أخوية - الجوع... جريمتي

كعادته السنوية, يبث التلفزيون الاسباني اليوم برنامجا ماراثونيا منذ الظهيرة و حتى الفجر, عبارة عن حفل كبير بمشاركة الكثير من المشاهير في جميع المجالات, و القصد منه جمع التبرعات لصالح منظمة الفاو (منظمة الأمم المتحدة للتغذية و الزراعة).

على مدى الساعات, يقوم المشاهير بالتناوب على الرد على مكالمات المتبرعين, و يتخلل الرد على المكالمات فقرات غنائية و فكاهية متنوعة, و كل دقائق عديدة يظهر على الشاشة المبلغ المجموع حتى هذه اللحظة. و بالإضافة للمكالمات هناك أرقام لإرسال الرسائل النصية القصيرة عبر الهواتف الخلوية.

حتى ساعة كتابة هذه السطور, الحفل ما زال مستمرا..

منذ دقائق كذلك, انتهت مباراة برشلونة و بلد الوليد بفوز برشلونة بستة أهداف نظيفة, و قبلها, فاز ريال مدريد بصعوبة جمّة على مالغا الأندلسي.

قصدي من إدراج نتائج مباريات السبت للدوري الاسباني هو يقيني التام, أنه مهما جمعت حفلة الفاو الخيرية من المال, فإنه لن يصل, و لن يقترب حتى, من كلفة نقل مباراة واحدة من المباريات آنفة الذكر, من تكلفة تقنية و يد عمل و حقوق إرسال و كل هذه الأمور. و طبعا, الكلفة تُصرف لأن "الغلّة" ستكون أكبر منها.

يا ترى... هل هذا منطقي؟

لست بصدد الاستخفاف بالمجهود الجبّار الذي تبذله الكثير من الجمعيات الخيرية و الأفراد حول العالم, لمحاولة وضع ما يستطيعون تحت تصرّف النضال ضد الجوع في العالم. بالعكس تماما, أنا بصدد احتقار الطرف الآخر, ليس فرق القدم الاسبانية, بل النظام الاقتصادي الاستهلاكي العالمي, هذا الذي يشرّع بكتب علومه التهام الإنسان لأخيه الإنسان, هذا الذي يتحدّث عن أزمة عالمية بسبب إصابة بعض أولاد العاهرات المالية بالزكام نتيجة جشعهم المنقطع النظير..

أزمة عالمية؟ الآن؟ و الجوع؟ أليس أزمة عالمية؟

كل 3,5 ثانية يموت انسان في العالم بسبب الجوع أو لمضاعفات سوء التغذية أو نقصانها (إحصائيات مفوضية الأمم المتحدة لعام 2007).

هل مؤشر الوول ستريت يدل على أزمة عالمية.. أكثر من هذا الرقم؟

بما يخصني, سأستفيد من هذه الإحصائية كرد جاهز على جميع من يتحدث عن "أزمة اقتصادية عالمية".

نفترس بعضنا... و لا نشبع....

نرى على شاشات التلفزة كيف يموت أطفال أفريقيا من الجوع بينما نأكل طعام الغداء الذي لا يحلم به نصف سكان القارة السوداء, و قد نعلن عن اشمئزازنا لصنف على الطاولة لا نستسيغه.

هذا و لسنا كأفراد, المذنبون الكبار...

المجرم هو من وضع شريعة الغاب نظاما للعالم, و رسّخه و جعله علما... و سمّاه اقتصادا دوليا...

نحن شركاء بصمتنا... لا أنكر هذا الشيء..

و قد نكون شركاء كذلك... بضميرنا السكير بنشوة الكفاية...

أحيانا نسخر من نفسنا و من الواقع و نقوم بعمل انساني نعتبره دليلا على نبل أخلاقنا, و قد نفاخر به جدا, و نتكلّم عنه.. و رغم أننا أول المقتنعين بأنه ليس حلا, إلا أننا نراه أمرا عظيما.

لكن لنكن واقعيين... ليس كل هذا إلا مخدرا للضمير.. بنج أقرف منه اليوم.. بعد التفكير طويلا.. بأنه قد مات عشرات الأشخاص في الوقت الذي قضيته في كتابة هذه السطور...

اعترف أنني مجرم... اعترف بأنني شريك بالجريمة, بصمتي و مساعدتي

اعترف بأنني أشعر بأنني قذر... و سافل... و أحقر كائنات الأرض...

اعترف أنني أخجل من نفسي عندما أصفّق لصامويل أيتوو عندما يسجّل هدفا.. عندما يكفي ما يُدفع له شهريا لحل كم هائل من مشاكل بلاده.. الكاميرون.. بل و أردد مثل الببغاء أنه إنسان رائع لأنه تبرع ببناء مدارس عديدة و أعاد بناء جميع بيوت قريته من جيبه..

لن أنام قرير العين اليوم لأنني تبرعت بمبلغ لحملة الفاو, لأنني أعلم أن ثمن قداحتي هو ضعف هذا المبلغ الذي استكثرته حتى, عندما تبرّعت به... بل شعرت بخجل من وجد نفسه عاريا وسط الزحام, عندما فكّرت في هذه المقارنة..

لن أرتاح نفسيا لأنني اعترفت بجريمتي, بل سأبقى أجلد نفسي لشعوري بالعجز عن فعل شيء... لمعرفتي بأنني أحقر من أن أمسح دمعة جوع من طفل, و دمعة ألم من أمه التي لم يعد هناك لحم في جسمها حتى لو فكرت باقتطاعه لتطعم صغيرها...

قرف.. و خجل..

هكذا أرى الإنسانية في هذه اللحظة.. و للأسف لا أرى نفسي مجحفا في حقها...

Yass