ـ سكان القاهرة جميعا .. أعداؤه ..
وسمعت خطوات الدكتور حمدي في داخل الغرفة فقطعت حبل الحديث .. وأنا في حيرة ورحت أتذكر خليل وهو يقول لى منذ أسابيع .. لن يكون هناك 19 ولا 29 نوفمبر .. والرجل انتهى .. فعلا قبل هذا الموعد .

اسبيرانزا 19/08/2008 02:52

قصة عضة الكلب
 
في شتاء عام 1964 نقل طبيب الأسنان الدكتور حسن بهجت من القاهرة إلى وحدة صحية في الريف .. وكان الطبيب الشاب على عكس الأطباء الذين هم في سنه .. والذين ينقلون من المدينة إلى الريف دون رغبة .. ودون تمهيد .. فيشعرون بالمرارة والضيق النفسي والقلق .. كان على عكسهم تماما .. فقد شعر بالبهجة .. والتفتح النفسي والتطلع الواسع .. وكان في أعماقه يتوق إلى هذه التجربة الحية .. إلى العيش في قلب الريف .. مادام قد عاش إلى هذه اللحظة مدنيا صرفا .. ليخرج بشيء لا يجد مثله في الكتب .
ولما كان غير متزوج فقد أقام في السكن المخصص له بالوحدة .. وكانت القرية التي تقع فيها الوحدة من القرى الكبيرة والمواصلات إليها سهلة .. فهي قريبة من محطة السكك الحديدية .. ومن الطريق العام لسيارات الأجرة .. وأهلها وادعون مسالمون يشتغلون بالزراعة وتجارة المواشي .. وفيها سوق كبير يتجمع فيه أهل القرى المجاورة في يوم الاثنين من كل أسبوع .. ويتبادلون السلع بكل ألوانها وأشكالها ..
***
ولاحظ الطبيب الشاب شيئا في المرضى الذين يترددون على الوحدة .. شيئا لم يلتفت إليه أولا .. ثم شد انتباهه بعد أن برز بوضوح كطلعة الشمس .. لاحظ ندبة في الصدغ الأيمن من كل رجل يدخل الوحدة .. ورأى أن الندبة برزت وأصبحت كالدمل المقروح في وجوه الرجال فقط .. ولم يرها في وجوه النساء والأطفال ..
وأدركه العجب وخرج يمشى على جسر القرية وبين دروبها ليتأكد مما شاهد فوجد الندبة ظاهرة في وجوه الرجال .. وبارزة بوضوح .. واضطر بعد هذا التعميم أن يسأل أحد مرضاه عن سببها فعرف أنها عضة كلب .
ودخل شيخ البلد العيادة فرآه الطبيب وفى صدغه العضة .. فسأله في استغراب :
ـ حتى أنت يا شيخ على ..؟
ـ حتى أنا يا دكتور .. لم يترك الكلب رجلا في القرية إلا عضه .
ـ الرجال فقط ..؟
ـ أجل .. وبفراسة شديدة .. اختار الرجال لفعلته وترك النساء والأطفال .. لم يقترب من أحد من هؤلاء .
ـ ومتى حدث هذا ..؟
ـ منذ أكثر من سنتين .. وبنظام وترتيب .. بدأ بالذين فى البيوت والدروب ثم خرج إلى الغيطان .. وكان يثب كالليث .. ويتخطى الحواجز .. ولم يعض إنسانا مرتين أبدا .. فعلها مرة واحدة .
ـ وقتلتموه ..؟
ـ أبدا .. لقد كان في ضراوة الأسد وشدة بأسه .. فمن الذي يجرؤ على الاقتراب منه .. إنه هو الذي كان يستطيع قتلنا .. ولكنه اكتفى منا بترك هذه العلامة .
ـ وهل لا يزال في القرية ..؟
ـ أبدا .. خرج في ليل ولم نعد نراه ..
وشغلت هذه الظاهرة العجيبة بال الطبيب .. واستغرقت كل تفكيره .. وكلما مشى على الجسر وشاهد الفلاحين العائدين بدوابهم من الغيطان .. والسائرين فى الدروب وعلى وجوههم نفس الندبة في الصدغ الأيمن يتعجب ويتساءل .. قد يكون كلبا مسعورا ككل الكلاب المسعورة .. انتابته حالة سعار من مرضه .. ولكن لماذا التعميم والتخصص ..؟ أهو شيطان في جسم كلب ..؟
وأخذ الطبيب يسأل الموظفين في الوحدة وزملاءه الذين جاءوا إلى القرية في زمن قبله .
فعلم أنهم هبطوا القرية ووجدوا أهلها على هذه الصورة .. ولم يشغلهم الأمر أو يستلفت نظرهم لأنهم ظنوها خلقة طبيعية .. ومنهم من سمع أنها عضة كلب .. ومرت الأيام وألف من في الوحدة هذه الوجوه على حالها .

***
ولكن الدكتور بهجت .. ظل في حيرة من أمر هذه الظاهرة .. وتعجب كيف تكون عند الكلب هذه القدرة على ترك هذه العلامة في رجال القرية جميعا أمام سطوته ..؟ وهم يعرفون أنه يطاردهم في كل مكان .. قد تكون عضة واحدة في صدغ رجل واحد وانتقلت بالتصور إلى جميع الوجوه .

***
وأخيرا قرر الطبيب أن يصلى الجمعة في مسجد القرية الذي يجمع صورا مختلفة من أهلها .. الشيوخ والشبان .. ليتأكد من هذه العلامة الغريبة .. ولما دخل المسجد رأى الندبة برسمها وحجمها على وجوه المصلين جميعا .
وخرج المصلون من الجامع .. واختار الطبيب أكبر المصلين سنا .. وكان شيخا وقورا .. مال به الطبيب إلى جلسـة تحـت المحـراب وسأله وهو يشير إلى صدغه :
ـ وهـل هذه الندبة عضة كلب أيضا .. يا شيخنا الكبير ..؟
ـ أجل .. يا دكتور ..
ـ إنه شيطان إذن مادام يعض الصالحين المتوضئين من أمثالك ..
ـ إنه ليس بشيطان .. إنه نذير ..
ـ وهل إذا رأيت الكلب تعرفه ..؟
ـ بالطبع أعرفه .. وكل القرية تعرفه .. لقد كان من كلاب القرية .. وأخذه عبد الجابر السحلاوى وأصبح من زمرة كلابه .. إلى أن حدث ما حدث واختفى الكلب بعدها ..
ـ وما السبب الذي أهاج الكلب .. لقد سألت الكثيرين فلم أعرف السبب الحقيقي .. الأقوال متضاربة ..
ـ الناس يشعرون بالخجل يا دكتور .. من تصرفاتهم .. عقدة الذنب .. استقرت في أعماقهم .. فمنعتهم من الكلام .. لأن في التصريح بالكلام ورواية الحقيقة عارا .. وعارا أبديا .. على أهل الريف .. أهل الريف الذين عاشوا طول عمرهم يتعاونون في السراء والضراء .. ويغيثون الجار ويدافعون عن المظلوم .. ولكنهم تغيروا الآن يا دكتور .. وانقلب حالهم .. وتسلطت عليهم الأنانية في بشاعة .. حتى لا تجد فيهم من مروءة الرجال من يذوذ عن امرأة مسكينة .. لقد اقتص الكلب من أنانيتهم وانشغال كل منهم بحاله .. غافلا عن حالة أخيه .. مادام لا يصيبه من أمرها مكروه .. فكر فيالسلامة لنفسه .. ولم يفكر في سلامة الآخرين الذين يعيشون بجواره وفى حضن قريته وزمامها ..
لقد كان عبد الحافظ مدرسا في المدرسة الإعدادية بالقرية .. وغريبا عن أهل القرية .. جاء ليهديهم ويعلم أبناءهم .. ولكنهم خذلوه في خسة وضعف .. أشفق المسكين على حالهم عندما رأى السحلاوى يستولى على ريع السوق ويتاجر في سماد الجمعية المخصص لهم .. ويسرق قوتهم وقوت عيالهم .. ويسيطر على كل شيء بنفعية وتسلط .. فحرك الفلاحين ليقفوا فى وجهه .. ويطالبوا بحقهم .. ولكنهم تخاذلوا في ضعف مشين ..
وطلب منهم أن يشتكوه لمن يرد لهم حقهم المسلوب .. ولكنهم كانوا يعرفون بالخبرة أن الشكوى لا تنفع وسترتد إلى صدورهم .. فسكتوا .
ولم يرض عبد الحافظ بهذا وكتب هو الشكاوى بلسانهم .. ولكن الشكاوى كانت تموت لسطوة السحلاوى وكثرة معارفه من ذوى النفوذ ..
وعلم .. السحلاوى .. أن كاتب هذه الشكاوى هو عبد الحافظ .. وفكر في الانتقام منه سريعا ..
وكان عبد الحافظ لأنه أعزب .. وليس من أهل القرية قد اختار مضيفة الحاج حسانين القريبة من المدرسة كمنزل إقامة ..
وكانت المضيفة قريبة من حوش البهائم الخاصة بالسحلاوى ومن منزله .. وعند السحلاوى كلاب شرسة مدربة على الحراسة ونهش من يقترب من البهائم .. وكل من سار في الليل واقترب من حوش السحلاوى ومنزله يخافها لشراستها .. وكان السحلاوى لا يريد اغتيال المدرس الغريب مواجهة وإنما فكر في تعذيبه وإذلاله .
وفى ليلة من ليالي الصيف أطلق عليه وهو نائم كلبا من كلابه الشرسة .. وشاءت إرادة الله أن يعرف الكلب عبد الحافظ ويحفظ له صنيعه عنده .. فقد أطعمه عبد الحافظ ذات ليلة من ليالي الشتاء الشديدة البرودة .. وأواه في المضيفة .. وكان الكلب وقتها طريدا شريدا .
وعرفه الكلب .. فنام بجواره يحرسه بدلا من أن ينهش لحمه .. وجن جنون السحلاوى عندما رأى عبد الحافظ لم يمس بسوء .. وما كان يفعله مستخفيا .. أخذ يفعله علانية وهو فى حالة هياج .. فأخذ يضرب الكلب .. ويطلقه على المدرس .. ولكن الكلب لم يستجب له إطلاقا .. فرأى أن يضع مع الكلب كلبا آخر ليحرضه على افتراس المدرس المسكين الذي أخذ يستغيث بأهل القرية فلم يغثه أحد .. كانوا مشغولين بحالهم .. ويخافون من بطش السحلاوى فتخاذلوا عن غوث الغريب .
وأخذ السحلاوى بعين الوحش يرقب ما يجرى أمامه ولكن .. خاب فأله .. فقد افترس الكلب الأول الكلب الثاني وألقاه جثة هامدة .
ولمح السحلاوى عين الشر في عين الكلب الأول فلم يقترب منه وإنما قرر أن يقتله بمسدسه .
وفى اللحظة التي فكر فيها أن يفعل هذا كان الكلب الأول قد وثب عليه وألقاه على الأرض .. بعد أن عضه في صدغه تلك العضة .. ووضع فى وجهه تلك العلامة المميزة ..
وارتعب السحلاوى وغشى عليه .. ولما أفاق كان الكلب قد خرج من القرية ..
ولكنه عاد إليها وأخذ يعض الرجال من أهلها بالصورة التي رأيتها في وجوههم .
وبعد هذه الحادثة لفق السحلاوى تهمة للمدرس المسكين ونقله من القرية ..
وسافر السحلاوى ليعالج نفسه من عضة الكلب وطال غيابه ..
وصمت الشيخ قليلا ليرى أثر حديثه في وجه الطبيب الشاب ثم قال :
ـ هذه هي قصة العضة التي تراها في وجوهنا يا دكتور بهجت وأرجو أن تساعدنا أنت وزميلك الجراح على إزالتها ..!
ـ مع الأسف يا حاج .. لا أستطيع ذلك .. لا أنا .. ولا زميلي الجراح ..
ـ كيف .. يا دكتور .. كيف ..؟
ـ لأنها من عملكم وخصائص نفوسكم .. ومتى تغيرتم ستزول ..
ـ بغير جراحة ..؟!
ـ بغير جراحة ..
وشكر الدكتور بهجت الشيخ الكبير على حديثه .. وأخذ طريقه إلى الوحدة ، وهو يفكر فى طريقة عملية ليخرج الخوف من نفوس هؤلاء المساكين الذين أصابهم الكلب بهذه الوصمة .. وتمنى أن يرى السحلاوى والكلب والمدرس وبعد هؤلاء الثلاثة سيعالج الخوف بطريقته .

***
ومع دوامة الحياة تصور عبد الحافظ أنه نسى ما حدث له .. ولكن تصوره كان خاطئا .. فقد كان الجرح عميقا وضاربا في أعماق النفس .
وذهب يسأل عن السحلاوى فعلم أنه مات .. ومات مع قوته الانتقام .. ونسى عبد الحافظ ما حل ولكنه فوجئ بعد ذلك بمن يخبره أن السحلاوى حى وفى بلده .. فأشعلت في نفسه جذوة الانتقام التي حسبها تحولت إلى رماد .. وقرر أن يغتاله في نفس المكان الذي عذبه وأذله فيه .. نفس المضيفة .
وركب القطار إلى القرية بعد أن تسلح .. ووصل إلى بساتينها ساعة العصر .. ورأى أن يظل في البستان إلى الساعة التي يختارها في الليل للتحرك .
وبعد وصوله بأقل من ساعة شاهد جنازة طويلة تتجه إلى المقابر القريبة من البساتين ..
فسأل عنها .. وعلم أنها جنازة السحلاوى .
وتعجب وقال لنفسه :
ـ مات السحلاوى في اليوم الذي قصدته فيه .. ما أعجب الدنيا بتصاريفها ..
وتعجب أكثر من طول الجنازة وعرضها .. فقد خرج وراءه رجال القرية جميعا .
وردد لنفسه :
ـ إنهم يخافونه ميتا .. أكثر مما يخافونه حيا ..

***
ودخل عبد الحافظ في خط الجنازة مع الرجال .. وتلفتوا بأصداغهم التي عضها الكلب .. وتهامسوا ..
ـ جاء المدرس .. يشترك في الجنازة .. ونسى ما فعله فيه ..
ـ إنه نبيل .
وفجأة اضطربت الصفوف المتراصة الواجمة .. ورفعت رؤوسها المنكسة .. وصاح الرجال :
ـ الكلب .. الكلب ..
وأصابهم الذعر .. ووضعوا النعش على الأرض .. وانطلقوا يمينا وشمالا في الغيطان يسابقون الريح ..
ونظر عبد الحافظ فوجد الكلب واقفا على القنطرة التي سيعبر منها الرجال إلى المدافن .. إنه نفس الكلب ولكنه تضخم أكثر وغدا أشبه بالأسد في ضراوته ..
تقدم عبد الحافظ نحوه بثبات وناداه :
ـ تعال .. يا مبروك .. تعال إلى صاحبك ..
واتجه الكلب إليه بعد أن عرفه .. وهو يحرك ذنبه فرحا بلقاء صاحب قديم ..
ووضع عبد الحافظ يده على رأس الكلب ومسح على ظهره بنعومة .. وطوقه بذراعيه .. ثم أشار إليه بأن يبتعد ..
فانسحب الكلب وهو يشيع صاحبه بنظرة لم تصدر مثلها من إنسان ..
وانحنى عبد الحافظ على النعش ليحمله .. وشجعت هذه الحركة الرجال .. فعادوا إلى الجنازة من جديد ..
عادوا وهم يشعرون أن حركة الكلب قد فعلت شيئا فيهم لم يدركوه بعد .. وهم يتحركون في صمت .. والمدرس الغريب بينهم وفى رأس الصفوف ..

اسبيرانزا 19/08/2008 02:53

قصة الصياد
 
أبحر الزورق في الخليج .. ومنذ اندلعت نيران الحرب وشعبان لا يبـعد في الليـل. كان يصطاد قريبـا من الساحل متحاشيا الموج ما أمكن، وكانت الظلمة شـديدة ولكن الريح كانت رخـاء.. فأرسل الزورق على سننه .

وأخذ يرمى الشبكة وهو جالس في المؤخـرة .. وكان يمنى النفس بصيد كثير قبل أن ينتصف الليل. فلم يكن منذ نشب القتـال يتأخر عن زوجته وأبنائه الصـغار. كانت صورهم لا تبعد عن ذهنه أبدا وهو في قلب البحر.. أنهم امتداد له وحياة ..

خلف مدينة السويس وراءه غارقة في الظلام ولا يبدو من بيوتها البيضاء ومآذنها وأعمدة مصابيحها.. إلا ظلال في العتمة الشاحبة.
وبدا شاطئا القناة من بعيد في سواد الأبنوس .. وغابت الأشجار التي على الشط الغربي من بور توفيق في الظلمة وانطمست معالمها ..
وأخذ شعبان يحرك الزورق بلين .. ولجة الماء دكناء ساكنة وغيـاهب الليـل تتساقط في كل ساعة تنقضي وتصبح كريش الغراب.
وفجأة أحس أن الشبكة أمسكت بشيء .. فقد اهتزت في يده بعنف .. وخشي أن يمزق الصيد الشبكة لضـخامته وقوته.. فأرخى الحبـل حيث جرته السمكة واتجه إلى الشرق .. تسـحب في لين وراء السمكة الكبيرة .. التي أحس بها تنتفض في عنـف وخشي أن تكون من صنف القرش فيذهب كل تعبه هباء وتصبح الليلة لا نفع منها ولا جدوى فيها.. تصبح ليلة من ليالي النحس .

واشتد الجذب فأرخى الحبل .. أرخى وهو يحس يرجفان قلبه وظـل يطامن حتى وجـد نفسه يقترب من شط القناة الشرقي ويسير بحذائه في هوادة ولين ، حابسا ما أمكن صوت المجاديف .

كان يعرف أن المعركة في هذا الساحل وأن القتال يدور على أشده هناك .. وأخـذ يسمع بوضوح صوت القنـابل التي تلقيها الطائرات وصوت المدافع .
كان شعبان يعيش في قلب المعركة بكل حسه ووجدانه . لم تكن بعيدة عنه أبدا فقد بدأت يوم الاثنين.. واليوم هو الأربعاء ثالث أيام المعركة ، والقتال يدور في عنف وكان يتبعها بحواسه وإذا سمع نبأ سيئا ثار وعض على نواجذه ولم تمنعه الحرب عن السعي وراء معاشه ولكنه كان يخرج في الليل مسلحا ببندقية سريعة الطلقات يتقى بها الشر أينما كان ..

وفى اللحظة التي أحس فيها بغريزته كصياد أن الشبكة صادت شيئا ضخما لم يحدث له في حياته.. انتابته نشوة عارمة .. وكان لا يود أن يفلت منه هذا الصيد أبدا.. فلما جذبته شرقا طاوعها واتجه بالزورق إلى الشاطئ الشرقي .. كان لا يريد أن يضيع منه الصيد بعد هذه المشقة.

وأخذ يسحب الشبكة بيد الصياد الماهر .. وقد خيم السكون فجأة وخيل إليه أن الحرب قد توقفت.
خيم سكون ذهل له.. وخيل إليه في قلب الظلام أن المدينة ستتلألأ في هذه الليلة كما كانت قبل الأيام الثلاثة .. ستتلألأ كما كانت من قبل وتزهو وترقص قناديلها كلما مايلتها الريح ..

***

وعندما اقتربت الشبكة من القارب ورأى بعينيه السمكة الكبيرة التي اصطادها شعر بفرحة .. إنها ليلة من ليالي الخير .

وأخذ وهو نشوان يخـرج السمكة من الشبكة ويضـعها في بطن القارب.. إنها ضخمة بشكل مهول، ومن أكبر الأسماك التي اصطادها في حياته كصياد.

***

وفجأة سمع أزيزا عنيفا وحلقت طائرة فوق رأسه .. فاضطرب أولا ولكنه تماسك وحدق في الظلام فبصر بأجسام طويلة تسقط من الطائرة في مجرى القناة.

ودوت المدافع المضادة وتكهرب الجو . واستمر القصف مدة .. ثم سكن ..
وظل الصياد يتحرك في المياه الهادئة وهو قريب من الساحل، وسمع فجأة اشتباكا على الأرض قريبا منه وطلقات رصاص.
فلما اقترب بالقارب من الموقع والظلام يخيم على البحر واليـابسة.. بصر بجندي مصري من جنود السواحل مشتبك مع دورية إسرائيلية في قتال رهيب. ومع أنهم أكثر منه عددا ولكنه ظل صامدا وقتل منهم واحدا وجرح آخر .. وكان منبطحا وراء كثيب من الرمل .. والرصاص يتطاير حوله .
ودفع الصياد الزورق إلى الشاطئ ونزل منه سريعا واقترب من الموقع زاحفا ببندقيته حتى كمن بجانب الجندي المصري وأخذ يشد أزره على القتال والصمود وكان الجندي قد جرح جرحا بليغا في هذه اللحظة ولكنه ظل مع ذلك يطلق النار ثم سكتت بندقيته .
وظل الصياد يقاتل وحده حتى سكتت كل بنادق العدو . وخيم السكون وظل فى مكمنه قابعا بجوار رفيقه مدة ثم رأى أن يغير المكان .. فنهض وتلفت حواليه ليتخير الموقع الذي سينتقل إليه . وهنا سمع انفجارا رهيبا في البحر وطار زورقه وتمزقت شباكه ولم يحزن كثيرا .
وتقدم حتى اقترب من جندي السواحل الجريح .. كان لا يزال ينـزف دمه .. وغسل جراحه وحمله على ظهره وسار به في الليل محاذرا متوقعـا في كل خطوة أن يقـع في أيدي الأعـداء الذين انتشروا في الصحراء ، وكان الرصاص يتطاير حواليه وخلفه .
سكن الليل بعد القذف واللهب المنبعث من الأرض والسماء .. سكن الليل .. سكون الموت .. وكلما سار الصياد بالجندي خطوات طلب منه هذا أن يضعه على الأرض ويمضى لسبيله وإلا سيقع الاثنان في أيدي الأعداء.. ولكن الصياد كان يرفض بإصرار ويتصبب عرقا . وهو يسير باذلا من الجهد فوق كل طاقات البشر.
كان ينظر إلى الشاطئ الغربي والليل قارب على منتصفه والظلام يخيم ولا مغيث..
قد تمر عليهما دوريات الأعداء وتمزقهما بالرصاص ..
وظل يسير وهو يحمل الجريح والريح تصفر في الصحراء ..
كان شعبان يحس بثقل الجسم على عاتقه وبتعبه الشديد وانقطاع أنفاسه ولكنه كان لا يريد أن يضع الجريح على الأرض أو أن يستريح خشـــية أن يعـطل ذلك إسـعافه وإنقــاذ حياته.. ولأول مرة يعرف قيمة النفس البشرية والحرص على بقائها وبذل كل سبيل لإحيائها.
لكم خرج في الليل يصطاد الحيتان، ولكم قاسى في الليالي الحالكة، ولكم خاطر بحياته ليأتي بطعام أولاده.. ولكم شعر بالفرحة بعد الجهد والعرق ..
ولكنه لم يحس بمثل السعادة التي يحس بها الآن.. وهو يحمل جنديا جريحا .. قاتل ببسالة ..
ولم يكن وهو يحمله يفكر في تعبه قدر تفكيره في إنقاذ روحه.
ولأول مرة في حياته يحس بأنه وحدة واحدة في عالم كبير .. وأنه جزء من كل.. وأن التعاون عضد الحياة..

***

وطال السير في الليل والظلام .. وبلغ المرحلة التي أحس بعدها الصياد بأنه لا يستطيع أن يتقدم خطوة أخرى.. وأنه آن له أن يلقى بالحمل على الرمال..

ويتخفف هو من ملابسه .. وقد يجد شيئا يستعين به على أن يعبر القناة إلى بور توفيق، أما أن يربط حياته بهذا المخلوق الميت.. فذلك فناء وسيموتان معا .. أي سلسلة ربطتـه به، لابد من فكها.
وتمهل جدا .. وفى ظل كومة من الرمال وسد الجريح بعناية كما يوسد الموتى تماما ، وجعل وجهه للقبلة وقرأ الفاتحة في صوت خافت .. ثم القي عليه نظرة أخيرة وانطلق في الرمال .
وكان الظلام يلف كل شيء في شملته.. والريح تسفي الرمال ومياه قناة السويس ساكنة على شماله .. وغياهب الظلام تزداد كثافة .
وسمع طلقات النار مرة أخرى
ولكنه كان مطمئنا بأنه سينجو وسيعود إلى بيته كما خرج منه.. ولكن كيف يعود .. ويترك رجلا من وطنه ينزف دما .. ولا تزال فيه الروح .. كيف يتركه هناك وحده .. أحس بأن قدميه تغو صان في الرمال ومسح عرقه..
ورجع إلى الجريح فحمله مرة أخرى وسار به قرب الشاطئ .


***
وفى وضح الفجر.. رآه صياد آخر عن بعد ولوح له شعبان بيده فحول الصياد الزورق إليهما والتقطهما.. وظل شعبان يحكى ما جرى له للصياد الآخر ويحكى .

اسبيرانزا 19/08/2008 02:54

طلقة فى الظلام
 
كانوا ثمانية خرجوا في الظلام من مدينة العريش والعدو على مبعدة ثلاثة كيلو مترات منها .. وهدير القصف يسمع في كل مكان .. وعندما تجاوزوا حدود المدينة وجدوا خلقا كثيرا يتحرك مثلهم إلى الغرب ..
واكتسحت الجموع الطريق الضيق، كانوا يسيرون في مشقة، وقد اختلط الحابل بالنابل، والرجال بالنساء، والأطفال بالشيوخ، والعذاب يلفهم في كل خطوة.
كانت الحرب تتحرك بسرعة رهيبة . والحياة نفسها تتحرك في قلوب هؤلاء المشردين بسرعة ولهفة.
وكانت السيارات قد اختفت عن المنطقة كلها، أخذها من سبقهم إلى الفرار.

والطريق المألوفة قـد خربت بالقنابل لتعوق المدرعات من الانسحاب، فاضطر الأهالي إلى الاتجاه إلى البحر، والتفرق في صحراء سيناء، وساروا على وجوههم.. وكانت الأرض والسماء ملفوفتين بالدخان والنار.. والطيور تطير مذعورة وريح الصيف تزفر نارا وبخارا ..
وكان القلق يعصف برؤوسهم ..
وظلوا يسيرون طوال الليل ، والقنابل تتناثر حولهم ، ودوامات الرمال تثور فى وجوههم والفراغ الرهيب الذي يحدث من الانفجار يعريهم من ثيابهم ، ويطير متاعهم من أيديهم ..


***

ورغم تفكك الجموع. ظل الثمانية كما هم.. وكانوا جميعا من الموظفين المصريين الذين يعمـلون في العريش ومن بينهم سيدتان .

ورغم تزايد عدد الرجال على النساء في هذه الرحلة الرهيبة فقد استراحت المرأتان إلى الصحبة.
ولم تكن بين هذه الجماعة أية علاقة عمل أو جوار .. ولكنهم اجتمعوا على الطريق لغرض واحد..
وساروا أولا حـذاء البحر، والنخيل الكثيف النابت في الماء على يمينهم يتمايل ويلطف الجو كله. فلما جاءتهم أنباء بنـزول الأعــداء من ناحـية البـحـر، غيروا اتجاههم ودخلـوا في الصـحراء.
وبعد نهار خانق وشمس حامية، ورمال حارقة. عثروا في الليل على سيارة قديمة ، وقبل سائقها بعد مساومة طويلة ، وبعد الضراعة ، وكل ضروب التوسل .. قبل أن يحملهم إلى القنطرة شرق وهم وحظهم في العبور.. !
وتقاضى منهم الأجر مقدما قبل أن يضعوا أقدامهم في العربة.. تقاضى منهم أجرا باهظا كأنه سينقلهم إلى أوربا .. ودفعوا صاغرين ولم يتعجبوا إنها دقات الحرب ونوازعها الشريرة في النفوس الوضيعة.

وقال السائق القصير العنق ، النمش الوجه ، الأحمر الشعر ، بعد أن تحرك بالسيارة في طريق ملتوي يعرفه أمثاله :
ـ سنتعرض في الطريق للتفتيش .. فقد نزلوا بالمظلات وهم الآن أمامنا.
ونظر للسيدتين بخبث فالتهب وجهاهما .
ثم أضاف :
ـ وأرجو ألا يكون معكم سلاح .. وإلا تعرضنا للمهالك ..
فلم يرد عليه أحد .. كان الانكسار قد سحق مشاعرهم ، وجمـد إحساسهم ، فلم يعودوا يعبأون بأي شيء يقع لهم .
وكانوا قد خرجوا من بيوتهم دون أن يتزودوا بزاد الطريق، حمـلوا نقودهم فقـط، وتركوا كل شيء آخر، ومنهم من نسى حتى ذلك..
ولم يجدوا على الطريق من يبيع لهم الماء.. وشكروا الله لأنه ليس معهم أطفال.
وبعـد سـير بطيء أسرع منه المشي على القدم.. وفى جو الحرب والقصف .. فاجأتهم غارة مروعة فخرجوا جميعا من السيارة ، وطاروا على وجوههم يدفنون أجسامهم في التلال الرملية المحيطة بهم

***

ولمــا فتــح إسـماعيل عينيـه وأفـاق من غشيته ، وجــد أمينة وحدها هي الباقية من الثمانية ، ولم يعرف أين ذهب الباقون ، غيبتهم الصحراء في جوفها ، أم مزقنهم القنابل.
وشكرت أمينة ربها لأنها وجدت رجلا بجانبها في الليل والحرب .. وكانت قد استراحت إلى إسماعيل منذ ركبت معه السيارة، استراحت إلى أعصابه الهادئة وجلده.. واشتمت في ملامحه وطباعه النبالة .. ولم تكن فراستها تخيب أبدا في نظرتها إلى الرجال ..
فمنذ بدأت تعمل وتخرج إلى الحياة ، وتنتقل من بلد إلى بلد ، وهى تحمل بين جنبيها ذخيرة تجارب صادقة ..
ولم تكن وهى الأنثى الشابة الجميلة إلى حد الفتنة .. ترفض البعد عن الأهل في سبيل العمل والحصول على رزق أوسع .. وكانت بعد العريش تتطلع إلى العمل في الكويت .. وليبيا.. والسعودية لتجمع لأسرتها من المال ما يبنى لهم بيتا.. فيلا جميلة بدلا من السكن بالإيجار..
ولكن أحلامها أوقفتها الحرب عند وجه إسماعيل .
وتطلع إليها في غبش الظلمة والصحراء في لون الرماد ، والطلقات تصفر .. وقال بتؤدة وهو يتألم لما لاقته في سفرها من عذاب :
ـ يجب أن نخرج من هذا المكان.. ونسرع ما أمكن .. وكنت أود أن يعطيني الله القوة لحملك. وما أحسبك ثقيلة الوزن .
فقالت ورغم الضنى ابتسمت :
ـ في حدود ستين كيلو ..
ـ ليس هذا بالصعب .. إنه وزن استطيع حمـله والسير به عشر خطوات .!
ونظر إلى عينيها على اتساعهما ، تلمعان في الظلمة .. وقد هزتها كلماته المداعبة في هذا الجو .
وقال وهو يجلس على الأرض :
ـ يجب أن نتخفف من حملنا لأن المشوار طويل.. وسأبدأ بنفسي .
وفتح حقيبته وأخرج حاجات قليلة وضعها في جيبه .. وألقى بالحقيبة وما بقى فيها في الرمال وهو يقول:
ـ إنها مطمع للأعراب .. ولا خير فيها .

وقالت بعد أن شاهدته يضع مسدسا في جيبه .
ـ أكنت تحمل المسدس.. بعد أن حذرك السائق من التفتيش..؟
ـ المسدس حملته من أجلك .. ومن كان يضع يده عليك سأرديه قبل أن يتحرك له أصبع ..
فانشرحت لقوله وقالت في رقة :
ـ ولكنك ستموت بعدها..
ـ وما قيمة الموت للمرء . بعـد أن يشعر بأنه أدى واجبه كرجل ..
وقال وهو يشير إلى حقيبتها :
ـ والآن جاء دورك ..!
فقالت وهى تفتح الحقيبة ..
ـ انظر ليس بداخلها سوى أشياء قليلة . ماتتزين به النساء .. ونقودي وجواهري، أما ملابسي كلها فقد تركتها في البيت .. وليس معي سوى فستاني الذي أرتديه ..
وتأمل فستانها الوردي، الذي كان لا يزال منسجما على جسمها، رغم رحلة العذاب وكانت رشاقتها تنبع من حيوية جسمها فبعد التمرغ في الرمل يبدو كل شيء بعد لحظات بكل جماله الطبيعي.. العينان والشفتان.. كلها تفيض بالحرارة والفتنة ..
وكانت قد غطت شعرها الأسود المتموج بإيشـارب وخلعـت ساعتها الذهبية .. كما خلعت حذاءها.. وأبقت سلسـلة ذهبية في عنقها لأن في نهايتها المصحف ..
وأعطاها جوربه وهو يقول :
- البسي هذا... وسنسير في الليل.. وفى بكائر الصباح .. أما في وهج الشمس فسنتوقف عن السير .. ونحتمي في أي مكان نراه صالحا.
ووضعت يدها في داخـل حقيبتها ، وأخرجـت منها حزمـة من الأوراق المالية وقالت له :
ـ ضع هذه النقود في جيبك ..
ـ خليها في مكانها وسأحمل عنك الحقيبة بما فيها .. ولكن ما هذا المبلغ كله ؟
ـ كنت ذاهبة إلى غزة لأشترى ثلاجة وتليفزيون، وأدوات مائدة لأختي، والحمد لله لو ذهبت ما استطعت العودة..
ـ خذي هذا المبلغ احتياطيا للظروف .. فربما طوقونا .. وفصلوا بيننا ..
ـ معي ثلاثين جنيها..
ـ أين .. ؟ !
واستغرب فلم يكن لثوبها جيوب .. وأشارت إلى صدرها فى خجل .
ـ يا لبراعة النساء..
وابتسم والليل تبدو غياهبه في كل موضع .. وبقيت النجوم وحدها تتلألأ في السماء بين الدخان ولهب الحرب ..
وحمل لها الحقيبة وسارا .. وعجب ـ وهو يسير إلى جانبها في الليل والحرب ـ لما أحس به.. فقد شعر بقـوة لم يشعر بمثلها في جسمه .. وكانت الريح الخفيفة تحرك الرمال . ولكن سماء شهر يونيه بدت صافية .. كلما خف الدخان ووهج النيران..

وشعرا معا بوجود جسم رمادي يتحرك عن يمينهما على مبعدة مائة خطوة لا أكثر، ثم تبينا أنها سيارة عسكرية للعدو.. وكانت تسير ببطء شديد فى طريق متعرج .. وتتـوقف لتسير.. ولعلـها ترسـل الإشارات .. وأحس إسماعيل بالخطر. فأمسك بيد أمينة وجذبها إلى الأرض .. فانبطحت بجانبه في رملها وترابها .. وهمس في أذنها .. فكتمت أنفاسها والتصقت بالرمل أكثر وأكثر .. وتخشبا تماما .. ووضع يده على مسدسه .. ثم تركه بعد أن تبين أنها مخاطرة.. فيها من الطيش أكثر مما فيـها من التعقـل .. ومـا ذنب أميـنة فهي إن نجـت من القتـل لن تنجـو من العـار..
وأمسك بيدها وضغط وأحس بالحرارة والعرق والتراب والرمل .. أنه ترابه ورمله . ولن يخوناه أبدا .. وراقب السيارة بعين الصقر حتى ابتلعتها الصحراء في جوفها ..
وأنهضها واستأنفا السير ..
ولم يكن يدرى أهي خائفة..؟ كما تخاف النساء من الليل والحرب أم لا . ولكنه كان مستيقنا من أنها شجاعة.. وأنها سريعة الخاطر ومتحركة.. وتبين له هذا من كل الأشياء التي اعترضتهما في الطريق .
ولم يكن يسير في طريق يعرفه ولكنه كان بحسه يتجه إلى القنال بعيدا عن طريق الحرب.. وعن جوف الصحراء حتى لا يظل في التيه..
سار على هدى بصيرته مستضيئا بالنجوم .. وسارت بجانبه مطمئنة راضية .. ونسى تعبه وجوعه ، ونسى قدميه وقد أخذتا في التورم .. ولم يكن يدرى الذي جرى لقدميها ولكن كانت تتحمل العذاب في صمت ..
وأحس بأن له هدفا وسط هذه المعمعة، التي لم يشترك فيها بسلاح.. وهو أن يهون عليها السير، ويحميها من شر الليل، وشر الإنسان

اسبيرانزا 19/08/2008 02:55

وقبل الفجر بساعتين استراحا بجانب تل .. بعيدا عن كل قدم يمكن أن تتحرك.. ووضع لها الحقيبة تحت رأسـها الذي عصبـته بإيشـارب وتمددت على الرمال وهو قريب منها.
ولما شعر بأنها نامت، وأحس ببرد الليل، خلع سترته وغطاها في رفق حتى لا توقظها حركته.
ولكنها كانت متيقظة، وشاعرة براحة النفس واطمئنانها، لأنها لا تزال حية وفى رفقة رجل أدركت بغريزتها كل ما في طباعه من نبل وشهامة.. وان لم يحدثها أحد عن ذلك.. وكانت تلاحظه بعينيها وهو على مبعدة خطوتين منها . وتخاف عليه من حشرات الصحراء في الليل ..
نسيت أنها في حرب .. وما يأتي ساقطا من السماء هو شر من كل حشرات الأرض. ولاحظت أنه لم يدخن حتى في النهار وضوء السيجارة لا يضير في هذه الساعة ولا يكون دليلا للأعداء.. حرم نفسه من هذه المتعة لأجلها حتى لا يضايقها برائحة الدخان.. ويثير أعصابها وهى جائعة تعبة ..
كان قميصه قد اتسخ ، وتهدلت بدلته وعلق بها العرق والغبار .. وطال شعر ذقنه وبدا خشنا وعلا الشحوب وجهه . واتسعت عيناه من الإرهاق والجوع ..
كانت الصورة في مجموعها تثير الشجن ولكنها شاقتها .. كانا في حالة عذاب مشتركة وقد سرح بها خيالها حتى جعلها تتصور. أنه سار في هذا الطريق الشاق من أجل أن يحميها.. ولو كان وحده لسهل عليه الأمر.. ونجا .
وفتح عينيه وهى تمشط شعرها ، ورأى حبات الرمال في لون الزمرد عالقة بثوبها .. كأنها تطريز جديد عمل فيه بدقة .. فعجب للطبيعة التي تزيد من جمالها في كل ما تفعله بها
وقالت بعذوبة ..
ـ ألا تحلق ذقنك ؟
وضحك لمداعبتها وقال :
ـ وينقصنا الحمام أيضا . ومرآة زينة كبيرة لك وكل العطور الجميلة التي في العالم .. والآن هيا .. مع الجوع والعطش..

***


ومشيا بعد طلوع الشمس على مهل ، كانا ينـزعان أقدامهما من الأرض بمشقة . واشتد بهما الجوع وبلغ العطش مبلغه . فظهر الشحوب على وجهيهما ، وابيضت الشـفاه وتشـققت .. وترددت الأنفاس بصعوبة .. ولكنهما كانا من الشجاعة بحيث لم يتطرق إلى قلبيهما اليأس..
ومشيا أقل من مائة خطوة ، ثم ارتميـا على الأرض كميتين ، وأغلقا عيونهما من الشمس وأخذ هو يتشهد فى سره ..

***


وتحرك إسماعيل بعد ساعة وفتح عينيه وشاهد على مرمى البصر.. وفى وهج الرمال المصفرة من الشمس خيطا من الدخان يتصاعد من ظهر كوخ.. فنبه أمينة إلى ما شاهده وهو يشعر بالفرح.. فقد وجد خيطا من الأمل وسط ظلام اليأس.. والجوع القاتل.. وجعلها تستريح في مكانها..

واتجه هو نحو الكوخ محاذرا منهوكا، ولما اقترب تصلبت رجلاه ويده على المسدس.. كانت تحدق فيه من فتحة الكوخ عينا رجل.. وجه نحيل خشن وحاجباه كثيفان، وعيناه فيهما صرامة وتحد..

وأظهر إسماعيل كل ضروب الوداعة واللطف .. وهو يقترب من الرجل ويقف على بابه .. ويطلب منه الماء والطعام .. واعتذر الرجل بأن الدار خاوية منذ الأمس، فلا توجد كسرة خبز ولا قطرة ماء.. عندهم.. ولم ييأس إسماعيل وظل يحـاور الرجل ثم أخرج له ورقة بخمسة جنيهات ليغريه ، فتغير حال الرجل على التو ..
ودخل وعاد يحمل خبزا ولبنا .. ناولهما لإسماعيل ..
وحمل إسماعيل الخبز واللبن في ركوة ومنديل ولكن قبل أن يبعد عن الكوخ سمع المرأة في داخل الكوخ تشتم زوجها وتوجعه بالكلام وتوبخه، لأنه أخذ ثمنا لإطعام جائع غريب.. وظلت تصب عليه اللعنة بصوت جارح ..
ثم جذبت الورقة ذات الجنيهات الخمسة منه ، وخرجت تجرى ، وأعادتها لإسماعيل ، وهى تعتذر عن جشع زوجها .. وسرته هذه الشهامة من الأعرابية .. وحكي كل شيء لأمينة وهما يجلسان للطعام .. وكان يردد :
ـ تأملي الحياة .. الخير .. والشر.. في بيت واحد ..
وبعد أن أكلا وشبعا.. لم يستطيعا مواصلة السير إلا قليلا.. جعلهما الشبع بعد الجوع القاتل في حاجة شديدة إلى النوم .. فناما في فجوة منخفضة .
واستيقظ إسماعيل وأمينة نائمة بجواره وتكاد تكون ملاصقة له.. وقد جعله الطعام الذي أجرى الدم في عروقه وغير من حاله.. ينظر إليها لأول مرة كما ينظر الرجل إلى المرأة .. ويشتهيها ..
وكانت نائمة مستسلمة، وما تكشف من جسمها، رغم ما علق به بسبب الطريق كان لا يزال يثيره ولو اقترب منها ما منعته.. ولا رفضت له رغبة .. ولقد لفتهما الحرب في إعصارها والموت يترصد لهما في كل خطوة..
فلماذا يحرم نفسه من متعة الدنيا، وحياته مهددة بالموت في كل لحظة..
وهم بأن يقترب منها ولكنه أحس بمثل الإعصار .. يشق عينيه .. فظل جالسا مدة في مكانه ساهما سادرا. ثم رجع إلى نفسه يلومها على ما انتابه من هواجس وأدرك أنها كانت تحتقره لو فعل بها شيئا. تحتقره كرجل، لأنه استغل ظروف المكان، وخان الأمانة التي جعلتها تضع نفسها ومالها وجواهرها في حماه..
ولما استيقظت من نومها .. ابتسم لها وأمسك بها من يدها واتجها إلى القنال .. وفاجأتهما غارة عنيفة وهما على مداخل القناة .. وغاب إسماعيل عن وعيه ..
ولما أفاق أحس بأثر الضربة في صدغه .. ولا يدرى أكانت من شظية أم من الحصى المتطاير من فعل القنبلة. وسال منه الدم ولكنه تحامل على نفسه ونهض وأخذ يبحث عنها كالمجنون.
وبعد طول البحث لم يعثر عليها . وأدركه اليأس ، وبلغ منه التعب منتهاه ، فارتمى على حافة القناة وكأنه يموت ..

***


ومضت ساعات وهو مضطجع بجانب التل يتابع بعينيه موج البحر .. وكان شهاب من نار ودخان يتفجر في الصحراء .
وظل إسماعيل الليل بطوله يسمع الدوى ، ويرقب البحر ، وهو في أشد حالات الحزن لفراق أمينة وقد نهش قلبه القلق عليها ولفه في إعصار ..
ورأى في مواجهته زورقا يقترب من شط القناة بحذر .. فنهض في تثاقل وتعب وأخذ يتجه إليه، ولمحه الصياد وهو يسير على الشاطئ .. فحرك الزورق ليقترب منه ..
وقال له إسماعيل :
ـ تعديني القناة يا ريس..؟
ـ أعديك .. ولكن أنت شايف الحال ..
ـ أي حال ..؟
ـ اليهود في كل مكان .. في الشمال والجنوب وطائراتهم تدك .. والتعدية مخاطرة .. وثمنها غال ..
ـ أنا مستعد لما تطلب ..
ـ أعتدت أن آخذ مائة جنيه .. ولكن لأجل خاطرك سآخذ خمسين فقط ..
ـ لماذا تستغل الظروف يا ريس.. عيب .. تكفى عشرة ..
ـ قلت خمسين يعنى خمسين..
ـ هذا كثير ..

ـ أنت حر ..
وحرك المجاديف ليبتعد بالزورق، فارتعد إسماعيل بعـد أن أدرك أنه سيدفن في فيافي هذا المكان كما دفن غيره، وقال في ضراعة..
ـ سأدفع لك ما تريد..
ـ النقود أولا.
فأخرج إسماعيل المبلغ من الحقيبة وأخذ يعد له الخمسـين جنيها والصياد يحدق في محتويات الحقيبة ..
ونزل إسماعيل في الزورق وشد الصياد المجاديف .. واضطجع إسماعيـل في باطن الزورق من الخـلف ، وهو يحس بتعب شديد في عظامه ولحمه . كانت الأوجاع قد أخذت تتوزع على جسمه كله . ورأسه ينفجر من أشد أنواع الصداع .. فوضع رأسه على الخشب الصلب ليفلقه نصفين ويستريح.. ! وظل نائما على جنبه وظهره إلى الصياد الذي كان يجدف في حذر وسكون، وتكاد مجـاديفه لا تمس الماء ولا يسمع لها صوت..
ولامست يد إسماعيل بالمصادفة معدنا صلبا صغير الحجم وهو يدس يده بين فتحات الخشب في باطن الزورق .
وجعله حب الاستطلاع يمرسه بين أصابعه .. حتى تبين أنه سلسلة ناعمة خارجة من فتحة في صندوق، غيبه الصياد في باطن الزورق. وحدق إسماعيل في الظلام بين شقوق الخشب فلم يتبين نوع السلسلة. فحول وجهه إلى الصياد وسأله :
ـ أمعك ثقاب يا ريس ..؟
ـ لماذا ..؟
ـ أشعل سيجارة .
ـ السيجارة تضيعنا .. إننا في حرب ..
فأذعن إسماعيل للأمر .. وصرف ذهنه عن السلسلة والصندوق بعد أن أدرك أن الصندوق موجود غالبا في كثير من الزوارق التي تبقى في البحر..
وسأل وهو يتطلع إلي وجه الصياد الجامد وكان يراه طويلا مستقيم العود.. رغم أنه يزاول التجديف كثيرا ويحنى جذعه..
ـ عديت ناس كثير يا ريس .؟
ـ كثير.. من يومين وأنا أعدى خلق ..
ـ وتحت أي بلد نحن الآن الإسماعيلية أم السويس..
ـ إننا في الخليج قريبا من السويس .. ولو كنا تحتها كنا ضعنا من زمان..
ـ ألم تعدى سيدات .؟
وحدق إسماعيل في وجه الصياد وهو يلقى عليه هذا السؤال فرآه جامدا لم يتغير ..
ـ سيدات في هذه الأهوال.. أبدا ..
كان صوته هادئا وواضحا..
ـ بقى كثير على البر ..
ـ إنني أحاول أن أبعدك عن المخاطر .. ولذلك تحس بطول المسافة .. قربنا .. أمامنا القليل..
ـ سأنام وعندما نصل أيقظني ..
ـ حاضر ..
ومضى زمن ..
وأغلق إسماعيل عينيه بضعة دقائق واسترخى .. وأحس بتوقف المجاديف .. فتصور أن الزورق وصل إلى الشاطئ . وفتح عينيه فإذا بالزورق لا يزال في وسط الماء.. ولمح في يد الصياد شيئا غريبا .. مسدسا كبيرا من طراز إيطالي قديم . وكان يعده للحركة الأخيرة .. ضغط الزناد .. وقد انشغل به . فتأمله إسماعيل في صمت وتوجس من الرجل شرا .. مسدس كهذا في يده لماذا ؟ .. إنه لا ينفع في الحرب..
وأحس بالخوف وبالعرق على جبينه وبازدياد ضربات قلبه ..
ولكنه تمالك نفسه سريعا ووضع يده على مسدسه وأصبعه على الزناد .. وأخرجه من جيبه ، وفى اللحظة التي كان فيها الصـياد يمد يده ويصوب إلى رأس إسماعيل وهو نائم ، تحرك إسماعيل سريعا وأطلق النار .
وضاعت الطلقتان في دوى المدافع ووهج النيران ..

***

وأحس إسماعيل بالدم يلطخ ثيابه ، وأدرك أن الرصاصة أصابت كتفه وخرجت من جسمه واستقرت في قاع الزورق... وحدق في وجه الصياد وجس نبضه فتبين له أنه مات..
وظل يبحث في بطن الزورق حتى وجد قطعة حديد رفع بها قطعة الخشب التي تغطى الصندوق.. وكسر القفل وفتح الصندوق .. فوجده ممتلئا بالنقود والحلي ووجد سلسلة أمينة الذهبية ومصحفها، فارتجف قلبه وارتعد، وكان الزورق ساكنا في وسط الماء، فتناول إسماعيل المجدافين.. وأخـذ يجـدف طوال اللـيل متجها إلى بور توفيق..
أدرك وهو ينظر إلى الشواطئ البعيدة أن الصياد كان يغرر به ويتجه إلى الجنوب.
ولما بلغ شاطئ بور توفيق ترك المجدافين وحمل فى يده حقيبة أمينة وكل الجواهر والنقود التي وجدها في الصندوق ، وخرج من الزورق بعد أن دفعه برجله إلى عرض الماء ..

***

وعندما صعد إلى شارع القناة، كان الظلام لا يزال يخيم ، والمدينة ساكنة ، بعد أن توقف الضرب ووجد أمينة جالسة تحت الشجر وحدها تنتظره ، وكانت حزينة وجائعة ونعسانة ..
ولما رأته استردت روحها وجرت إليه وارتمت على صدره ..

اسبيرانزا 19/08/2008 02:56

قصة الخفير
 
كانت المحطة تقع بجانب بستان الشيخ عرفان أكبر البساتين فى المنطقة على الإطلاق .. وفى مواجهتها ترعة الإبراهيمية وفى الشرق والجنوب تمتد المزارع وأشجار الجميز والسنط وعلى امتداد البصر تبدو حقول القمح المحصودة .. والذرة المزروعة حديثا .. والأرض الجرداء الملاصقة للجبل الغربي ..
ويبدو من هنا وهناك شريط ضيق بين المزارع ينحدر حتى مجرى النيل ويلتف ويدور صاعدا حتى المحطة ..
وكانت المنطقة آمنة .. فقد تحول الناس بكل طاقاتهم إلى العمل والكفاح فى سبيل الرزق ونسوا حياة الفراغ والجهالة فيما سلف من الأيام ..
وكانت المحطة مع صغرها معروفة وكثيرة الحركة لأنها المتنفس الحديدي الوحيد لعدة قرى متقاربة في الصعيد ..
وكانت مشهورة أكثر من أي شيء بخفيرها سليمان وهو شيخ متوسط الطول حاد البصر ..
كان له في شبابه تاريخ حافل بالتصدي لرجال الليل وقطاع الطرق ، فلما طعن في السن وترك المزارع والوابورات إلى المحطات .. عاش من وقتها على صيته القديم فلم يطلق رصاصة واحدة طوال حياته فى السكة الحديد ..
وكان يؤدى عمله اليومي بأمانة عديمة النظير .. فيحب المحطة وناظرها وعمالها ودخان قاطراتها وكل ما فيها من جماد كأن كل هذه الأشياء قطعة من جسمه ..
***
وتحرك كعادته كل صباح على الرصيف يرقب عربات البضاعة والعمال يحملونها بالأكياس .. وهم يثرثرون ويغنون .. ولاحظ حركة السيمافور المفتوح على خط القاهرة .. لمرور الاكسبريس .. فجلس على كتلة من الخشب ينتظر مروره .. طاويا البندقية بين رجليه .. وأشعل سيجاره وأرسل عينيه السوداوين إلى ما وراء الترعة .. وكانت الشمس قد ارتفعت وضوؤها يبهر الأبصار .. وغمرت صفرتها المحطة وكل ما يحيط بها فبدت المزارع والمياه والبساتين وحتى الرمال التي تبدو من بعيد في الجبل ، مكتسية بلون الأرجوان ..
وأخذت الريح تهب لينة مداعبة أوراق الشجر .. وصفحة المياه وأعشاش الطيور .. وبدت السيارات الكبيرة المحملة بالبضائع والركاب تثير الغبار على الجسر ..
وفاض سيل الحياة المتدفق في دائرة قطرها ثلاثة أميال على الأقل فدارت وابورات الطحين والسواقي والطنابير .. وأخذ الفلاحون يعزقون الأرض ويفلحونها .. ويسوقون المواشي إلى مرابطها في أطراف الحقول ..
ولاحت أشرعة المراكب من بعيد في وهج الشمس وهى تتحرك ببطء في النيل فقد كانت الريح لينة والقلوع لاتشيل ..
وقبل أن يمر قطار الاكسبريس .. سمع الناظر رنين جرس التليفون .. فدخل المكتب .. وقبل أن يرد عليه قطع ورقة من النتيجة نسى أن يقطعها الفراش وهو ينظف المكتب .. فظهر يوم 5 يونيو .. بخط كبير وجلس يتلقى من محطة المنيا محادثات هامة عن تحرك القطارات وشغل فى مكتبه عما يدور فى الخارج .. وظل العمال ومن في المحطة في عملهم الصباحي المألوف ..
وأزت فجأة طائرات في الجو .. ثلاث طائرات صغيرة كالنسـور مرت فى سماء المحطة وهى منطلقة بأقصى سرعتها .. وتطلع إليها العمال .. وأوقف الفلاحون حركة المذارى في أجران القمح .. وحولوا وجوههم عنها فقد أخذ الهواء يعصف ويدوم ويطير التبن فى عيونهم من فعل الضغط ..
وحدق سليمان الخفير .. فيها طويلا حتى غـابت عن بصـره واحتوتها السماء .. وبدت بعدها السماء صافية وفى زرقة ماء البحر .
وتصور من في المحطة أنها طائرات مصرية في طريقها إلى أسوان .. ولكنهم عرفوا بعد قليل من الإذاعة .. أن إسرائيل هجمت في جبهة سيناء والطائرات مغيرة .. ووجم سليمان قليلا لما سمع الخبر ، ولكن ما عتم أن صفت نفسه ولانت ملامح وجهه .. فقد كان على يقين من النصر ..
واخذ يسترجع في ذاكرته كل ما سمعه ورآه .. من مواقف البطولة التي وقفها المصريون وهم يقاتلون الأعداء فى الزمن القريب والبعيد ..
ورجع إلى ميدان المعركة وكان عالم الرؤية يبسط أمامه المواقع في الجبهة .. تذكر هذا كله .. فرأى الجيش المصري بكل فرقه بمشـاته ومدرعا ته ودباباته وطائراته يتقدم صوب إسرائيل لسحقها .
وظلت الصورة في رأسه مبهجة تهز المشاعر .. حتى سمع همسا في العصر يدور .. على ألسنة الناس .. فارتعش بدنه .. ولكن شجاعته لم تبارحه ويقينه من النصر لم يتزعزع .. فلم يصدق الخبر وغضب غضبا شديدا وكاد يحطم كل متحدث به حتى ناظر المحطة نفسه ..
وفى الليل ظل جالسا وحده .. ينظر إلى الحقول .. ويسمع حركة القطارات وقد أطفأت أنوارها ..
وكانت أسلاك البرق تهتز فوقه ، والظلام يخيم على القرى والمزارع والمحطة غارقة في الظلام .. خيم جو الحرب بسرعة ..
وكانت صفحة النيل هي الوحيدة التي تلوح بيضاء فى هذا السواد .
وخرج ناظر المحطة من مكتبه .. منفعلا يغلبه التأثر وقد أحس بمثل السكين تغوص فى قلبه .. وقال بصوت يرتعش من الغضب .. اتهزمنا إإسرائيل .. يا شيخ سليمان ؟ !.. يا للعار .. نتراجع ياللعار .. فلنقاتل حتى الموت .. لنعيش كراما ..
وتجهم سليمان .. وأخذ يهدئ من روع الناظر .. ويعده بتحول الحال .. وظلت الأفكار تلاحقه .. أيذهب هو إلى الجبهة .. إن ولديه حسن .. وعبد الرحيم .. هناك .. أيذهب هو أيضا ؟ .. إن زوجته قادرة على رعاية الأسرة في غيابه ولكنهم لا يقبلون تطوعه .. فهو شيخ قارب على الستين .. يكفى ولداه .. وقد يقتلان ولكن قبل أن يقتل أي واحد منهما سيقتل عشرة من الصهيونيين على الأقل .. ويكفيه هذا فخرا .. وسيكون النصر .. والشجاعة توحى بالإيمان والأمل ..
ظلت الأنبــاء عن المعركة متضاربة .. حتى الساعة التاسعة ليلا ..
وفى الساعة العاشرة وقف قطار يحمل الجنود الذاهبين إلى المعركة .. فسرت انتفاضة في جسم سليمان .. وأخذ يرحب بهم .. ويشعل فيهم نار الحماسة ..
وبعـد أن تحرك القطـار .. أحـس بصوت عجـلاته يدوى في قلبه ..
***
وخيم السكون على المحطة .. وكان الظلام تاما في كل مكان .. وعاد صوت الطائرات في الجو .. وصوت المدافع المضادة يسمع من بعيد ..
وسمع سليمان أن طيارا هبط بالمظلة بعد أن أصيبت طائرته قريبا من قرية تل العمارنة .. واختفى في الحقول .. وأخذ البوليس يطارده .. وانتصف الليل ولم يعثروا له على أثر .. وازداد القلق والتوتر واشتعل رأس سليمان.. وأخذ يرسم في رأسه الدائرة التي يمكن أن يختفي فيها هذا الطيار .. بعد أن طارده البوليس بخيله ورجاله .. ووضحت الصورة في ذهنه ..
واعتقد أن القدر وضع في طريقه حدثا جللا بعد كل هذه السنـين الطويلات المدد ليمتحن قدرته على القتال ..
***
ظل يعيش متنبه الحواس حتى الهزيع الأخير من الليل .. وكان على يقين من أن الطيار سيظل في مخبئه لا يبارحه .. ثم يتسلل قبل نور الفجر ليذهب إلى الجبل .. أو إلى المدينة ويغيب في زحمة الناس .. بعد أن يخفى مظهره ..
***

وبارح سليمان المحطة في خفة الثعلب وتسلق شجرة ملتفة داخل بستان الشيخ عرفان .. وكمن فيها .. وعيناه تتحركان في كل اتجاه .
وفى حوالي الساعة الرابعة صباحا سمع حفيفا واهنا بين أوراق الشجر .. فتسمع ومد بصره .. فرأى شبحا يتحرك بحذر ناحية الشرق .. وتوقف الشبح ليأمن طريقه قبل التحرك .. كان الخوف يزيده يقظة في كل خطوة .. ورأى سليمان عينيه تتوهجان فى الظلمة كما تتوهج عينا الثعبان وهو خارج من جحره .. ومال برأسه إلى اليمين مادا عنقه كما يفعل الثعبان تماما ..
وأدرك سليمان دقة الموقف وخطورته .. لو تنبه الطيار المذعور إلى وجوده .. إن الذعر سيجعله يبادر بالحركة ..
لقد حانت الساعة ليهاجمه .. وإلا فلتت منه الفرصة إلى الأبد .. وانتظر سليمان لحظات حابسا أنفاسه .. ثم هبط إلى الأرض .. يزحف على بطنه .. من جانب وجاعلا ظهر الطيار إليه .. حتى أحس بأنفاسه وظل ملتصقا بالأرض يشتم ترابها ويده على زناد البندقية ..
وأطلق الطيار أولا .. أحس وهو مرعوب بأن شيئا خطرا وراءه فاستدار سريعا وأطلق .. ثم دوى الرصاص .. من الجانبين .. بعنف فمزق سكون الليل .. ونبحت الكلاب بشدة .. وجرى الناس على صوت النار .. ووجدوا على بصيص النور الذي لاح مع نور الفجر سليمان يستدير لمواجهتهم والدم ينـزف من كتفه ..
وتحت شجرة ضخمة .. يرقد الطيار الصهيوني ساكنا وقد مزق جسمه الرصاص ..

اسبيرانزا 19/08/2008 02:56

المعجزة
 
كانت هند طريحة الفراش منذ تسعة شهور ، استيقظت ذات صباح فوجدت نفسها لاتستطيع أن تنهض من سريرها ، لقد أصيبت بالشلل النصفى على إثر صراع نفسى جبار استمر سنوات وأحزان قاتلة هدت كيانها ..
كانت تعتقد أنها دميمة قبيحة الصورة لاتصلح للرجال ولايحبها إنسان .. وقد رسخ هذا الاعتقاد فى نفسها منذ الطفولة وكبر مع الأيام .. كانت أمها تقول لها وهى صغيرة تلك الكلمة القاتلة يا وحشة كانت تسمع منها هذه الكلمة فى اليوم عشرين مرة .. فرسخت الكلمة فى أعماقها واستقرت فى طوايا نفسها ، فنشأت مريضة حزينة منطوية .
ولما كبرت رأت أختيها الصغيرتين تتزوجان قبلها وبقيت هى فى المنزل لايتقدم لها أحد حتى تعدت سن الزواج . وكانت تتصور أن جميع من فى البيت يكرهونها لهذا السبب ، وزادت أحزانها وآلامها .. وانفجر شريان غضبها أخيرا فأصيبت بالشلل ..
وأحضر لها أبوها أبرع الأطباء فى المدينة ، ودخلت كل المصحات وطافت بالأضرحة ، ونذرت لها النذور ، ولكن دون جدوى ..
ولجأت أمها ـ بعد أن تطرق إلى قلبها اليأس ـ إلى الدجالين ، فكانوا يكتبون لها الأحجبة والطلاسم والألغاز .. وأخذت تطلق البخور فى حجرة ابنتها لتطرد الشياطين .. وتنتظر الفرج من ملائكة الرحمة ..
وكانت الفتاة بعد الحادث الذى نزل قد زهدت فى كل شىء .. فى الحياة .. وقد علمتها الشهور الطويلة التى قضتها فى الفراش التأمل .. والقراءة .. فكانت تطلب الكتب وتقرأ .. وتقرأ وتفكر .. وقد خرج بها الألم عن الدائرة الضيقة التى كانت تعيش فيها من قبل ، فأصبحت إنسانية النزعة تتألم لآلام الناس وتشاركهم عواطفهم ..
وكان أبوها يسير أصيل يوم فى أحد شوارع القاهرة ، فلمح لافتة صغيرة تشير إلى طبيب نفسانى .. ومع أنه لم يسمع به من قبل ولم يحدثه أحد عنه ولكنه صعد إليه .. واستقبله الطبيب مرحبا .. فقد كانت العيادة خالية تقريبا من المرضى ، وتحدث الأب عن فتاته المريضة ..
فقال الدكتور وهو يبتسم :
ـ قبل كل شىء سنشرب القهوة لأن جلستنا ستطول..
وشرب القهوة .. وقال الدكتور وهو يفتح دفتر مذكراته :
ـ أنا على استعداد لأن أذهب معك إلى البيت الآن وأرى المريضة ، ولكنى أود قبل هذا أن أعرف كل شىء عنها .. فأسرد علىّ سيرتها من الطفولة إلى الآن ، وحاول أن تتذكر كل شىء فإن ذلك من الأهمية بمكان ..
وتحدث الأب واستمع اليه الطبيب ساعة كاملة ، ثم ركب عربة إلى البيت ، ودخل الطبيب على المريضة واستقبلها بوجهه الضاحك ، وأخذ يوجه اليها بعض الأسئلة ويشيع الطمأنينة فى نفسها ..
واستراحت اليه الفتاة كثيرا على خلاف من سبقه من الأطباء ..
ثم استأذن وأخذ طريقه إلى الخارج .. وسأله الأب فى لهفة :
ـ أين الروشته يا دكتور ؟
ـ ليس بابنتك أى شىء ..
ألا تصف لها دواء ؟
ـ أنا لاأعالج بالسموم .. وسأعالجها على طريقتى .. وسترى نتيجة ذلك قريبا ..
ـ وستشفى ؟
ـ بإذن الله .. ما فى شك ..
ونظر إليه الرجل بين مصدق ومكذب .. ودفع يده فى جيبه ليخرج المحفظة ويدفع الأتعاب .. فقال له الطبيب وهو يربت على كتفه :
ـ دع هذا الآن .. وسأحضر غدا فى مثل هذه الساعة ..
وفى اليوم التالى جاء الطبيب ومكث مع الفتاة أكثر من ساعة يحادثها فى مختلف الشئون ، ولم يجر ذكر المرض على لسانه قط ، فعجب الأب لهذا الطبيب المعتوه ..
وفى صباح يوم جميل حمل البريد إلى الفتاة رسالة ففضتها وهى تعتقد أنها من احدى صاحباتها ، ولكنها عجبت بعد قراءة سطرين منها إذ وجدتها بخط رجل يبثها غرامه .. ويقول انه جارها ويسكن فى الشارع الذى تقيم فيه .. وأنه رآها أكثر من مرة فى شرفتها ولكنها كانت فى شغل عنه فلم تلتفت اليه مرة واحدة .. وأنه لم يرها منذ شهور فى الشرفة أو فى النافذة فهل هى مسافرة أو مريضة ؟ إنه يود أن يعرف لأنه قلق .. ولأنه معذب ولأنه متيم بها ..
وقرأت الرسالة مرة ومرات وتورد وجهها .. وكانت عندها خادمة تحبها وتثق فيها فطلبت منها أن تضع الرسالة فى خزانة ملابسها ففعلت ..
وبعد يومين جاءتها رسالة ثانية .. فقرأتها فى لهفة .. وكانت أشد عنفا إذ كتبها بدم قلبه .. ثم تدفقت عليها الرسائل بعد ذلك .. وكان الطبيب فى خلال تلك المدة يزورها ، ويلاحظ التغير الذى طرأ على نفسها وجسمها .. فيسر لذلك ..
وحملت إليها الخادمة رسالة معطرة من حبيبها المجهول ..
وقال لها فيها إنه عرف رقم تليفون منزلها بعد أن عرف اسم والدها من البواب .. وإنه سيطلبها الليلة فى التليفون الساعة العاشرة مساء ويرجو أن تكون وحدها ..
ومن غروب الشمس كانت آلة التليفون بجوار سريرها ، وفى الساعة العاشرة دق الجرس .. فرفعت السماعة وظلت ممسكة بها برهة وقلبها يخفق خفقان الطائر المذبوح .. ثم قربت السماعة من أذنها وجاءها صوته من وراء الأبعاد .. وأخذ يتحدث .. وكانت هى تستمع فى نشوة وقد عقد الخجل لسانها .. ثم تشجعت وأسمعته صوتها .. ورأته يسر لذلك ويتدفق فى الحديث كالسيل ..
ووضعت السماعة وأحست بشىء جديد يسرى فى كيانها ، وبالدم يتدفق فى عروقها .. ويسرى فى جسمها كله حتى فى نصفها المشلول ، وكان خداها فى حمرة الورد .. وكانت عيناها تلمعان ببريق غريب .. بريق الحياة التى أخذت تدب فى جسمها ..
وظلت تحلم أحلام اليقظة إلى ساعة متأخرة من الليل ..
وأخذ بعد ذلك يحادثها فى التليفون كل يوم .. وكانت تطلب من خادمتها أن تغلق عليها الباب وتظل تتحدث معه ساعة وأكثر .. وكان إذا تصادف وخرج أهلها للتنزه وبقيت وحدها مع خادمتها ودق جرس التليفون كانت تشعر بسعادة غامرة لأنها تستطيع أن تحادثه بحرية ولمدة أطول وأطول .. وكانت قد ألفت صوته واستراحت إليه وازداد تعلقها به .
وذات مرة قال لها :
ـ عاوز أشوفك ..
ـ صحيح ..؟
ـ والنبى ..
ـ فين..؟
ـ فى أى مكان تحبينه ..
ـ لكن أنا مبخرجش ..
ـ أبدا ..؟
ـ أبدا..
ـ طيب ..
ووضعت السماعة وبكت ..
وفى اليوم التالى حادثها وقال لها :
ـ أنا زعلان منك ..
ـ ليه ..؟
ـ مررت تحت البيت فلم أرك ..
ـ والله فيه عذر قوى .. وأنا معذورة ..
ـ بكرة سأمر .. ولازم أشوفك ..
ـ سأحاول ..
ووضعت السماعة .. ولكنها لم تبك بل أحست بشىء يعمل فى داخل نفسها .. وبقوة دافقة تسرى فى كيانها ..
وقبل الموعد بساعات طلبت خادمتها وأخذت تتزين ، والبستها الخادمة أحسن أثوابها .. وقربت منها المرآة .. فأخذت تنظر فى وجهها طويلا .. وتصفف شعرها ، ولاحظت التغيير الذى طرأ عليها ، ورضيت وابتسمت .. وصرفت الخادمة ولما اقترب الموعد خيل اليها أنها تسمع صوته يناديها فتحركت من فوق السرير ووجدت نفسها لأول مرة فى حياتها تحرك رجليها .. وأنزلتهما برفق وقد غمرتها فرحة عارمة ونزلت على الأرض وتماسكت واستمرت واقفة وحلت المعجزة ومشت فى أرض الغرفة نحو الشرفة ..
واستندت على الحاجز ، ورأته هناك فى الجهة المقابلة من الشارع ولوح لها بمنديله الأبيض كإشارة للتعارف كما اتفقا .. وظلت متماسكة تنظر اليه فى سرور ..
ورأت الخادمة سيدتها واقفة فصاحت :
ـ شوفو ستى .. شوفو .. ستى ..
ورأت الأم ابنتها واقفة فى الشرفة .. فجرت نحوها ، وارتمت هند على صدرها وأخذت تبكى .. بكاء الفرح ..
وبعد ذلك بساعة كان الطبيب جالسا فى مكتبه يسجل فى دفتر مذكراته ..
إنتهى العلاج وحدثت المعجزة

اسبيرانزا 19/08/2008 02:57

المجداف
 
ذهبت أهنىء صديقى الشيخ عبد الرحيم مهران بعودته من الحجاز .. وكانت قريته على الضفة الشرقية من النيل .. فركبت المعدية من ساحل الوليدية إلى هناك ..
وسارت بنا المركب ساعة كاملة فى ريح غير مواتية وموج كالجبال .. وبلغت القرية فى العصر .. وكانت النساء تزغرد .. والدفوف تدق والرجال يلعبون لعبة التحطيب ويرقصون الخيل فى السامر .. وكان الرصاص ينطلق من جميع أنواع البنادق .
ولم تكن هذه التحية الحارة موجهة إلى الشيخ عبد الرحيم .. وحده .. فقد عاد معه إلى القرية خمسة آخرون من الحجاج فى نفس الفوج .
ومع أننى جئت أهنىء وأبارك فى اليوم الرابع من وصول الحاج عبد الرحيم .. ولكن المضيفة كانت عامرة بالمهنئين والمتبركين .. وفى خلال الساعات القلائل التى قضيتها فى المندرة قص عليهم الحاج عبد الرحيم .. قصة الحج ثلاثين مرة .
قص عليهم ركوب الباخرة من السويس .. والطواف .. ورمى الجمرات .. والفداء ووصف لهم المدينة وقبر الرسول .. فتندت عيون الفلاحين بالدمع .. وخشعت نفوسهم وكنت تستطيع فى هذه الساعة أن تمزق جلودهم بحد السكين .. وأن تسلبهم كل ما فى جيوبهم وهم لايحسون بك ولايشعرون .
وكنت كلما هممت بالانصراف استبقانى الحاج .. حتى غابت الشمس .
وأخيرا نهضت فأخرج الشيخ من طيات ثيابه قطعة صغيرة من قماش الكعبة ومسبحة .. وتجمع الفلاحون يلمسون قطعة القماش ويقبلونها ويشدونها حتى كادت تستحيل مزقا فى أيديهم لولا أن ابن الشيخ .. خلصها منهم ووضعها فى جيبى ثم مشى معى إلى جسر القرية .. وانحدرنا منه إلى المعدية .. ولما بلغنا النهر .. وجدنا المعدية على العدوة الأخرى .. ورأيت قاربا صغيرا يجدف قرب الساحل ..
وسألت الملاح :
ـ إلى أين .. ياعم ..؟
ـ رايح .. الخزان
ـ تأخذنى معك .. وأعطيك عشرة قروش ..
ـ من غير فلوس .. يا ابنى ..
ومال بالقارب إلى الاعشاب الخضراء التى تنمو على جانب النهر .. وسلمت على مرافقى .. وقفزت إلى القارب .
ولما جلست مثله فى المؤخرة لمحت امرأة هناك فى المقدمة .. وكانت ملفوفة فى ملاءة سوداء .. حتى رأسها .. وكانت ساكنة لاتتحرك ..
وكان العشى يزحف علينا بقوة .. وهناك شىء كدخان المداخن يخيم على القرية ..
ولم يبد منها ونحن نبتعد عن الشاطىء غير نخيلها وقد تعرش سعفه .. وتشابك جريدة .. وكانت هناك نار تشتعل .. فى بعض البيوت المكشوفة .. فى طرف القرية ودخان يتلوى فوق البيوت ثم يذهب إلى السماء اللازوردية ..
ولم نعد نسمع نباح الكلاب ولاصياح الفلاحين على الجسر ولازعيقهم فى الحقول ..
ولفنا الليل فى مثل البرقع الأسود ..
وكان الصياد شيخا وقد نبتت على ذقنه شعرات بيضاء ولكن عضلاته كانت لاتزال قوية .. وكانت ذراعاه طويلتين ومليئتين بالحياة .
وكان ينحنى إلى الأمام ثم يعود ينحنى إلى الخلف .. وأنا أحس فى كل مرة كأن ضلوعه تتقصف .
وكان التيار شديدا .. والمياه تلطم جانبى القارب .. فمال الرجل إلى الساحل ليتفادى الدوامات والتيار الشديد ..
وكانت المرأة لما دخلنا فى الظلمة .. قد أسفرت .. وبدا وجهها كالقمر .. وكانت الطرحة تغطى شعرها .. ولكن حسرتها عن جيدها .. وظهرت البشرة التى لوحتها الشمس .
وكانت صامتة .. وتنظر إلى ناحيتى من طرف عينيها .. من حين إلى حين كأنها تستغرب ركوب الأفندى فى مثل هذا الزورق ..
وكان الصياد العجوز يجلس بينى وبينها ..
وبدت أسنانه الصفراء من أثر التمباك .. وهو يترك المجاديف ليلف لنفسه سيجارة ..
وبعد أن أشعلها .. استراح ..
وفى الوقت الذى أخذ فيه الصياد يعود إلى المجاديف .. مزق السكون دوى الرصاص بشدة .. ورفع الصياد رأسه يتسمع وأصغى بأذنيه إلى مصدر النار .. ثم أخذ يسحب المجاديف .
وقدرت أن حاجا جديدا .. هبط على القرية .. وهذه زفته .
وكانت الظلمة شديدة فلم نتبين شيئا على الشاطىء وعاد السكون .. ولم نعد نحس إلا بصوت المجاديف .. ثم ظهر خص من البوص على الشاطىء .. وشىء أشبه بالمقاتة .. وفى وسط الحقل شبح المقاتة .. فى أكثر من موضع .. وانسلخنا من هذا كله والزورق يمضى كالسهم ..
وقلت للرجل وأنا أحس بالعرق الذى يتصبب منه :
ـ أساعك .. ياعم ..؟
ـ كتر خيرك .. يا ابنى
وكأنما كنت الهب حماسته فاقترب جدا من الساحل وانطلق يشق التيار ..
وظهر شبح على الشاطىء .. وقال بصوت خافت ..
ـ خذنى معك .. يا عم ..
ـ إلى أين ذاهب ..؟
ـ ارمينى تحت الريح ..
وكان ملثما وحسر لثامه .. ولكنا لم نتبين ملامح وجهه لشدة الظلام .. وبدا شىء يلمع فى يده .. ولاحت البندقية .. لما هبط المنحدر المبلول واقترب منا ..
وفى تلك اللحظة بدا لى أن الصياد العجوز .. قد فكر فى أن يفلت منه ..
فقد حول وجه الزورق .. وأبعده أكثر من عشرة أمتار .
فقال له الرجل :
ـ ارجع ..يا عجوز .. أحسن لك ..
واطلق الرجل رصاصة .. فى الماء .. سقطت تخشخش .. كالحجر ..
ولم يجد الصياد بدا من الرضوخ .. فرسى على الشاطىء فى لفة واحدة ..
ونزل الرجل معنا دون أن يلقى علينا التحية .. وفى تلك اللحظة فكرت فى قيمة المسدس .. كضرورة حتمية فى مثل هذا الموقف .. ورمانى بنظرة فاحصة ثم جلس على مبعدة من المرأة ..
ولقد كنا نحس بالسعادة والهدوء فلما جاء هذا المسلح .. شوه وجه الحياة الجميل فى وجوهنا .. وأشاع فينا الخوف والرهبة ..
ونظرت إلى سحنته وكلها صرامة .. وعدت أقارنه .. بالوجوه الحسنة السمحة التى كانت منذ ساعات فى مضيفة الشيخ عبد الرحيم .. خاشعة صامتة متفتحة للحياة ..
أما هذا الوجه الصارم الكئيب فإنه يحمل وجه شيطان ..
ونظر إلى المرأة التى بجواره ثم رفع رأسه .. ونظر إلىّ نظرة قوية فيها كل معانى التحدى والاستخفاف ..
وكان يمكن لهذا المخلوق أن يكون شيئا آخر .. وأن يكون انسانا .. فقد كانت سنه لاتزيد على الخامسة والعشرين .. ولكن كل حركاته كانت تدل على النزق .. وتركته فى الظلمة .. وعدت أسمع صوت المجاديف ..
***
ثم نظرت إليه مرة أخرى .. وكان وجهه أسمر .. وعيناه متقدتين .. والغرور يطل من جلسته .. والحقد أيضا .. وصلف الشباب وكبرياء الجهل .. وقارنته بالناس الطيبين الذين رأيتهم منذ ساعات فى مضيفة الشيخ عبد الرحيم .
وساءلت نفسى كيف يخرج منهم مثل هذا الشاب ؟
انه شوك فى الزرع الطيب .. وهو الذى يسود وجه الريف .. ويحجب عنه ضوء القمر .. ويجعل أهله وأعيانه يهربون إلى المدينة ..
وهو الذى جعل الريف المصرى متخلفا مظلما ورهيبا .. واحسست بحاجتى فى هذه اللحظة لأن يكون معى سلاح .. وما حملته قط .. لأستطيع أن أقف فى وجه الشر وأواجه هذا العدوان ..
وماذا نفعل أنا والصياد العجوز والفلاحة الحسناء .. أمام شاب مسلح بمدفع رشاش .. كان قد وضع المدفع جانبا .. القاه من يده .. كأنه يستخف بنا .. ويستضعفنا أمام جبروته ..
وفكرت فيه .. إذا سولت له نفسه أن يرتكب حماقة .. إذا اشتهى الفتاة وتبعها .. بعد أن يخرجا من القارب .. وهناك بين النخيل .. يهددها بسلاحه .. وهل تستطيع أن تقاوم .. وفكرت فيه .. إذا تصور أن معى من المال ما يغريه على سرقتى وقتلى .. وفكرت فيه إذا تصور مثل هذا فى الصياد العجوز ..
ومثل هذا الشاب يقتل إنسانا بكل بساطة ليشترى علبة سجائر .. أو يذهب إلى غرزة ..
وكان الشيخ العجوز يجدف فى صمت .. وقد توسط النهر .. وكان هناك خط أبيض وراء المجاديف .. يدور .. ثم تطويه صفحة الماء .. وكانت عيون الصياد ترقب الشاطىء الآخر باهتمام شديد ..
وكان يقترب من هناك .. وبدا النخيل الكثيف .. عند قرية الوليدية .. وسمعنا هدير الخزان .. ولاحت المصابيح .. الكابية من بعيد .. ولاحت بادرة الحياة ..
ولكن بدا لى أن الصياد يتراجع بنا ولايتقدم ..
وقالت الفتاة :
ـ طلعنى تحت وابور الشيخ خليفة يا عم ..
ـ حاضر .. يا بنتى .. بس لما نطول البر ..
وكان الرجل يبذل جهدا جبارا .. وسط جبال من الماء .. وبدا العرق على وجهه .. ولاحظت مجدافيه .. جيدا .. لم يكونا فى طول واحد .. وكان أحدهما مربوطا من وسطه بحبل متين من الليف ..
وكان الصياد يرقب الشاطىء الآخر بعين صقر .. ويجدف بقوة وبحركة رتيبة .. ولم نسمع إلا صوت المجاديف .. واشعلت سيجارة .. وأشعل مثلها الشاب المسلح وأصبحنا نارين .. متقابلين ..
وكانت عيناه على وجه الفتاة السافرة .. وهو ينفث دخانه ..
ورحت مثله فى جذبة الدخان وهى ترخى الأعصاب فى الليل الحالم .. وأرخيت أهداب عينى .. ثم تنبهت على فرقعة .. ولما نظرت وجدت المجداف قد انكسر فى يد الصياد ..
وبدا وجهه متجهما لحظات .. ورماه الشاب المسلح بنظرة صاعقة ..
وظل الصياد فى مكانه .. مالكا زمام أعصابه .. ووجهه ساكن ..
وقلنا له فى نفس واحد :
ـ ما الذى ستعمله ياعم ؟..
ـ لاتخافوا .. سنصل البر بإذن الله ..
وعاد الرجل يعمل بمجداف واحد .. وكان يسير بالزورق فى بطء ولكنه على أى حال اقترب من الشاطىء ..
ولاحت فوقنا كثف من أشجار النخيل الصغيرة المعرشة فاتجهنا إليها بأنظارنا مرة واحدة ..
وكانت يد الشاب المسلح على بندقيته وبدا من نظرته أنه يتحفز لشىء .. وانه ينفذ من خلال الظلام .. إلى شىء غير مرئى لنا ..
وفى تلك اللحظة ظهر لى رجل الليل الرهيب على حقيقته .. تجمع .. ثم ركز حواسه كلها فى باصرته .. ورمانا بنظرة رهيبة ..
واقتربنا من خليج صغير دار فيه القارب .. وقبل أن نخرج منه .. وثب الشاب المسلح .. إلى الشاطىء .. دون أن يلقى علينا التحية ..
وتبعناه ببصرنا .. لحظات وهو يمضى وحده كالذئب .. ثم لاح لنا شىء ينحدر عن التل .. تكشف لنا .. وكانت ثلاثة خيول مسرجة ..
ورأينا دخان المعركة .. بين جنود الخيالة .. وبين الشاب المسلح ..
وقبل أن يطوق الشاب .. أطلق رصاصة على القارب .. فأصابت الشيخ العجوز فى كتفه ..
واقتربت منه أنا والفتاة لنغسل له الجرح .. وأدركت عمله العظيم .. أدركت أنه كسر المجداف عامدا .. حتى يعوق الشاب فى وسط النيل إلى أن تطير اشارة المركز ويأتى العساكر ..
وسألته :
ـ لمن فعلت هذا ياعم ؟
فنظر إلى الفتاة ولم ينطق وأحسست مثله فى هذه اللحظة بأنى أفديها بروحى لتظل هذه الزهرة أكثر نضارة ..


اسبيرانزا 19/08/2008 02:59

رجل على الطريق
 
اشتغلت وأنا فى العشرين من عمرى فى شركة من شركات الملاحة بالسويس براتب تافه ، كنت أسكن بنصفه ، وأشرب بالنصف الآخر جعة ، ولا أحفل بعد ذلك بشىء فى الوجود ، وكنت أقيم مع أسرة إيطالية تسكن فى منزل صغير على شط القناة فى بور توفيق ، وتعيش عيش الكفاف .
وقد كانت الحياة شاقة على شاب فى مثل سنى ونشاطى فى هذه المدينة الصغيرة التى ليس فيها شىء سوى القناة ، ومنازل الشركة المتناثرة على الشاطىء ، وسكانها جميعا من الأجانب الذين وضعتهم الأقدار العجيبة فى هذا المكان ، ولاصلة تربطهم بالمواطنين ولا مودة ولا إخاء .
على أن ولعى بالمطالعة ، وحبى للهدوء ، خففا مما كنت ألاقيه من وحدة ووحشة فى هذه الضاحية . وكنت أذهب كل مساء إلى السويس لأشرب الجعة فى مشرب صغير ، وأتمشى فى طريق الزيتية .. ثم أعود إلى بور توفيق لأنام .
وكنت أجد على رأس الطريق الموصل لبيتى رجلا غريب الأطوار ، يجلس على الحشائش قرب القناة وبجواره كلب ضخم وزجاجة فارغة ...! وكان الرجل يجلس ينظر دائما إلى ناحية القناة ، ويخط باهتمام فى دفتر أمامه .. ويجلس هكذا معظم النهار ، فإذا غربت الشمس حمل متاعه ومضى ووراءه كلبه واختفى فى الظلام .
وكان موضع السخرية من العابرين فى الطريق .. وكان أكثر الناس سخرية به العمال الذاهبون إلى ورش الميناء .. وما كان الرجل يعبأ بسخريتهم أو يحفل بكلامهم .. كان يمضى فى عمله ولا يجيب .
ولعلى كنت الوحيد الذى يمر به فى الصباح والمساء ولا يسمعه كلمة نابية ، ولذلك كان ينظر إلىّ فى استغراب ودهشة . وكنت أخرج لأتمشى كل أصيل ومعى كتاب .. وأتخذ طريق القناة عادة .. وأجلس هناك على كرسى حجرى أطالع ، والرجل على مقربة منى يكتب فى كراسته ، ودنوت منه ذات مرة ، وجلست إلى جواره فوق العشب ، وحييته فحيانى بهزة من رأسه وهو يبتسم ، ومر مركب فى القناة فانحنى على كراسته وكتب شيئا فى تمهل وعناية .
فسألته :
ـ ماذا تكتب ..؟
فنظر إلىّ بوجه ضاحك وقال :
ـ إننى أتلهى ..
ثم أضاف وقد لمعت عيناه بعض الشىء :
ـ لقد كنت ملاحظ فنار فى البحر الأحمر ، وكان هذا هو عملى فى النهار والليل .. أرقب السفن وأدون أسماءها ، وأنا أفعل هذا الآن بحكم العادة ، وأجد فى ذلك لذة تنسينى متاعب الحياة ..
ـ لاشك أن العمل فى المنارة وسط البحر ممتع للغاية ..
ـ جرب وسترى ..
ثم شاعت فى وجهه ذى التجاعيد ابتسامة عريضة وسألنى :
ـ هل أنت متزوج ..؟
ـ لا ..
ـ إذن فيمكنك أن تركب البحر إلى هناك .. ولا بأس عليك .. كتاب وفونوغراف ، وكل شىء سيمضى على سننه .. أما إذا كنت متزوجا فستعود من هناك نصف مجنون ..!
ـ وهل اعتزلت هذا العمل من مدة ..؟
ـ مدة طويلة جدا يا بنى .. منذ سنين وسنين ..
وتغير صوته وأطرق .. فأدركت أنه تذكر شيئا يؤلمه .. فتحولت بوجهى عنه ، وأخذت أقلب صفحات الكتاب الذى معى حتى أقبل المساء ، فحييته وانصرفت .
***
والتقيت به بعد ذلك كثيرا فى هذا المكان حتى توثقت بيننا مودة صادقة . وكان الرجل مخمورا أبدا ، وما رأيته غير ثمل فى نهار أو ليل ، وكانت زجاجة الخمر معه لاتبارحه قط ، وكان ادراكه الصحيح للحياة قد جعله لايعبأ بشىء مما تواضع عليه الناس ، فهو يسكر وينام فى الطريق .
وما رأيته متبرما بشىء ، أو شاكيا من شىء .
ورآنى مرة فى حانة صغيرة فى مدينة السويس .. أتحدث مع زوجة صاحب الحان .. فلما انصرفت المرأة لعملها جاء وجلس إلى مائدتى ..
وسألنى :
ـ لماذا تسكر فى هذه السن ..؟
ـ لأننى أشعر فى أعماق نفسى بالتعاسة
ـ إن هذا أحسن جواب لسكير ..!
ـ ولماذا النساء ..؟
فصمت ولم أقل شيئا ..
واستطرد هو :
ـ انك تسكر لأنك وحيد .. ولا رفيق ولا أنيس لك فى هذه المدينة الكئيبة ، ومع كل مساوىء الخمر فإنها قربتك منى ولم تجعلك تسخر من ضعفى ، وأنا أشرب على قارعة الطريق فى بور توفيق ، إنك تدرك الضعف الإنسانى لأنك إنسان ..!
ـ إن هذا لايغير من نظرة المجتمع إلى السكير ..
ـ هذا صحيح .. ولكنى أسكر رغم أنفى وكذلك أنت . وهناك شىء فوق إرادة الإنسان يربطنا بهذه الدنان .. وإن تشرب فى ساعة مظلمة من حياتك ثم تصحو .. إن هذا لاشىء .. ولكن النساء .. هذا شىء آخر .. إنك لا تستفيق من خمرهن إلا وأنت ساقط فى الهاوية ..
وجاء له الساقى بكأس فشربها وعض على نواجذه .. ثم أشعل لفافة من التبغ ، وأخذ يسرح الطرف فى سماء الحان ..
فسألته وأنا أنظر إلى وجهه وقد غضنته السنون :
ـ لماذا تركت البحر ..؟
ـ إنها الأقدار ..
ثم صمت .. وأمسك بالكأس البللورية الفارغة .. ورفعها إلى عينيه كأنه يقرأ فيها من لوح الغيب .
ثم سألنى :
ـ أركبت البحر ..؟
ـ ذهبت منذ سنتين إلى استامبول ..
ـ أشاهدت منارات فى الطريق ..؟
ـ أجل ..
ـ سأحدثك عن قصة منارة من هذه المنارات ..
ووضع الكأس البللورية على المائدة .. وأشعل لفافة أخرى وأقبل علىّ يتحدث :
ـ كنت أعمل فى منارة بالبحر الأحمر منذ سنين .. وكان معى زميل لى يساعدنى على العمل . أمضيت شهرين فى المنارة وسط البحر .. ولا شىء تراه هناك غير البحر .. وكنا نطالع ونصطاد السمك ، ونسمع الفونوغراف .. وننير المنارة فى الليل للسفن ، ونغنى ونفعل كل شىء لنتلهى . ولكنك فى ساعة من الساعات تحس كأن شيئا يثور ويضطرب فى أعماق نفسك ، فتكاد تمزق الكتاب وتحطم الفونوغراف .. وتشعر بسأم .. وتضيق ذرعا بكل شىء .. وتحس بالاختناق .. وتنظر ولا ترى حولك غير البحر ، وبينك وبين الأرض سفر أيام ، فى هذه الساعات كنت أجلس على سلم المنارة وأدلى بساقى فى الماء .. وأحلم بعرائس البحر التى قرأت عنها فى الأساطير .. وأتصور أن واحدة منهن ستطلع وتجىء إلىّ .. وتمر سفينة من بعيد ، وأنوارها ترقص على الموج ، وأتصور أننى أسمع ضحكات نساء .. ورقص نساء .. وأرى بعين الخيال واحدة منهن تتجرد من ثيابها وتتهيأ للنوم ، فيأخذنى السعار .. وأظل أفكر وأحلم فى المرأة .. ولا شىء غير المرأة .. إنها تأخذ عليك مسالك تفكيرك ، وتشغل حواسك ، فإذا رأيت شيئا أبيض يلوح فى سفينة من بعيد تصورته ساق امرأة .. وإذا أبصرت شيئا ينثنى على سطح مركب تصورته امرأة .. إنك تراها فى كل شىء ولا تراها ..
وكنت أنا وزميلى أحسن صديقين .. كنا نعمل فى صفاء ووئام .. وكان الطعام لابأس به ، ووسائل التسلية متوفرة .. أما إذا جن الليل وثارت الغريزة فقد انقلب كل شىء إلى جحيم .
وكان صاحبى متزوجا وكنت أعزب ، وكان يحب زوجته ويحدثنى كثيرا عنها ..
ومضت شهور ، واقترب موعد عودتى إلى السويس لأستريح فى الأجازة المقررة لأمثالنا .
وجاءت الباخرة التى ستقلنى إلى السويس ، وأعطانى صاحبى رسالة إلى زوجته .
***

اسبيرانزا 19/08/2008 03:00

وأمضيت أياما فى السويس ، والرسالة موضوعة فى جيبى حتى كدت أنساها .. وفى أصيل يوم ذكرتها ، فاتجهت إلى بيت صاحبى وكان فى أقصى المدينة .. وتقدمت فى الشارع الضيق ، وشمس الأصيل تضرب رؤوس المنازل البيضاء بأنوارها الساطعة ، وكل شىء يسبح فى الضوء الباهر .. ووقفت أمام البيت ، واجتزت العتبة ، ورأيت فتاة فى مقتبل العمر تمسح الدرج وقد شمرت عن ساقيها .. ولما رأتنى توقفت عن العمل ، ونظرت إلىّ فى سكون فاقتربت منها وسألتها وأنا مفتون بجمالها : ـ أهذا منزل عبد السلام أفندى ..؟
ـ أجل ..
ـ أريد أن أقابل زوجته ..
ـ أنا زوجته ..
فابتسمت وظهر على وجهى الارتباك ، فما كنت أتوقع أن تكون زوجة صاحبى صغيرة وجميلة هكذا ..
رأيت أمامى فتاة فوق العشرين بقليل ، خمرية اللون سوداء العينين .. جذابة الملامح إلى حد الفتنة .
وعرفتها بنفسى وسلمتها الرسالة .. فأخذتها فى لهفة ثم ردتها إلىّ وهى تضحك وقالت بصوت ناعم :
ـ أرجو أن تقرأها لى فأنا لا أعرف القراءة
ـ وقرأتها لها فأشرق وجهها وزاد سرورها ..
ثم طوت الرسالة وقالت وهى تشير إلى الداخل :
ـ تفضل ..
ودخلت وجاءتنى بعد قليل بكوب من الليمون
وأخذت أحدثها عن البحر ، وعرائس البحر .. حتى أقبل الليل فحييتها وانصرفت وأنا جذلان طروب .
***
وبعد أيام التقيت بها عرضا فى السوق ، وكانت معها سيدة وفتاة أصغر منها قليلا .
وسلمت علىّ فى بشاشة وقالت :
ـ لماذا لم تزرنا ..؟
ـ سأزوركم طبعا ، قبل عودتى إلى المنارة ..
ـ وقبل ذلك ..؟
ـ وقبل ذلك .. !
ـ سلم على أمى وأختى .. إنهما قادمتان من بور سعيد لزيارتى .. وقد حدثتهما عنك ..!
وسلمت على أمها وأختها ، ومشيت معهن إلى البيت ، وبقيت معهن حتى ساعة الغداء ..
***
وذهبت إلى الإسماعيلية ، وأمضيت فيها أياما .. ورجعت إلى السويس ، وفى أصيل يوم مررت بمنزل زينب زوجة صاحبى لأخبرها بموعد عودتى إلى المنارة حتى أعطيها فرصة لتعد بعض المأكولات لزوجها ، ووجدتها فى البيت وحدها ، كانت أمها وأختها قد سافرتا .. وشعرت وأنا جالس فى الحجرة بالسرور والارتياح .. وهذه مشاعر لم أستطع تعليلها ..
وكانت زينب تلبس رداء أزرق بسيط التفصيل .. وقد صففت شعرها وعقدته جدائل فوق ظهرها ، وكانت تعصب رأسها بمنديل أزرق كذلك ، وفى عينيها كحل خفيف ، وعلى خدها الأيمن حسنة . ولما جاءت إلىّ بفنجان من القهوة ، ومددت يدى لأتناوله من يدها ، شممت من جسمها روائح الطيب ، فتنبهت حواسى ، ونظرت إليها وكأننى أراها أمامى لأول مرة ..
ولأول مرة أشعر بقلبى يدق وأنا معها فى غرفة واحدة والعرق قد أخذ يتصبب على جبينى ..!
ومالت الشمس إلى الغروب ، ونهضت لأنصرف فقالت وهى تنظر إلىّ :
ـ لماذا أنت مستعجل ..؟
ـ الليل قد أقبل ..
ـ إن هذا أدعى لبقائك لأننى وحدى فى البيت ، فانتظر حتى تأتى خالتى أم اسماعيل ..
وبقيت .. وظللنا نتحدث .. حتى مضت فترة من الليل .
ووجدت أمامى أنا الشاب القوى الذى يعانى مرارة الحرمان امرأة ناضجة محرومة مثلى ..
كان فى نظراتها تكسر ولين
وكان جسمها يروح ويجىء أمامى وهى فى أحسن مجاليها ، فأخذت أنظر إليها ، وأنا مستغرق فيها بحواسى ومشاعرى جميعا ، ونسيت أنها امرأة صاحبى ، نسيت هذا وذكرت أننى وحيد فى قلب الليل مع امرأة أشتهيها من كل قلبى .
ودون أن ندرى ما حدث كانت بين ذراعى وكنت أرتوى منها .
وغرقنا فى النشوة فلم نحفل بأحد .
وأصبحت أقابلها كل يوم ..
***
ولما حان موعد عودتى إلى المنارة حملتنى هدية لزوجها ، وودعتها وفى قلبى جمرات من نار .
وذهبت إلى المنارة وأعطيت الهدية لصاحبى وسألنى عنها ، وكان يتلهف على كل كلمة يسمعها منى .. كان يحبها إلى درجة العبادة .. سألنى عن صحتها وأحوالها ، وأخذت أجيبه على مئات الأسئلة التى أمطرنى بها ، وكان من فرط ولهه يود لو يقبل يدى لأنها لمست يدها ..!
وحل موعد عودته فتركنى ورحل ..
وكنت فى خلال ذلك أعانى عذاب السعير ، وأتصورها بين ذراعيه فأكاد أجن ..
وانتهت أجازته وعاد .. ورأيته يصعد سلم المنارة بعد غيبة ثلاثة شهور .. وكدت أنكره .. فقد تغير .. إذ ظهر على وجهه الشحوب والذبول وحيانى فى فتور .. ووضع متاعه فى جانب من المنارة .. وصعد إلى البرج .. وهو صامت ..
وجلست بعد هذا أفكر وأسائل نفسى .. ما علة تغيره ؟ هل عرف ..؟ هل علم بكل شىء ..؟ ما أشد جنون المحبين ! إنهم يتصورون أن الناس لاتعرف عنهم شيئا .. وسيرتهم تدور على السنة الناس . إن الحب يعميهم عن ادراك الحقائق .
وكان عليه أن يسهر فى البرج ، وعلىّ أن أنام لأحل محله بعد ذلك .. واستلقيت على الفراش ولكنى لم أنم .. كانت نظراته إلىّ ترعبنى .. وكنت أخافه .. كان أشد منى قوة .. فأغمضت عينى نصف إغماضة وسمعته يهبط السلم .. ويدور فى الغرفة الصغيرة حتى وقف على فراشى ، وتظاهر بأنه يبحث عن شىء وعاد إلى البرج ..
وبعد ساعة سمعته يهبط السلم مرة أخرى .. ورأيته يتجه نحوى .. وكانت فى يده قطعة من الحديد .. إنه يود قتلى .. ودون أن نتبادل كلمة واحدة تشابكنا فى عراك دموى ، وظللنا نقتتل حتى لم تبق فينا قدرة على الحركة ، ورحت فى غيبوبة طويلة .. ولما فتحت عينى ونظرت إليه كان الدم يلطخ وجهه ، وكان صدغه قد تهشم من ضربة قاتلة .. فأدركت هول ما حدث وأغمضت عينى ..
***
نمت على الأرض وهو بجوارى فاقد الحراك .. ونظرت إلى السماء فوقى ، وإلى البحر الصاخب من حولى ، وإلى الظلام الذى تضل فيه الأبصار ، واستعرضت فى ذهنى صور حياتى إلى أن التقيت بصاحبى هذا .. وجمعتنى الأقدار معه فى عمل واحد .. وامرأة واحدة ..!
وبكيت وماتت فى نفسى كل عواطف البغضاء .. وودت لو أفتديه بحياتى .. وأخذنى بعد قليل ما يشبه الدوار .. ثم فتحت عينى ، وتصورت أن الجثة تتحرك وأنها اقتربت منى .. وكنت مشلولا ولا أستطيع الحركة .. فتملكنى غيظ مستعر ، وجعلت أصر بأسنانى ، وأهذى كالمجنون ، وأصرخ بأعلى صوتى .. ولكن موج البحر كان أعلى من صوتى .
كان يزمجر وكنت أصرخ فيختلط الصوتان معا ويذهبان أباديد ..
وظللت ساعة كاملة وأنا فاتح عينى ومعلق بصرى بالجثة .. وقد عجزت عن كل حركة .. وخيل إلىّ أنها انتفخت .. وأن وجهه يزحف عليه النمل .. والهوام ! وازددت كراهية لها ونفورا .. وخطر لى خاطر لماذا لا أدفعها إلى البحر .. وأتخلص من هذا العذاب ..
وزحفت بجسمى كما يزحف الثعبان .. وحاولت أن أدفع صاحبى فلم أستطع .. فتمددت فى مكانى وبصرى إلى النجوم .. إن الليل مرتع للهواجس .. فإذا طلعت شمس النهار ذهبت هذه الخواطر المرعبة أباديد .. ولكن متى يطلع الصبح ..؟
لقد كنت أرتعش وأصر بأسنانى ، وأشعر بجفاف حلقى .. ولما صحت بأعلى صوتى كان صوتى قد انقطع .. فأغمضت عينى وأخذت أبكى كالأطفال .. وكنت كلما أغمضت عينى ازداد سمعى حدة .. وخيل إلىّ أننى أسمع صياح مردة فى برج المنارة وعواء ذئاب .. ووضعت أصابعى فى أذنى .. ولكن هيهات كان الصوت قويا ، وكان يجلجل فى البرج .
وارتعشت .. وتصبب العرق وأخذنى الدوار .
***
ولما فتحت عينى ، كان النور قد غمر الكون .. وظللت طول النهار فى مكانى ، وأنا أتلوى من الألم والعذاب . . وكلما أدرت وجهى عن رفيقى .. عدت برغمى أنظر اليه وأرتعش .. حتى طار صوابى .
ومرت مركب فى المساء .. ولاحظت انطفاء المنارة .. فاقتربت وحملتنا .. هو ميت وأنا أشبه بالموتى .
وسجنت .. وخرجت من السجن .. وذهبت إلى كل مكان لأتلهى وأنسى .. ولكن صورة البحر بأمواجه وأشباحه والمنارة المنطفئة .. والزميل الراقد بجوارى لاتبارح مخيلتى أبدا ..
إننى معلق هناك بخيط لايرى .

اسبيرانزا 19/08/2008 03:00

رجل فى القطار
 
كانت الليلة شديدة البرودة .. والريح تنذر بالعواصف .. وكان كازينو فينوس قد أغلق نوافذه وأبوابه وترك فقط الباب الصغير الموصل للطريق مفتوحا .. وكان هذا بابا عتيقا فأخذت الريح تهزه .. وانطلق كلما دفعته الريح يدور على مفصلاته ويحدث صريرا مزعجا ..
وجلس من وراء الباب بعض رواد الكازينو الدائمين متناثرين حول الموائد ولائذين بالأركان فبينهم من كان يشرب ويتعشى ويثرثر .. وبينهم من كان يحتسى الخمر فى صمت كئيب ..
وكان الضوء شاحبا وقليلا فى الخارج والداخل .. وأنفاس الدخان الحارة تذوب فى الهواء البارد .
وكان الجو كله يوحى بالكآبة والوحشة ورهبة الصمت وفى حوالى الساعة التاسعة من المساء .. دخلت من الباب الصغير امرأة شابة .. ترتدى معطفا سنجابيا .. ويبدو على وجهها الهزال والتعب ..
وكانت جميلة حلوة التقاطيع متناسقة القوام ولكنها غطت هذا القوام البديع .. وبدت محتشمة فى ملابسها .. ولاتبرز شيئا من مفاتن جسدها .. وكانت وهى تتحرك بين الموائد مضطربة وفى أشد حالات الخجل .. وكأنها تبحث بعينيها عن شخص ينقذها من دخولها وحدها إلى مثل هذا المكان ..
ثم جلست وحيدة .. منكمشة فى ركن قصى .. وما لبثت أن عـاودها الشرود فذهلـت عن نفسها .. ثم استـفاقـت على صـوت الجرسون يسألها عما تطلب ..
فحدقت فيه برهة .. وهى أشد ما تكون اضطرابا .. كانت جائعة جدا وتود أن تطلب شيئا تسد به رمقها .. ولكنها تخشى أن يكون ثمن الطعام أكثر من القروش الخمسة التى فى حقيبتها .. فنظرت إلى الجرسون فى حيرة .. كانت تشتهى طبقا من المكرونة أو شطيرة صغيرة بالجبن .. وخجلت من أن تسأله عن ثمنها .. وأخيرا طلبت فنجالا من الشاى .. وهى تنظر إلى وجه الرجل فى استكانة وكأنها ترجوه أن يبتعد عنها ويرحمها إذ أنها فى الواقع لم تكن ترغب فى أن تطلب أى شىء على الاطلاق ..
وبعد أن تركها الجرسون ومضى إلى داخل المحل .. جمعت سعاد أشتات نفسها المضطربة وأخذت تحدق بوعى فى المكان ..
ولاحظت رجلا متوسط العمر .. يسدد إليها النظر بقوة .. فاضطربت جدا ولكن انتباه الرجل إليها سرها فى الحقيقة .. وتذكرت أنها رأت هذا الوجه من قبل وهى نازلة من الترام ..
وسرت لأنه تبعها فقد كانت فى الواقع تبحث عن شخص تلجأ إليه فى محنتها وفرحت لهذا الغرض .. وكانت قد جاءت إلى هذا الكازينو من قبل مرة واحدة مع صديقة لها .. وعرفت منها أن تحت رواقه يلتقى الرجال بالنساء .. ومن الرجال من يدفع بسخاء طيب فى سبيل ملذاته ..
وعندما سمعت سعاد هذه الكلمات لأول مرة امتعضت وخرجت تجر صاحبتها من الكازينو بسرعة وابتعدت عنه .. كانت رغم فقرها الشديد تخشى أن تتردى فى هذا الوحل أو يصل بها الحال إلى هذا الحضيض .. ولكن الكلمات ظلت مع ذلك فى أذنيها ..
فلما مرضت أختها زكية مرضا أشرف بها على الموت .. وعجزت عن أن تشترى لها حتى زجاجة صغيرة من الدواء خرجت إلى الطريق كالمجنونة وعادت إلى رأسها صورة الكازينو .. والكلمات التى سمعتها من قبل .. فاتجهت إليه مغمضة العينين ..
وكانت سعاد تشتغل من قبل فى منسج ثم طردت منه .. منذ أربعة أشهر دون سبب ظاهر .. ولم تستطع أن توفق إلى أى عمل وتستمر فى أدائه بعد ذلك .. فقد كان جمالها هو سبب نكبتها فى الحقيقة .. فقد طردت من قبل من مصنع العلب الكرتون .. ومن معمل للحلوى لنفس السبب .. كان كل من تعمل عنده ويدفع لها الأجر يود أن يخضعها لنزواته ويفترسها أولا كما يفترس الذئب الشاة .. فكانت تفزع من هذا .. وطارت على وجهها مذعورة وظلت محتفظة بصفائها .. ولكن الجوع حطمها .. ومرض أختها الطويل هز كيانها .. وكانت أصغر منها وهى عائلتها الوحيدة ..
فخرجت من البيت فى ليلة شديدة البرودة مظلمة .. وفى رأسها أن تفعل كل شىء ..
وعندما رأت هذا الرجل يلاحظها بنظراته سرت .. فقد كان هذا هو ما تطلبه وتسعى إليه .. وبعد أن حدق الرجل فى وجهها قليلا .. ولاحظ البسمة الخفيفة التى مرت على شفتيها والومضة التى فى عينيها .. اتخذ مجلسه فى مائدة ملاصقة لمائدتها ولكنه لم يحدثها بادىء ذى بدء بل ظل ينظر إليها طويلا ..
ثم التفت إليها وأخذ يحادثها ولاحظ بعد تبادل بضع كلمات معها أنها أشد اضطرابا مما كان يتوقع .. ومع ذلك صبر على خجلها وظل يتبسط معها فى الحديث برقة وايناس ..
وكان الجرسون قد جاء فى تلك الآونة يحمل الشاى .. فطلب الرجل منه فى الحال عشاء دسما وكأسين من الخمر .. ولكن سعاد رفضت أن تشرب فشرب الرجل الكأسين .. وطلب الكأس الثالثة والرابعة وظل يشرب ..
وتعشت سعاد وملأت جوفها .. وظلت طول فترة العشاء تتفرس فى وجه الرجل .. تستوضح ملامحه .. كان مستطيل الوجه .. فى حوالى الخامسة والثلاثين من عمره ذا شارب صغير وعينين صغيرتين ولكنهما نفاذتان وكان صوته ناعما ملفوفا .. وفيه براعة ورقة من اعتاد التحدث مع النساء والتودد لهن ..
ومع أنه كان جذاب الملامح وحلو الحديث ولكن سعاد أحست بعد أن شبعت وملأت بطنها بشاعة ما هى مقبلة عليه .. وفكرت فى أن تترك الرجل .. وتخرج ..
ولكن كيف تتخلص منه بعد أن أطعمها من جوع .. وكيف تنسى أختها المريضة فى البيت .. ورجعت بفكرها إلى البيت وتصورت أختها وهى تموت دون علاج وظلت فى عذاب شديد .. وجعلتها سذاجتها تفكر فى أن تطلب من الرجل جنيها .. وتتركه على الباب ..
ولكن الرجل قطع عليها حبل التفكير فى الحال بأن خرج بها من الكازينو وركب معها سيارة أجرة من قلب المدينة إلى محطة كوبرى الليمون وعرفها فى الطريق أنه يقيم فى ضاحية عين شمس وكانت قد ذهبت إلى هذه الضاحية مرة واحدة منذ خمس سنوات فى زيارة سريعة وعابرة .. وأعجبت بها وراقها هدوءها ودفؤها فى الشتاء ..
وقد انشرح صدرها لأن الرجل يقيم هناك وستدخل بيته فى سكون بعيدا عن الأنظار وعن فضول الناس ..
وعندما جلست بجواره فى عربة القطار المكشوفة ذات المقاعد الجلدية مع جموع الركاب .. شعرت بالاطمئنان ولكن عندما بدأ الناس ينزلون من العربة ويتركونها فى مختلف المحطات .. أحست بالخوف ..
وكانت تصعد بصرها فى وجه الرجل وتراه يبتسم إليها فى وداعة فعادت تطمئن إليه ..
وقد نسيت فى رحلة القطار ودخانه ووجود الركاب معها .. ما هى مقدمة عليه .. فلما خف الركاب أحست بأنفاس الرجل بجوارها وبالخشب .. والمقاعد الفارغة .. خافت .. وارتعشت من مجرد التفكير فيما هى ذاهبة إليه ..
***
وقبل أن يقف القطار على محطة الزيتون ظهر فى ممر العربة .. رجل طويل القامة عظيم الهامة .. يرتدى معطفا من الصوف الثقيل ويضع على رأسه عمامة بيضاء .. وكانت ذقنه طويلة سوداء لامعة تتخللها شعيرات بيضاء .. وعيناه شديدتا البريق .. وحرك دفترا صغيرا فى يده ..
وأخذ يخطب فى الركاب بصوت جهورى ويحثهم على التبرع لبناء مسجد .. فى جهة الزيتون ..
وكان يتحدث ببلاغة مذهلة وتتدفق الكلمات من فمه كالسيل .. وأثرت الكلمات فى الموجودين جميعا فانهالت عليه التبرعات .. ومنهم من دفع ورقة بخمسة قروش وبعشرة قروش .. وخمسة وعشرين قرشا .. وبلغ التأثر من راكب بأن أخرج جنيها صحيحا وسلمه للخطيب وعيناه تفيضان بالدمع ..
وكان يفك للذين ليس معهم فكة .. ولا يترك راكبا دون أن يدفع ويتبرع ..
وبعد أن انتهى من ركاب العربة .. دفع النقود فى جيب معطفه .. ولاحظت سعاد مع كونه لم يترك راكبا فى العربة إلا وأخذ منه التبرع ولكنه ترك الرجل الذى معها عن عمد .. ولم يوجه إليه أى كلام .. ولكنه كان يلاحظها هى بنظراته القوية حتى شعرت بالخجل من نظراته وكأنه عرف لماذا تركب القطار فى صحبة هذا الرجل فاستحيت وانكمشت ..
وترك الرجل الضخم ذو العمامة هذه العربة .. ونفذ إلى العربة الأخرى ولكنه عاد .. بعد بضع دقائق .. إلى نفس العربة ومر بجوار سعاد بجسمه الضخم وقامته الفارعة .. وذقنه الطويلة ووجد مقعدا خاليا قريبا منها .. وفى الناحية الملاصقة للشباك .. فجلس عليه مسترخيا .. وقد بدا عليه التعب من الجهد الذى بذله .. ورأته بعد قليل يغمض عينيه وجعلته هزات القطار الرتيبة ينام فعلا ..
***
وكان الرجل الذى يرافق سعاد قد تعب من الخمر .. فمال برأسه على صدره .. فانتهزت سعاد هذه الفرصة وأخذت تلاحظ الرجل الآخر جامع التبرعات وقد أعجبها شكله وهندامه وقوة البريق الذى فى عينيه ورأت ورقة مالية تطل من جيب معطفة .. فاضطرب قلبها ..
وطاف برأسها خاطر سريع .. دفعته عنها بقوة ولكنه عاد يسيطر عليها ووجدت نفسها تنهض من مقعدها بخفة وتتجه إلى دورة المياه ..
ومرت بجوار الرجل عن قرب وتحققت من نومه .. ورأت الورقة المالية .. متدلية بأطرافها .. فزاد اضطرابها .. ومشت حابسة صوت أقدامها .. وهى تحدق فى كل ما حولها .. فوجدت المكان خاليا .. وهناك ثلاثة ركاب فى الناحية الأخرى من العربة .. ولا أحد بجوار الرجل النائم ..
وذهبت إلى دورة المياه سريعا ثم عادت فوجدت الرجل الضخم جامع التبرعات نائما وحده على مقعده والورقة لاتزال تطل من جيب معطفه ..
وأحست بالرهبة وبلسعة شديدة فى أطراف أناملها وهى تمد يدها سريعا وتتناول الورقة المالية وطوتها فى لمح البصر فى صدرها ..
وكانت ورقة بجنيه كامل ..
وظلت فى مكانها شاردة إلى أن أحست بالقطار يهدىء من سرعته ويقف على محطة المطرية فاندفعت بسرعة من الباب .. ونزلت من القطار إلى المحطة ..
وبعد دقيقتين ركبت القطار المضاد الذاهب إلى القاهرة ..
***
وقبل أن ينتهى الإسبوع .. سمعت سعاد من جيرانها فى البيت الحديث عن رجل سفاح نشرت صورته فى جريدة الصباح يتصيد النساء الوحيدات من الأمكنة العامة ودور السينما ويذهب بهن إلى بيته فى ضاحية عين شمس .. وبعد أن ينال منهن وطره .. يقتلهن ويدفنهن فى الرمال .. وانتفضت سعاد لما سمعت .. عين شمس .. وتطلعت إلى صورة الرجل فى الجريدة .. ولما رأتها صرخت .. انه نفس الرجل الذى صحبها .. وهربت منه فى تلك الليلة ..
***
وتزوجت سعاد .. وسكنت فى خط المرج .. وكانت فى كل مرة تركب فيها القطار .. تتمنى أن تلتقى بالرجل الضخم الذى أخذت من جيبه الجنيه .. والذى أنقذها من الموت والعار .. لترد له ما أخذته وتشكره من قلب بتول .. ولكنها لم تلتق به بعد ذلك أبدا .. وصور لها خيالها وسذاجتها أن الرجل لم يكن بشرا وانما هو ملاك هبط عليها فى تلك اللحظة من السماء ..


اسبيرانزا 19/08/2008 03:01

الجوع
 
دخلت مطعم لينج لأتغدى بعد جولة طويلة في شوارع هونج كونج مدينة الأعاجيب وكان يقع فى شارع دى فو شريان المدينة الرئيسي .. واشتهر بأطباقه الشهية .
واخترت مائدة مفردة في القاعة التي تميل إلى الاستطالة ولها أربعة أبواب تتحرك بلولب .
وكانت الستائر الحريرية المزخرفة بأجمل الرسوم مسدلة والمطعم فى نصف ظلام .
وأضيئت جوانبه بقناديل حمراء صغيرة حتى في النهار لأن الستائر حجبت عنه الضوء الخارجي كلية .
وكانت الموائد يغطيها نسيج أرجوانى موشى بالزهور .
والقاعة غاصة بالزبائن من مختلف أجناس الأرض .. وثلاثة من الخدم يتحركون بين الموائد فى ستراتهم البيضاء الزاهية .
وجذب انتباهي رجل صينى في حوالي الأربعين من عمره .. كان يجلس فى نفس الصف ويأكل بشراهة مذهلة وكل القرائن تدل على أنه يتناول هذه الوجبة بعد أن تمزقت أحشاؤه وعانى طويلا من سعار الجوع .
وكان الشحوب الذي يتركه الجوع على وجه الإنسان لا يزال بارزا على وجهه المستدير وعيناه قد انطفأ ما فيهما من بريق ..
وبدت جيوب سترته منتفخة بما فيها من أشياء .. وشعره قد نبت بغزارة على عارضيه كما أنه لم يكن يعنى بملابسه .
وكان مظهره كله يدل على أنه جواب آفاق .
وأخذ يأكل في صمت وبصره مركز على الصحون وذراعاه تطوقان ما فوق المائدة من طعام كأنه يخشى أن ينتزع منه .
ومرت فتاة صينية حلوة بين الموائد حاملة صندوقا من السجائر .. فاستوقفها الرجل وتناول منها علبة .. وأرجأ دفع الثمن حتى يفرغ من الطعام .
ودفعت الفتاة بابا صغيرا جانبيا وتركته مفتوحا .. فسمعت على أثر ذلك موسيقى خفيفة وعرفت أن الباب يفضى إلى ملهى في نفس البناية .
وكان الملهى يعمل فى الليل ولكن بعض فتياته كن جالسات هناك في استرخاء وعيونهن لا تزال تشعر بالحاجة إلى النوم .
ولمحت من بينهن غانية شابة جميلة جدا .. وكانت تجلس وحدها وعلى وجهها الشرود .. وما لبثت أن نهضت .. ودخلت قاعة الطعام .. واختارت مائدة جانبية خالية .. وطلبت قدحا من النبيذ تناولت منه جرعات ثم أشعلت سيجارة .
وكانت ممتقعة الوجة وعلى خديها شحوب بارز .. وشعر رأسها أسود غزير وقد تركته ينسدل على جبينها ليخفى بقايا دموع في عينيها .
وكانت ترتدى الجونلة الصينية المشقوقة عند الفخذين وفوقها صديرية حريرية حمراء .. وبدت ضجرة وحزينة .
ولم تستطع نضارة وجهها أن تخفى أحزان قلبها .. فقد كان فمها الصغير تتفتح شفتاه قليلا .. كما تتفتح الوردة فى رعشة خفيفة عندما يمسها الطل .
ورغم الستائر المسدلة على أبواب المطعم ونوافذه .. فقد أحسست بشىء حدث فى الخارج .. فقد أخذ المطر يتساقط وهبت الريح فى شدة .. ولم يكن الجو باردا حتى فى ديسمبر ولكن جهاز التكييف كان يعمل .
وتحركت السيدة السمينة صاحبة المطعم من مكانها عند البنك لما رأت الخدم يقدمون الحساء وهو آخر الصحون فى المطاعم الصينية .. وأخذت تحيى الزبائن وتسألهم عن المزيد من الرغبات .
وفى أثناء جولتها حدث فجأة شىء رهيب .
فقد أراد الرجل الصينى جواب الآفاق الذى كان يأكل بشراهة .. أن يتسلل من المطعم دون أن يدفع ثمن الطعام .. لأنه لم يكن معه نقود على الاطلاق .
وأحس به الخدم فأوقفوه ودفعوه بعنف إلى الداخل وأعادوه إلى مائدته ليكون بجانب قائمة الحساب .
وأخذت العيون كلها تحدق فيه بوحشية .
وتطلعت إلى الرجل فإذا هو صامت يدير عينين مذعورتين وأصابعه تعجن طرف سترته .. تخاذل الرجل وانهار كلية .
وأخذت النظرات الوقحة تعرى هذا البائس من ثيابه .. حتى بلغ به التأثر مبلغه .. فارتعشت شفتاه وعبر وجهه عن أقصى حالات الألم البشرى .
وعلى اثر كلمة سمعها رأيته يقلب جيوبه ويفرغ كل ما فيها .. وبعد هذه الحركة .. غامت عيناه تماما وتصلب فكاه .. وحسبته قد أصابه الصرع .
وصاحبة المطعم التى كانت توزع ابتسامتها وتفيض من عذوبتها على الزبائن .. انقلبت فى لحظة إلى نمرة متوحشة .. وأخذت تهدد بالصينية وتصدر أوامرها للخدم .. ثم أدارت قرص التليفون وهى فى حالة غضب .
وتسرب الخبر إلى العابرين في الطريق فأخذوا ينظرون إلى الداخل من خلال الستر .. ولولا أن باب المطعم كان مغلقا ووقف عليه حارس ليمنع الرجل من الهروب .. لدخلوا وأشبعوا الرجل سخرية .
وتألمت لحاله .. ولكنني لم أغفر له خضوعه المطلق وذلته .. وكنت أود لو يتصارع معهم ويتضارب وهو يبدو قويا ..
وخيم الوجوم على من في القاعة عندما دخل رجل البوليس .
وفى وسط الصمت المخيم رأيت الغانية الشابة التي كانت جالسة هناك وحدها وأمامها قدح من النبيذ .. تقترب من الرجل المسكين وتقول وهى تشير بيدها :
ـ هناك ورقة ساقطة من السيد .. وانحنت والتقطت ورقة بمائة دولار هونج كونجى .. ناولتها للرجل .
وكأنما بصقت بهذه الكلمات الندية على وجوه الموجودين في القاعة جميعا ..
وتناول الرجل الورقة ولم ينبس ..
وكبرت المرأة في نظري وكبرت حتى حجبت كل من في القاعة .
وأدركت يقينا وأنا أنظر في عينيها .. أنها ذاقت أكثر من مرة عذاب الجوع ..

ابراهيم عثمان 25/08/2008 02:02

سعيد جدا بما قرأت لك من ابداع فصصي .. دمت متألقة وحاضرة.

فسحة أمل 26/08/2008 18:50

الصراحة اسا ما قريت الكل بس نسختن عالجهاز عندي.....
بس شي رائع وجميل... وأسلوب ممتع :D

على عبد اللطيف 30/08/2008 02:07

اشكر الأخت سبيرانزا على قيامها بإعطائنا نبذة من حياة الأديب المصرى الراحل محمود البدوى ، وتحملها مشقة نقل بعض قصصه إلى المنتدى .. فشكرا لها ..


يبدو أن الأخت باحثة فى الأدب العربى وربما تعد رسالة عن القصة القصيرة لأن هذا التحليل لايأتى إلا من باحث .. ولكن ..


ورد فى بداية الصفحة وهى تعقب على قصصه :


" تعرض ادبه وما زال لاتهامات من الجمعيات النسائية المصرية التى ترى انه يدخل المرأة فى سياج قصصه كمعادل موضوعى للفتنة او المتعة "

وسأكون شاكرا لها لو أطلعتنى على بعض ما يحدث فى هذه الجمعيات مساعدة منها للباحثين والنقاد فى أدب محمود البدوى


مع خالص تحيات


على عبد اللطيف


القاهرة


على عبد اللطيف 30/08/2008 02:21

شكرا لكل من اطلع على قصص الأديب المصرى الراحل محمود البدوى

اسبيرانزا 31/08/2008 16:06

بالاول بشكر مرورك استاذ على عبد اللطيف اللى اكيد راح استغلوا ....بايجابية ,, وخصوصا انى بعرف ان حضرتك من المخلصين لادب محمود البدوى بالدويتو الجميل مع مدام ليلى
راح استغل مرورك لاطرح عليك اسئلة تخص الراحل محمود البدوى بس بجاوب عليك بالاول

اقتباس:

كاتب النص الأصلي : على عبد اللطيف (مشاركة 1100902)
ا

" تعرض ادبه وما زال لاتهامات من الجمعيات النسائية المصرية التى ترى انه يدخل المرأة فى سياج قصصه كمعادل موضوعى للفتنة او المتعة "

وسأكون شاكرا لها لو أطلعتنى على بعض ما يحدث فى هذه الجمعيات مساعدة منها للباحثين والنقاد فى أدب محمود البدوى

اقرب هذه الجمعيات هى الجمعية التى كنت انتمى اليها وانا من لفت النظر لهذه المشكلة مشكلة معظم ادباء القرن الماضى من اوله وسطه اخره ,,,مسألة ادخال المرأة كمعادل موضوعى للمتعة او كاداة تشويقيه توسع حدقتا القارئ ليستمر فى القراءة اثر الوصفات ..المعروفة فى ادب البدوى
بالاول بقولك استاذ محمود صاحب ادب رائع ويكفى انو كان شبيه بالمجاهد فى ارساء قاعدة متينة لمجال القصة القصيرة فى مصر وسط زحام الشعر والرواية لكن هذه الريادة لا تمنعنا من ابداء الرأى
حضرتك كباحث فيك تقولى كام قصة من قصص البدوى لا تظهر فيها المرأة اما تغرر او يغرر بها او لا توصف باوصاف فتنة مبالغ فيها ...سواء المراة المصرية فى قصصه او امراة طوكيو روسيا الهند انجلترا الخ

نورتنا استاذ على وبنتظر مجيئك لاستغلك :yahoo:

على عبد اللطيف 31/08/2008 17:49

الأستاذة الناقدة سبيرانزا

اشكرك .. ما أكثر القصص التى يظهر فيها والد زوجتى الراحل محمود البدوى .. يظهر فيها المرأة أقوى من الرجال أنفسهم لأن قصصه كان يستلها من الواقع ، وسأقوم بمشيئة الله بحصر هذه القصص ونشرها ، حتى تغير الجمعيات النسائية من نظرتها إلى أدبه ..

وقد سبق وأن اتهمه النقاد بمثل ما اتهمته به الجمعيات النسائية .. فرد عليهم قائلا :

"
قال محمود البدوى ردًا على الذين قالوا عنه إنه يكتب فى الجنس ..

" إنهم يقولون إننى أكتب عن الجنس ، هتفت هاتوا لى قصة جنسية واحدة ، لم أجد من يجيب ــ إننى لا أكتب عن الجنس ــ ولكن فى ذهنى المرأة تتحرك مع الرجل مع صراع الحياة ، فإذا زلت ، فهى تزل من قوة قهرية أكبر منها جعلتها تضطر إلى هذا . المرأة ليس من رغبتها الدعارة، إنما هو الاضطرار"(2).

و"قصصى تردد دائما أنها تبحث عن الرجل الذى لا تجد فيه صفات زوجها"(3) .


"فالمرأة والرجل يتحركان مع بعضهما ، فلم أتعمد الإثارة ، ولم أكتب عن الجنس كشىء مفرد ، إنه شىء طبيعى فى الحياة"(4) . "إننى أصور شيئا موجودًا فى حياتنا ، وموجود بقوة وعنف وهو شىء عميق وبعيد الأغوار ، وقد تظهر أشياء كثيرة فى سلوك الإنسان من الغضب والانفعال وفى أعماقها الجنس وفى ظاهرها لا يبدو الجنس"(5) .

و"أظنك تلاحظ أنى لم أصف أبدًا جسم المرأة بالتفصيل الذى يثير ، كما أنى لا أصورها عارية إطلاقا"(6) .


"الجنس تكمله للظروف المحيطة به .. جذوره أعمق مما تتصورون فى النفس البشرية"

- ابو شريك هاي الروابط الي بيحطوها الأعضاء ما بتظهر ترى غير للأعضاء، فيعني اذا ما كنت مسجل و كان بدك اتشوف الرابط (مصرّ ) ففيك اتسجل بإنك تتكى على كلمة سوريا -

.

"ظواهره خفية ، قد تلاحظ أشياء تبدو من الوهلة الأولى بعيدة كل البعد عن الجنس ، ولكنك إذا تعمقتها وبحثت وراءها ، تجد أن الجنس هو الباعث الأول لها ، وأعتقد أن الجنس أسبق من غريزة الجوع ، وأكثر تأثيرا فى النفس، وفى كثير من القصص العالمية حين يطرح على المرأة اختيار الطعام أو الجنس ، لا تتردد فى ممارسة الجنس أولاً .


ولقد بعث فرويد ثورة عظيمة منذ أوضح نظريته إلى الآن ، وقد تأثر به مئات من الكتاب فى العالم ، كما أنه ألقى ضوءًا جديدًا على التراث الأدبى كله(2) "


"لقد عالجت مئات الحالات الإنسانية الصارخة التى لم يلتفت إليها أحد .. والجنس عميق الجذور فى حياتنا ، وأنا لم أقصده لمجرد الجنس فقط .. وإنما أحاول أن أصل إلى أعماقه ، وهناك فرق بين رجل يضع يده على كاهل فرس جميلة .. وبين امرأة تفعل نفس الشىء"(3) .


"عوامل السقوط فى قصصى لها مبرراتها ، والإنسان عندما يسقط فالواقع تعمى بصيرته وتجتمع عوامل القدر والظروف والحياة بطبيعتها تحب النقاء والطهارة ، والمرأة فى قصة "الباب الآخر"(4) عندما رأت شابا فى الشباك المجاور وكانت تعرفه من قبل تصور لها فزعها ، ونتيجة الإحساس بالدنس ، أوجد عندها واجسا جعلها تعتقد أنه سيفضحها . وقد يكون الشاب لا يفكر فى هذا إطلاقا وما فكر فيه ، ثم الفزع من الدنس أيضا جعلها تعتقد أنها إذا استجابت لهذا الشاب أسكتته ، وهذا طبعا عبارة عن أعصاب مخلخلة ، أو تصور عصابى ممزق جعلها تتصور هذا ، والغرض الأسمى من كل شىء أن الحياة طاهرة ونقية ، وعندما ندنسها لابد أن ندفع الثمن

- ابو شريك هاي الروابط الي بيحطوها الأعضاء ما بتظهر ترى غير للأعضاء، فيعني اذا ما كنت مسجل و كان بدك اتشوف الرابط (مصرّ ) ففيك اتسجل بإنك تتكى على كلمة سوريا -

".

ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــ



- ابو شريك هاي الروابط الي بيحطوها الأعضاء ما بتظهر ترى غير للأعضاء، فيعني اذا ما كنت مسجل و كان بدك اتشوف الرابط (مصرّ ) ففيك اتسجل بإنك تتكى على كلمة سوريا -

(2) م. الصياد 28/11/1974 .
(3) م. آخر ساعة 21/1/1976 . (4) مجموعة الباب الآخر 1977
ــ الهيئة المصرية العامة للكتاب م. الهلال العدد 4 ــ أبريل 1976 .

- ابو شريك هاي الروابط الي بيحطوها الأعضاء ما بتظهر ترى غير للأعضاء، فيعني اذا ما كنت مسجل و كان بدك اتشوف الرابط (مصرّ ) ففيك اتسجل بإنك تتكى على كلمة سوريا -

(2) ص. الأخبار 2/6/1982 .
(3) م. فصول ــ المجلد الثانى ــ العدد الرابع يوليه وأغسطس وسبتمبر 1982 .
ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــ

" ص 93 من كتاب محمود البدوى والقصة القصيرة ـ اعداد على عبد اللطيف ـ وتم نشره بالكامل فى المكتبة الإلكترونية المصرية

ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـ

اسبيرانزا 31/08/2008 18:28

بشكرك ع الرد


اقتباس:

كاتب النص الأصلي : على عبد اللطيف (مشاركة 1102492)
ا
لأن قصصه كان يستلها من الواقع ،


يمكن فى الجملة دى بتكمن الجدلية ,, ان استاذ محمود البدوى كان من انصار لوكاتش والمنهج الاجتماعى فى الادب اللى بيستلهم من الواقع اكتر من استلهامه حلول مثالية ,,,اسمحلى انا بعتبر هذه المسألة ثغرة فى هذا المنهج
يعنى مثلا الواقع فيه سيئات يتعب منها الحصر لكن فى مرجعية ثقافية للمبدع لطرح منهج تغييرى ولو بفكرة جوه عمل او قصة ضمن مجموعة قصصية ( انا بتكلم ع المرأة ) باقى موضوعات طرحه تقريبا ما عليها غبار

فى كل قصص البدوى المرأة هى الجسد اللى ممكن يوقع الرجل او يوقعه الرجل ...حتى فى قصص الجهاد فى بورسعيد كانت المرأة هى المخدع للرجل الغريب وقت اطفاء الانوار وقت الغارة
بعدها يخرج الرجل للقتال والمراة لالمام ملابسها
مع ان الواقع فى هذا الوقت كان يعرض نماذج عكس ذلك....نماذج المراة المجاهدة وليست الغاوية وحسب

وبمناسبة هذه الجملة (( إنهم يقولون إننى أكتب عن الجنس ، هتفت هاتوا لى قصة جنسية واحدة ، لم أجد من يجيب ــ إننى لا أكتب عن الجنس ــ ولكن فى ذهنى المرأة تتحرك مع الرجل مع صراع الحياة ، فإذا زلت ، فهى تزل من قوة قهرية أكبر منها جعلتها تضطر إلى هذا . المرأة ليس من رغبتها الدعارة، إنما هو الاضطرار))

انا لم اتطرق لمسألة الجنس انما للتوظيف السلبى من كافة كتاب هذه المرحلة ...للمراة

وبرغم اى شئ ....أ\ محمود البدوى من الكتاب القليلين اللى بيملكوا فلسفة قوية اثناء الكتابة

على عبد اللطيف 31/08/2008 21:25

الغريب ـ قصة الأديب المصرى الراحل محمود البدوى
 
الغريب


قصة الأديب المصرى الراحل محمود البدوى


سمعت رقية الكلاب تنبح بشدة .. فأطلت من باب الكوخ وحدقت فى الظلام فوجدت أنها تحاصر رجلا يصعد التل وقد سدت عليه الطريق وأخذت تتوثب حوله وتتهارش فجرت تدفع الكلاب عن الرجل بصوتها ويديها .

ونظر إليها الرجل وهو يحاول أن يتحرك بصعوبة .. كانت الكلاب قد نهشته فى أكثر من موضع من جسمه .

ولما رأت رقية الدم على ساقه .. جرت وحملت المصباح من داخل الكوخ وسقط الضوء على وجه الرجل .. فعرفت أنه غريب عن العزبة وعن أهل القرية .. وكان وجهه أسمر .. نابت اللحية .. خفيف الشارب ..

وأخذ يرش على الجرح التراب الناعم .. ليوقف الدم ..

فقالت وهى تقرب المصباح ..
ـ عنـدنا قليـل من البن .. هل تستطيع أن تمشى إلى الكوخ ؟ ..
ـ أستطيع .. لقد خف الألم .. وأريد أن أشرب .
ـ تفضل ..

وقالت لما بلغا باب الكوخ واستراح الرجل الجريح ..
ـ لماذا مررت من هناك .. وهيجت عليك الكلب ؟ .. الطريق من شرق ..
ـ أنا غريب .. ولا أعرف طرقا .. فاتتنى المعدية .. وخرجت من الساحل فوجدت الظلام من حولى ولم أجد غير الضوء فى كوخكم .. فسرت إليه .. لماذا كل هذه الكلاب ..؟
ـ ليس عندنا سوى كلب واحد ..
ـ والباقى ..؟
تتجمع دائما على الغريب ..
ـ لقد نجوت منها .. لأنها انقسمت فريقين .. وأخذت تتهارش .. وتتقاتل .. أدرك بعضها أنى غريب وأحتاج للمساعدة .. حتى الكلاب فيها الأخيار والأشرار ..

وابتسمت المرأة ..
ـ ولكن لماذا تسير فى الليل .. وليس معك حتى عصا ؟
ـ هكذا تعودت .. لم أكن أقدر .. أنى سأتأخر .. ذهبت من الفجر إلى السوق لأشترى جاموسة ..
ـ ولماذا لم تشتر ..؟
ـ وجدتها غالية .. قالوا لى أن الجاموس فى جهات ملوى رخيص ولكنى وجدتها غالية بثمانين وتسعين .. ومائة جنيه .. وعندنا فى سوق الاثنين .. وسوق الحواتكة .. أرخص .. وأوفر المشوار ..

وخيم الصمت ..

وسألت وقد رأت الاعياء على وجهه ..
ـ جائع ..؟
ـ لم آكل منذ الصباح ..

ودخلت الكوخ .. وخرجت تحمل له الطعام ..

فقال وهو ينظر إلى وجهها الصبوح ..
ـ حتى الطعام نصيب ..

فابتسمت .. وأخذت تراقبه ـ وهو يأكل ـ صامتة .. كان وجهه وجه إنسان يتألم ..
وقالت ..
ـ لو رآك همام .. وأنت مار من تحت كان " طخك " ..
ـ هل فى أرضكم ذهب ؟..
ـ ليست الأرض هى السبب .. وإنما البهائم ترعى طول الليل .. منطلقة من العزبة دون أن يحرسها أحد .. وندر أن يمر من هنا الغريب .. ندر ..
ـ ولهذا كلابكم مسعورة ..
ـ إنها لاتحب الغريب ..
ـ وكيف أخرج من العزبة ..؟

وفكرت قليلا .. ثم قالت ..
ـ سيأتى همام .. بعد قليل .. ويمشى معك ..

وبرغم خواطرها التى كانت تشغلها لم يمنع الأمر من أن تكرمه كضيف .. ففرشت له حراما ليتمدد .. حتى يأتى زوجها ..

واضطجع الرجل .. وجاء كلب ضخم وربض بجانبه ..
وغفا .. واستيقظ بعد منتصف الليل .. على زمجرة الكلب وهو يرحب بمقدم صاحبه .. وتحدثت رقية مع زوجها .. وأشارت إلى الرجل الغريب .. فتقدم همام اليه يفحصه ببصره .. ثم صافحه ..

وجلس الرجلان يتحدثان .. وعيونهما تبرق فى الظلام .. وكان السكون شاملا وكان همام جامد الملامح ولايعبر وجهه عن شىء ..


***


ووضع الرجل الغريب رأسه على الفراش .. ونام همام مثله خارج الكوخ والبندقية بجانبه .. وظلت رقية .. ساهرة .. ثم غلبها النعاس فنامت وهى جالسة .. فى مدخل الكوخ ..

ولما فتحت عينيها .. كان الرجل الغريب يصلى الفجر .. ثم سوى ملابسه وطوى الحرام ووضعه بجانبه ..

وسمع صوت رقية ..
ـ ذاهب .. هكذا .. فى البكور ؟
ـ أجـل .. يجب أن يرانى الأولاد قبل الشمس .. وإلا شغلوا ..
ـ مع السلامة .. سأحبس عنك الكلاب .. اتجه إلى الشرق .. واجعل غيط الأذرة على يمينك دائما ..

ولمـــا هم الرجـل بالانصراف .. سمعت رقية زوجها يقول ..
ـ سأرافقه .. حتى يخرج من العزبة ..

ونهض همام .. وتناول بندقيته .. ونظرت المرأة إلى زوجها .. ولم تنبس وسار الرجلان فى الطريق ..

***

وبعد ساعة .. رأت زوجها عائدا .. ودخل صامتا وعلق البندقية .. ووضع شيئا فى شق الحائط ..

فنظرت وذعرت ..
ـ ما هذا انه منديل الرجل .. و .. و .. نق .. ونقوده

فنظر اليها همام وقال بهدوء ..
ـ أعطانى .. ثمن الجاموسة .. سأشتريها له من سوق السبت ..

فحدقت فى وجهه دون أن تطرف .. ثم وضعت ماسورة البندقية عند أنفها .. وقالت بصوت مبحوح ..

ـ لقد قتلت الرجل .. الذى استجار بك من الظلام .. أى عار .. شرير .. قاتل ..

ـ أخرسى يا كلبة ..

ـ لقد غرق لك ابن .. وأكلت النار الثانى .. أما الثالث الذى فى بطنى .. فلن تراه .. لن تراه .. لن تراه ..
ـ ستخنقينه .. ؟
ـ لن تراه .. لن أجعله يرى وجه قاتل .. شرير ..
ـ أخرسى ..

وتركها وهو يلوح بيده وخرج ..

برغم كل ما سمعته عنه ولكنها كانت تكذب نفسها وتكذب الناس لم تكن تتصور قط أنه قاتل .. ولكن الآن كيف تخادع نفسها وقد لمست كل شىء ..

تبعته وركزت حواسها ورأته قد أخذ يدور ويهبط المنحدر .. وتناولت البندقية نفسها سريعا ..

وصوبت .. ثم أطلقت النار .. ورأته يتدحرج ثم يسقط فى الوحل .. ولما رفعت عينيها عن الماسورة .. رأت حمامة بيضاء .. تحلق فى الجو ثم رأتها تهبط لأول مرة على سطح الكوخ ..
============================
نشرت القصة فى صحيفة الشعب المصرية فى 9|10|1956 وأعيد نشرها بمجموعة حارس البستان 1961 لمحمود البدوى وفىكتاب قصص من القرية وفى المكتبة الإلكترونية المصرية

على عبد اللطيف 31/08/2008 23:15

الأستاذة الناقدة اسبيرانزا

فى بداية مقالك بالتعريف بـ محمود البدوى ومشواره مع القصة القصيرة .. تقولين :

" اتهم فى بداية مشواره بالسطحية وضعف الاسلوب الا انه سرعان ما اثبت حضوره وجدارة اسلوبه "

وأقول :

حينما صدرت الرواية الوحيدة " الرحيل " عام 1935 والمجموعة القصصية " رجل " عام 1936 .. تناولتهما الصحف والمجلات بالنقد والدراسة والتقييم، رغم أن مؤلفهما يعد كاتبا صغير الحجم ــ فى ذلك الوقت ــ بجوار عمالقة الأدب الذين يشغلون الساحة الأدبية فى تلك الفترة .

* * *

حينما صدرت الرحيل ، كتب على دياب بجريدة السياسة اليومية :
" أول ما يمتدح فى القصة ولعلها آخرها ــ فالأمر سيان ــ هو أسلوبها الفخم الرائع ، الذى جمع بين بديع الأدب القديم وبلاغته وفصاحته ، وجزالة الجديد وبساطته وتعابيره ، وقد أدخل الكاتب فى قصته ألفاظا وتعابير غريبة ــ ولكنها مستحبة غير نابية ــ فسما بذلك بأسلوب القصة وجعلها شيئا جديدا فى القصص المصرى الحديث وأساليبها .

أما ما يستحق النقد من القصة فهو تفككها وعدم ارتباط أجزائها كل بالآخر وهذا ما يبعدها عن تعريف القصة اللفظى وهو ــ الاستطراد والمتابعة ــ ولعل هذا ناشئ من مراجعة موضوع القصة أثناء الطبع وحذف ما لا يجيز القانون والعرف والآداب العامة نشره منها " .

* * *

وكتبت صحيفة الأهرام فى 18/12/1935 :
" عنوان قصة لطيفة دبجتها براعة حضرة الأستاذ محمود البدوى ، وتدور حوادثها على رحلة شاب مصرى إلى إسطنبول وما وقع له من الوقائع الغرامية فى أثنائها ووصف بعض الأماكن التى زارها .

* * *

وكتبت جريدة الصباح فى 21/2/1936 عن المجموعة القصصية " رجل " :

"لقد قرأناها كلها لأن شيئا فيها كان يدفعنا إلى قراءتها ، ذلك هو الصدق الذى نبحث عنه فى كل شىء ، فطابع الصدق فى هذه القصص كان يعيننا على تذوقها والاستمتاع بما فيها ، ولعل هذا الطابع الذى نحبه ونسعى إليه كان ظاهرا جدا وواضحا كل الوضوح ، فى قصة " الأعمى " فهذه الصورة الريفية الإنسانية لا يمكن أن تكون منتزعة من الخيال ، فإذا كانت كذلك فإن صاحبها لبارع جدا وأنه لصاحب بصيرة نفاذه إلى الحقيقة دون أن يراها ، وثمة شىء آخر تتسم به هذه القصص ذلك هو أدب المؤلف ، أو بعبارة أخرى عدم ميله إلى ما هو مستقبح ، ولأفسر ذلك فأقول أنه تحاشى أن ينصر الرذيلة، بل عاملها بمنتهى الهوادة حتى انتزع منها روحها ، وفى قصة الأعمى ترك الرذيلة تؤدى مهمتها لكنه عاقب أصحابها عقابا نفسيا رائعا .. وفى القصص الأخرى كبح جماحها وجعلها تنسحب من الميدان .

وبعد .. فقد لا ينقص هذه القصص إلا قليل من المراجعة ليصبح أسلوبها يستحق ما يحمله من فكر صادق ورأى صائب وأدب رصين .

* * *

قالت الجريدة السورية اللبنانية 17 أيلول 1936 عن هذين الكتابين :
"مكتوبه بأسلوب سهل بليغ وفيها تحليل لشتيت من الخوالج النفسية ، أما حوادثها فتسترعى انتباه المطالع لتناسقها وارتباطها ووصفها البيئة المصرية ، وقد أعجبتنا بصفة خاصة قصة الأعمى ، فهى والحق من أروع القصص القصيرة التى طالعناها .

والكتابان جميلا الطبع وهما حلقتان من سلسلة كتب يعدها حضرة المؤلف تحت عنوان "مكتبة الجيب" فبينما نثنى على أدبه نتمنى أن يصدر فى القريب بقية المؤلفات التى أعلن عنها ، فإن الأدب العربى بحاجة إلى مثل هذه الجهود المنتجة " .

* * *

وكتبت مجلة الشباب فى 10/6/1936:
"قصص تبلغ فى بعض الأحيان مبلغا غير يسير من الإجادة والاقتراب من الكمال الفنى ، أما الكتيب الأول فقد أسماه مؤلفه الأديب محمود البدوى "الرحيل" وهو كذلك قصة جميلة محبوكة ضمنها مؤلفها الشاب خطرات نفسه ولواعج صدره ، وجمع إلى هذا جمالاً فى أسلوبه ، ودقة فيما يرسمه من التصاوير حتى لتعد بعض صفحاتها مثالاً طيبا لجهود الأدباء الشبان ..

..... وعندنا أن مثل هذه الجهود المبارك عليها فى الأدب التى يبذلها بعض الأدباء الشبان كالأديب البدوى هى التى يصح أن تتوجه إليها عناية القارئين وتشجيعهم ، فهى تبشر بمستقبل بسام فى الأدب وفى القصة .

* * *

وكتب هلال شتا فى جريدة السياسة الأسبوعية 1/6/1936 عن المجموعة القصصية " رجل " :
" أول ما فتننى من الكتاب أنه ــ كسابقه ــ يدفع بالقصة المصرية إلى الأمام دفعا ويرتفع بها شيئا فشيئا إلى حيث يجب أن تكون ، ذلك أن فن القصة فى مصر لم تمض على ولادته إلا بضع سنوات ، ولم يجد من يتعهده من الكتاب ويقف عليه جهوده وفنه اللهم إلا طائفة قليلة لا تعدو أصابع اليد الواحدة عدًا .. يتزعمها المازنى وهيكل وتيمور وطه وأبو حديد والحكيم .. ، فقد نزع البدوى إلى القصة النفسانية التحليلية وفتن بالأدب الواقعى ومحاكاة الطبيعة فى البساطة التى تفيض على أحداثها ثم فتن بالعنف كذلك ومحاكاة النفس البشرية فى فورانها وانفعالاتها .. الكتاب فى مصر والشرق قد اصطلحوا منذ عهد بعيد على أن يبدأوا كتاباتهم " بسم الله الرحمن الرحيم " وخلو الكتاب من هذه السنة الطيبة يحملنا على سوء الظن بالمؤلف وإن كان فى قصته " الأعمى " يدافع عن التشريع الإسلامى فى الجريمة الجنسية دفاعًا فنيا مجيدًا .

وأخيرا نرجو للمؤلف والشبان الذين يكتبون فن القصة بمثل توفيقه نجاحًا وذيوعًا ورقيا مطردًا .

* * *

وكتبت مجلة المصور فى 12/6/1936 :

"أصدرت مكتبة الجيب كتابها الثانى " رجل " وهو مجموعة من القصص المصرية كتبها الأديب محمود البدوى بأسلوب تحليلى رشيق ، واستقى موضوعاتها من صميم الحياة ، فصور الحب والبغض والصفاء والغيرة والسعادة والشقاء تصويرا حسنا ، ولا شك أن هذا الكتاب يعتبر خطوة موفقه فى عالم القصة المصرية .

* * *

وكتب الأديب محمد شوكت التونى المحامى فى جريدة المقطم 23 يونيه 1936 وقال عن هذين الكتابين :
" باكورتان مباركتان انبثق عنهما ربيع الشباب عن عمر هذا المؤلف الأديب ، وثمرتان طيبتان هما القطف الأول من جنى دراسته فى الكتب والحياة ..

لو أنه كان من ذوى الجاه المادى الكبير أو من أصحاب المناصب الحكومية العالية ، أو من ذوى النفوذ فى دور الصحف ووجد من يحرق البخور بين يديه ويغرس له أوراق الورد بين أنهر الصحف والمجلات ويطلق له أناشيد المديح وأهازيج الثناء لكان لكتابيه اليوم شأن أى شأن .

ولكنه شاب مغمور هادئ ينتج كى يرضى رغبته الفنية سواء صاح حوله الصائحون أم أحس بأنه يعمل فى وسط قبور يخيم عليها جلال الصمت ووحشة السكون .

" محمود البدوى كمؤلف يعتبر ظاهرة نفسية تستحق الدراسة فقد خرج من وسط أغرم أفراده بالكتابه القصصية ، فمنذ ثلاثين عاما أخرج شاب اسمه إسماعيل عبد المنعم هو اليوم كهل أو شيخ منزو فى إحدى وظائف وزارة المعارف ــ عدة كتب قصصية كان لها دوى وكان لبعضها فضل السبق فى مضمارها ، فقد لخص شكسبير وكان أول من فعل فى كتاب سماه " على مسرح التمثيل " ولخص موليير وألف قصصا مصرية منها " على سفح الجبل " و" عقد اللآلئ " وغيرهما ، وهذا الشاب منذ ثلاثين عاما هو خال الشاب المؤلف الحديث ، كما أن له خالاً آخر اتخذ المحاماة وتفرغ لها وانزوى عن الاشتغال بالأدب جهرا وإن كان يتعاطاه كمدمن الرحيق سرا ، كان له شغف بالأدب القصصى منذ أكثر من عشرة أعوام ، أخرج فيها عددًا كبيرا من القصص المصرية ، ومنها كتاب سماه " فى ظلال الدموع " وروايات مسرحية أخرى .

وله أقارب آخرون كل ميلهم منصب على الأدب القصصى ، ومع أن " البدوى " لم ينشأ بينهم نشأة جوار ومخالطة ، فقد نما النبت فى أعماقه دون وعى منه واشتعلت الجمرة واتقد لهيبها دون أن يوقدها بإرادته .

وتلك ظاهرة إن دلت على شىء فإنما تدل على أن هذا الوسط قصصى بطبيعته ، يرسل القصة وحى فنه الغريزى وسجية نفسه وفيض خياله لا يتعملها ولا يتصنعها .

هذا الطراز من الكتابة جديد فى مصر ، ولقد أراد بعض الكتاب المصريين الذين لم ينضج فيهم الذوق الفنى ولم يسعفهم الإلهام المواتى أن يقلدوا بعض هؤلاء الكتاب فشطوا وسيطرت عليهم العواطف المكبوتة وبرزت غريزتهم الجنسية فجاءت كتاباتهم عبارة عن تحريض وإثارة للغريزة الجنسية ، وسموا هذا النوع من الكتابة " أدبا مكشوفا " فكان جهلا مكشوفا .

أما الإنتاج الجديد الذى نحن بصدده وهو أدب القصصى الناشئ محمود البدوى فأدب تحليلى سام فى فنه ، عال فى خياله ، مهذب اللفظ ، مغطى المعنى بطبقات من الذوق .

أما قصته الثالثة " الأعمى " فقطعة بديعة جدا من الأدب لو أنها ترجمت إلى الأدب الروسى لحسبته من روائع إنتاج " تشيكوف " .

" فإنى أنصح الأديب البدوى بكثرة الإنتاج ومراسلة الصحف حتى يسخو تعبيره وتصقل عبارته ، ولو أن ذلك لا يمنع كون أسلوبه من أرقى الأساليب العربية فى إنتاج الشباب "

* * *

وكتب محرر مجلة الهلال فى عددها الصادر فى الأول من يولية 1936 :

" صاحب هذين الكتابين له ولع كبير بالقصة دفعه إلى إصدار هاتين القصتين .

والقصة الأولى " الرحيل " وصف حياة شاب عاشق بأسلوب مؤثر ، أما القصة الثانية أو الكتاب الثانى " رجل " فهو يحوى أربع قصص صغيرة ، الأولى قصة " رجل " التى اختار أن يعنون الكتاب باسمها ، والثانية " النجم البعيد " والثالثة " الأعمى " والرابعة " فى الظلام " .

وقد أجاد المؤلف فى تأليف هذه القصص ، ووفق فى محاولاته الأولية ، ونال من النجاح فى بدايته ما يبشر بأنه إذا استمر على العناية بهذا الفن فسوف يصل إلى درجة مرفوعة من الإجادة والإبداع .

* * *

وكتب محمد على غريب فى مجلة الرسالة 6/7/1936 :
" القصة المصرية عندنا ما تزال فى مهدها اليوم ، وأكبر الظن أنها سوف تبقى فى لفافات الطفولة إلى مدى طويل ، وأن يفقد الأدب العربى عندنا هذه الثروة الضخمة التى انحصرت فى القصة ومنحت الآداب الغربية ما لها اليوم من تفوق ونجاح " .

" لست أثنى على صديقى لأن بينى وبينه هذه الصلة ، فإن من الخير لى وله أن أجاهره بالرأى الصريح ولو كان فيه ما يؤلمه ، فإننى أعرف فيه حسن تقبله للنقد ، ولم تصلح الصداقة يوما ما رشوة بين صديقين يحب كلاهما صاحبه ويخلص له ، فالواقع أن هذين الكتابين اللذين أخرجهما الأستاذ البدوى لقراء العربية من خير المحاولات المفيدة الناجحة فى سبيل بعث القصة المصرية ووجودها ".

واستطرد غريب قائلا عن رواية " الرحيل " :
إنه يرسم صورة من نفسه ، ونفسه ترسف فى أغلال قوية وتحاول الخروج منها ، فإذا عجزت عن المحاولة ترنمت بالإيمان ، وإذا نجحت فى التنفيس عن كرباتها فرحت بهذه الأضواء الباهرة التى يجد فيها حياته كلها وجميع أمانيه " .
ويقول عن قصة " الأعمى " :
" إنها صورة صادقة من أبلغ ما كتب الأدباء المصريون ، وقد امتزج فيها الفن بالواقع ، فترى أمامك مزيجا منها يلزمك أن تعاود قراءتها " .

* * *

وكتب عبد المعطى المسيرى فى جريدة السياسة الأسبوعية 20 يوليه 1936 :
" اختلفت آراء المستشرقين فى الأدب العربى الحديث كما اختلفت أحكام قادة الأدب وشيوخه على إنتاج الشباب ، فمن المستشرقين من يرى أن الأدب العربى لن تكون له مكانة بين الآداب الأخرى إلا إذا استقام له حظ وافر من الفن القصصى ".

" إن المطبعة تغمرنا بالكثير من القصص الركيك ، وأن تهريج الصحف قد شوه جمال نهضتنا الأدبية ولكنا بين الفترة والفترة نستخلص من هذه الوفرة قصة تنسينا الألم وتبعث فينا الرجاء والأمل .

بعد هذه المقدمة نستطيع أن نمضى فى دراسة قصة " الأعمى " للأستاذ البدوى وقد اخترناها بالذات لإعجاب النقاد والقراء بها . يعيش قارئ هذه القصة فى جو خاص هيأه المؤلف فحشد له تجاريبه فجاء محكم التمثيل متماسك الأطراف تصافحه الأطياف ، كأن المؤلف يعنيه بالذات ، فهذه آلامه وآماله وتلك مطامحه وغاياته " .

" إن غاية ما أعبر به عن هذه القصة أنها نموذج للقصة المصرية الحديثة ، إنها القصة المثالية التى يجب أن يطالعها بإمعان كل من تحدثه نفسه بكتابة القصة ، كما أن صاحبها قدوة للشباب الطامحين " .

* * *

وكتب أ . ع . أ . ى فى الصاعقة الأسبوعية 8/8/1936:

"لا غرو فالأستاذ البدوى جدير بأن يكون مبتدعًا ومجددًا فى فن القصة ، فلقد قرأنا للأستاذ كتابه " الرحيل " الذى كان من خير ما أنتج الشباب فى ميدان الثقافة والأدب .

وسوف يراه الأدباء وعشاق القصة فى كتابه "رجل" أديبا بارعا" وقصصيا قديرا على أن يخلع على القصة نسجا من الجمال وقوة من البراعة ، فلا تكاد تنتهى من قراءة إحدى قصصه حتى تشعر بميل شديد وقوة نزاعة إلى مراجعتها مرة ومرات .

فنهنئ المؤلف على هذا المجهود المشكور ، ونتمنى له النجاح المطرد فى ميادين الثقافة والأدب ".

* * *

وكتب على كامل بمجلة الجامعة 23/7/1937:
" لا ريب أن الفترة التى تعبرها مصر فى معتركها الأدبى الحالى على أعظم جانب من الأهمية والخطورة ، وهى لذلك أجدر من غيرها وأحق بالانتباه والتيقظ ، فنحن الآن نتجه تدريجيا نحو خلق أدبى قومى صميم بعد أن مكثنا عشرات السنين فى الترجمة والنقل . وهذا الأدب القومى الجديد الذى تحتل القصة الصف الأول منه لا يعتمد على ماض وتراث سابقين "

" إن القارئ يشعر خلال السطور بشخصية المؤلف بارزة جلية ، وهى الصفة الأولى التى يجب أن يمتاز بها العمل الفنى سواء أكان قصصا أو شعرا أو موسيقى أو تصويرا أو غير ذلك ، كذلك كان المؤلف فى كتابيه دقيق التعبير ، بارع الوصف . ففى قصة " الرحيل " مثلا نراه يصف لنا إحساسات الشاب محمود وهو إلى جانب الفتاة التى أحبها ، فيجيد الوصف راسما العواطف المتضاربة التى تتنازع كلا من الفتى والفتاة بطريقه أرى أنه وفق فيها كثيرا .

وفى قصة " الأعمى " من كتابه الثانى " رجل " تراه يصف لنا شخصية الأعمى بطريقة تطغى فيها النزعة العلمية الحديثة فى معالجة القصة فى أوربا ، وهو ما يبشر المؤلف بمستقبل قصصى قد يحسد عليه إذا عرفنا أن هذه المميزات قد حصل عليها فى أول أعماله الأدبية " .

* * *

وسأكتفى بهذا القدر مما نشرته الصحف والمجلات عن رواية الرحيل ، والمجموعة القصصية رجل فى الثلاثينات من القرن العشرين ، وهدفى من وراء السرد السابق أن أبين مدى ما كانت عليه العناية الجدية بالنقد والتشجيع على جميع المستويات للثقافة والأدب ، وما لاقته أعمال البدوى الأدبية الأولى من احتفاء وتكريم .
================================

اسبيرانزا 02/09/2008 03:13

استاذ على ...تسمح؟

متى بدأ محمود البدوى نشر اعماله ؟ هل الرحيل هى ظهوره الاول؟

برر محفوظ الصد عن ادب البدوى لانه لم يكن له حزب ادبى يناصره ويدافع عنه ....هل علق البدوى على هذا الرأى؟

البدوى دائما مشغول بالمسير والمصير الانسانى ...هل كان شغوفا بقراءه الفلسفة او علم النفس ام هى محض تأملات فى الحياة

قال القعيد رحم الله البدوى ظلمناه حيا وميتا ؟؟هل ما زال ادب البدوى مظلوم؟ حتى بعد حصول على جوائز الدولة التقديرية واحتفاء النقاد مؤخرا به

كان محمود البدوى خلوقا ملتزما من البيت للعمل والعكس الا ترى ان هذا حرمه من خبرات وماذا كان رايه فى الادب غير الملتزم ؟

على عبد اللطيف 02/09/2008 04:08

الأستاذة الناقدة اسبيرانزا

كل ما دار من تساؤلات تجدينها فى كتاب " سيرة محمود البدوى " لكاتبيه على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى وقد قمت بنشره كاملا فى العنوان :


المكتبة الإلكترونية المصرية ـ السيرة الذاتية ـ سيرة حياة الأديب المصرى الراحل محمود البدوى




الساعة بإيدك هلق يا سيدي 00:32 (بحسب عمك غرينتش الكبير +3)

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
ما بخفيك.. في قسم لا بأس به من الحقوق محفوظة، بس كمان من شان الحق والباطل في جزء مالنا علاقة فيه ولا محفوظ ولا من يحزنون

Page generated in 0.42684 seconds with 10 queries