أخوية

أخوية (http://www.akhawia.net/forum.php)
-   حوار الروح (http://www.akhawia.net/forumdisplay.php?f=13)
-   -   رحلة في فصول الحياة (http://www.akhawia.net/showthread.php?t=121556)

Hobbit 04/09/2009 18:51

13 آب


كان والدي رجلاً طيّباً و لكن لم يكن في استطاعته أن يعرب عن مشاعره البتّة , بل كان يخفي كلّ شيئ وراء حاجز من الكلام يقطع فيه الطريق على الإعراب عن مشاعره . فمات و دُفنت معه جميع أسراره و مشاعره . و أحسست بشيئ من الفراغ لأنّ كلينا أخفى للأبد عن الآخر مشاعر عميقة مهمّة .

قبل أن يموت أبي , ما كنت أقدّر و لا كنت أفهم قيمة الانفتاح العاطفيّ . و لكنّني عندما أدركت أنّه ما من علاقة حقيقية تنمو من دون ذلك , قرّرت أن أسلك مع والدتي سلوكاّ مغايراً . و منذ ذلك الحين و خلال سني شيخوختها , قضيت و إيّاها ساعات طوال يتحدّث فيها أحدنا إلى الآخر بصدق عمّا يشعر به . و عندما أغمضت عيناها للمرّة الأخيرة , أحسست و أنا أبكيها بأنّ أشياء جميلة من ذاتها باقية معي , و كان حزني يمتزج من جرّاء ذلك بشيئ من العزاء العتيق لما شعرت به حينما بكيت أبي .

و ذكّرني هذا بأبٍ أسرّ إليّ يوماً أنّه فقد ابنه فجأة في حادث سير . و في الليلة التي سبقت دفن ابنه كتب رسالة قصيرة و أخفاها في زاوية نعش ابنه , هذا نصّها :

و لدي العزيز,

أنا ما قلت لك يوماً كم أنّني أحببتك , و كم لك من مكانة في قلبي . و ما أخبرتك أبداً عن الدور العظيم الذي قمتَ به في حياتي . ظننت أنّني سأجد الوقت المناسب لذلك ; ربّما عندما تتخرج من المدرسة أو الجامعة أو عندما تتزوج و تغادر المنزل . و الآن و قد عاجلتك المنية و لن يكون لنا معاً بعد من (( وقت مناسب )) أقول لك فيه ما أريد , ارتأيت أن أكتب هذه الرسالة آملاً أن يرسل الله أحد ملائكته فيقرأها عليك . أودّ الآن أن أقول لك كم إنّني أحبّك و كم أنا حزين لأنّني ما أعربت لك عن ذلك الحبّ عندما كنّا معاً .

أبوك

Hobbit 04/09/2009 19:02

14آب


إنّ أهمّ سبب يحول دون تعبيرنا عن عواطفنا هو الهروب من الإقرار بحقيقتها لسبب من الأسباب نحن نخشى سوء تفكير الآخرين فينا , و نخشى رفضهم لنا و عقابهم , بشكل من الأشكال , على الصراحة في التعبير عن عواطفنا . لقد تعودّنا أن نرفض بعض العواطف و كأنها ليست منّا , أو كأنّنا نخجل منها , و نحن الآن نبرّر موقفنا بالقول إننا لو فعلنا لما تفهّمنا أحد و لتسبّبت صراحتنا بمشاكل كثيرة في علاقاتنا بالآخرين . و لكن في كلّ هذه الأسباب بعض التحايل , و صمتنا يُدخل العلاقة على غير الانفتاح و الصدق هو كمَن يبني على الرمل . فمثل تلك العلاقة لن تصمد أمام عامل الوقت , و لن تعود بالنفع على أيّ من الفريقَين .

Hobbit 04/09/2009 19:06

15 آب


إن كنت أحبّك حقّاً , قد تسمع منّي أحياناً ما لا يرضيك . لأنّ الحبّ يتطلب منّي أن أواجهك ببعض الأمور و أن أتحدّاك , و هذا لن يكون سهلاً في نظرك و نظري . و لكن إذا كان الحبّ هو الهدف من العلاقة بيننا , فسأحاول أن أقول و أفعل ما من شأنه أن يعود عليك بالراحة و الفرح و الطمأنينة . و لكن أرجو أن تتحلّى بالصبر قليلاً , لأنّه قد يأتي يوم أجد فيه نفسي في حيرة آنذاك سأقدّم إليك و لكن بأيدٍ مرتجفة , ما أراه مناسباً آملاً أن يكون ذلك هو الأفضل لك حقاً . و آمل أنّك ستكون رحيمّاً و غفورّاً إذا ما حدث لي أن أخطأت الهدف أحياناً . فقد يأتي يوم تتغلب فيه آلامي و أنانيّتي على النوايا الطيّبة لديّ , فيصدر عنّي ما لا ترضى عنه أنت و ما لا أريده أنا .و لكن إذا كان الحبّ هو حقّاً المحرّك لما أقوم به , فسوف أحافظ دائماً على أمرَين مهمَّين في تعاملي معك :1_ سأكون صادقاً و صريحاً معك .2_ سأعمل على إبراز ما هو فريد عندك فتزداد إيجابية في نظرتك إلى نفسك .

Hobbit 04/09/2009 19:24

16 آب


عندما أكون على استعداد أن أظهر لك ذاتي على حقيقتها في ضعفي كما في قوّتي , آنذاك يتمّ التواصل في ما بيننا . و عندما ينفتح المرء, لا بدّ و أن يكون لانفتاحه أثره الإيجابي في الآخرين . في الصدق عدوى و ذلك شأنه شأن كلّ ما هو إنساني . فعندما أخرج من عزلتي لأنفتح عليك بصدق , لا بدّ و أنّك ستبادلني الموقف نفسه .و عندما اتكلم بصدق عمّا هو إيجابي عندي و عمّا فيّ من ضعف , يشعر الآخر حالاً بشيء من الاطمئنان في نفسه لأنّه يعرف أنّني أُظهر له ذاتي على حقيقتها , و هذا ما يشجّعه على أن ينزع أقنعته هو أيضاً , و يُفصح بصدق عن حقيقة ذاته . فيختبر من خلال المخاطرة في الانفتاح , فرح الشفافيّة و نشوة الحرّية .

Hobbit 04/09/2009 19:31

17آب



التواصل تبادل حرّ للهدايا , يقدم المتكلم الى المصغي بعضاً من ذاته حين يبادله الكلام بصدق , فيتسلّم المصغي تلك الهديّة بلطف و تفهّم , و يأتي هذا التجاوب بمثابة هديّة يقدّمها المصغي بدوره الى المتكلم . و من أجل هذا الموقف المشجّع و تلك الهديّة اللطيفة , أرى من البديهي أنّه عليّ أن أعرب عن تقديري و امتناني . عندما تصغي إليّ , عليك أولاً أن تنسى ذاتك لبعض الوقت كي تهبني الوقت الذي احتاج إليه .
أنا أنظر إلى الإصغاء أحياناً و كأنه أمر يتعلّق (( بمساحة)) ما في الحياة . عندما أصغي أُعطي الآخر في حياتي مساحة يتحرك فيها , و فيها يجلس ويستريح و يكشف لي عن أوراقه التي يودّ أن يمعن النظر في فهمها .
إنّ مَن يحسن الإصغاء ليس بالحمل الذي يقدّم ذاته ذبيحة في سبيل الآخر , بل هو إنسان يودّ أن يتعرّف إلى عمق حقيقة الآخر . نحن غالباً ما نتذمر (( لأن أحداً لا يصغي إلينا , و إلى المشاكل التي نعيشها , لأنّ أحداً لا يهمّه أمر ما يجول في نفوسنا)) .
إلا أنّ مَن يحسن الإصغاء يهتمّ بما فيه الكفاية فيطرح جانباً ما هو مهمّ بالنسبة إليه ليواكبني في ما أنا فيه من متاعب و هموم . لذا عليّ أن أعرب له عن عرفاني و شكري لأنّه أفسح لي في المجال لأُشركه في المساحات الداخليّة التي أودّ أن أُدخله إليها .




Hobbit 04/09/2009 19:40

18آب
و مَن يصغي إليّ بإمعان يُفسح لي في المجال لأكون ذاتي . أنا أعرف حقّ المعرفة أنّ أحدنا يختلف عن الآخر , فأفكارك ليست أفكاري و لا مخاوفك مخاوفي . و أنّ ما يشكّل عبئاّ عليّ قد لا يتسبّب لك بأيّ همّ . و ما يؤلمني و يُغضبني قد يمّر بك من دون أن يترك أيّ أثر في نفسك . و مع ذلك كلّه فأنت تسمح لي بأن أختلف عنك من دون أن نقيم الحواجز بيننا .
إنّ مَن يحسن الإصغاء لا يقبلني فقط كما أنا , بل يعمل جاهداً ليرى الأمور من خلال عيني و يشعر بمخاوفي كما أحسّ أنا بها . و عندما يقول لي إنّه (( يُدرك ما أنا عليه )) أحسّ في عمق ذاتي بأنّه حقّاً يفهمني .
أنا على يقين من أنّه لا بدّ و أن حدث لك , كما حدث لي مراراً , أن قلت لمَن كان يصغي إليك : (( إنّني لا أبغي منك أن توافقني في كلّ ما أقول , بل أن تتعرف إلى الطريق الذي أسلك , فلا أشعر بأنّني وحيد في مسيرتي )) . و في مثل هذه الحال لا بدّ و أن يشعر المرء بالعرفان و التقدير .

Hobbit 04/09/2009 19:46

19 آب
و عندما أشكرك لأنّك أصغيت إليّ فذلك يعني أنّني ما طلبت إليك سوى الإصغاء , و لم أسألك أن تحلّ مشاكلي مثلاً و لا أنا حاولت التلاعب بمشاعرك أو امتحان قدرتك على القيام بأي شيء .
طلبت إليك أن تتخلى , و لو إلى حين , عن برنامجك الخاص لتشاطرني بعض المتاعب التي تُقلقني , لتقبلني كما انا , كشخص مختلف عنك .
و شكري لك هو إقرار بكلّ ما قدّمت إليّ و تأكيد لك لشعوري بعرفان الجميل .



Hobbit 05/09/2009 11:40

20 آب

الفائدة الأولى من العلاقة الحميمة العميقة تبدو و اضحة :إنها "لقاء" صادق بين شخصين .

و هذا لا يعني فقط مشاركة في غنى الخبرات الشخصية , بل تعمّقاً في فهم الذات ووضوحاً في النظرة إلى الهوية الشخصية لكل من طرفي اللقاء .

يتساءل العديد منّا اليوم حول هويتهم , هذا يعني أنني في الواقع لا أعرف نفسي بوضوح كإنسان . إن ما يميزني كشخص هو ما أفكر فيه و ما أحكم فيه و ما أشعر به .. إلخ . فإذا عبرت عن تلك الأمور بحرية و انفتاح , و بالوضوح و الصراحة المطلوبة , فسوف أعي هويتي بشكل أوضح , و أتعرف إلى الآخر بشكل أعمق و أصدق . من حقائق علم النفس التي لم يعد هناك من خلاف في شأنها , أنني كإنسان أفهم حقاً من ذاتي ما أتمكن أن أعبر عنه لشخص آخر .

Hobbit 05/09/2009 11:54

21 آب

العلاقة الصادقة ستُحدث تجاوباً صادقاً و منفتحاً عند الآخر . و هذا التجاوب ضرورة إذا كان للعلاقة أن تصبح حقيقة متبادلة . إن عالِم النفس كولد برونو Gold brunner يدّعي , بشيئ من التباهي , أن في إمكانه التوصّل بمدة قصيرة جداً , لا تتعدى بضع دقائق , إلى الوقوف على عمق ما يجول في خاطر الإنسان . طريقته لا تركز على طرح الأسئلة , إذ إن الاستفسار قد يُحدث شيئاً من الخوف عند الآخر فيضعه في موقف دفاع , بل إنّ أساسها قناعه راسخة عنده و هي أنه إذا أردنا أن نجعل الشخص الآخر يتعامل معنا بانفتاح و صدق , و علينا أن نبدأ و ننفتح عليه و نعبر له بصدق عن مشاعرنا .

إنّ الشخص يرجع صدى الشخص الآخر قال إذا كنت أريد أن أخرج من ظلمة سجني , و أبوح بأعمق ما عندي لشخص آخر , فالنتيجة دائماُ حتمية وفورية : يشعر الشخص الآخر بالقدرة على التحدث إلي عن نفسه بانفتاح و صراحة . و بعد أن يكون قد أصغى إلى سرّ عواطفي و عمقها , تنمو لديه الشجاعة على التعبير عن عمق عواطفه هو . هذا , في نهاية المطاف , ما نعني عندما نتكلم عن " اللقاء " .

Hobbit 05/09/2009 11:55

22 آب


لن يكون حبك فاعلاً إلاّ بقدر ما لديّ من الاستعداد كي أبوح لك بما في نفسي . و عندما تقول لي , بطريقة من الطرق , إنك تحبّني , فذاك يعني أنّك تعرفني , لأنّ حبّك لي يتضاءل بقدر ما أخفي عنك ذاتي . فباستطاعتك أن تحبّني حقاّ بقدر ما تتعرف إلى حقيقتي فقط .

إنهّ لحقيقة أنّ كلّ عمليّة اتّصال , يكثر فيها اللطف و يتضاءل الصدق , تقع في الإفراط العاطفيّ , و لكن في الصدق من دون لطف إفراط في القسوة . إنه لمن قواعد الحوار الأساسية أن يعبّر المرء عن عواطفه عندما يشعر بها و أن يوجّه التعبير إلى الشخص المعنيّ بها.

و لكن , في كلّ حال , يبقى تأثير اللطف كبيراً من خلال الطريقة التي يتمّ بها الاتّصال .

Hobbit 05/09/2009 11:58

23آب


يلا حظ روجيرز أنّ كلاًّ منّا غالباً ما يشبه في حياته ذاك الرجل الذي سقط في البئر و سُجن فيها , فنحسن بالوحدة و تفاهة الحياة أحياناً . و في و حدتنا نشعر بالقنوط و فقدان الأمل , و كأن البديل هو أن يموت كلّ منّا وحيداّ من دون أن يدري بوجوده أحد . و لكنّه يأبى ذلك فيعود يخبط بكفيه الداميتين جدران الناس الذي لجأ كلّ منهم إلى عالمه الخاص و أقفل الباب على نفسه , علّه يخترق جدار ذلك السجن فيصل عالمه بعالم آخر .

آنذاك لا بدّ و أنّ أحداّ سوف يصغي . و عندما يكون الإصغاء حقيقياً لا يكتفي مَن يصغي إليّ بأن يسمع ما أقول , بل هو يؤكّد لي أنّه يفهمني كشخص , أنّه يفهم ما أقوله و يعي بالأخصّ ما يجول في فكري و ما يخالجني من مشاعر . آنذاك أُحسّو كأنّ نسمة من الحياة جديدة سرت في عروقي لأنّ أحداً قد تعرّف إلى ما قاسيته و وقف على حقيقة وجودي و عمق مشاعري .

إنّ كلاّ منّا , كما قال أحدهم , هو أشبه بكائن مركّب تختلط في ذاته تأثيرات الأماكن التي لجأ إليها و الاختبارات الشخصية التي عاشها .

و كلّ منّا في ذلك أشبه بكمبيوتر جبّار سُجِّلت فيه ملايين الرسائل , و هذا ما حدث في عقلنا و في جهازنا العصبيّ , و بسبب من اللاوعي عندنا تزيد الأمور تعقيداً , إذ إنّ اللاوعي أشبه بمخزن كبير تراكمت فيه معطيات لا ندري وجودها فينا و هي لا تنفكّ تؤثّر في سلوكنا تأثيراً بالغاً

يخيّل إليّ أحياناً أنّ " الإصغاء و التعلّم " الذين نتكلم عنهما هما أشبه بقطع مفقودة من صورة مركّبة . عندما أصغي بصدق و اهتمام و يبوح الآخر لي بحقيقة ما من ذاته , قد لا أفهم من تلك الحقيقة إلاَّ القليل . و لكن إذا ما تابعت الإصغاء و استمرّ هو في البوح , تروح القطع تتركّز شيئاً فشيئاً أوضح و أكمل . طبعاً نحن لن نتمكن يوماً من الولوج إلى سرّ إنسان آخر لنفهمه فهماً كاملاً , و إنّنا في الحقيقة لعاجزون حتّى عن فهم أنفسنا على كامل حقيقتها . و لكن إذا ما أحسّ الإنسان في اعماق نفسه بأنّ شخصاً آخر قام بجهد خاص ليفهمه و يقبله , فلا بدّ و أن يُحدث ذلك الجهد تغييراً عميقاً في شخصيّته . إنها في الحقيقة لهدية ثمينة جداً .

Hobbit 05/09/2009 12:01

24 آب

إذا كان لديّ النضج الكافي لكي أقلع عن إصدار الأحكام , فسلوكي هذا سيظهر جليّاً . و إذا أردت أن أعرف نيّة شخص أو أعمق دوافعه أو ردّة فعله فالطريق واحد , عليّ أن أسأله هو ( أرجو ألاَّ تمرّ يهذا القول مرور الكرام , لأنك أنت أيضاً لا تملك عيوناً تُخفي و راءها آلة تصوير بالأشعة ).

و ربّما كان من المفيد هنا ان نذكر بالفرق بين الحكم على الشخص و الحكم على عمله . فإذا رأيت شخصاً يسرق فلوساً , بإمكاني أن أحكم أنّ هذا العمل خطأ أدبي , و لكني لا أستطيع أن أحكم على الشخص نفسه . الله و حده يمكنه أن يحكم و يحدّد المسؤولية . و لكن إذا تعذّر الحكم , في المقابل , بصوابية العمل أو عدم صوابيته , استحال الكلام عن الموضوعية في علم الأخلاق . نحن لا نريد أن نقع في المقولة التي تّعي بأنّ الحقيقة تكمن فقط في نظرة الشخص إلى الشيء , و أنّه لا وجود لأمر صحيح أو غير صحيح بشكل موضوعي . و لكن , في كلّ حال , يبقى الحكم في مسؤولية الأشخاص من نطاق عمل الله .

Hobbit 05/09/2009 12:03

25 آب

ما أشد افكارنا و مشاعرنا تشعُّباً , و كأنَّ كلاًّ منّا عالم في ذاته , يختلف عن سواه حتى إنّه يجعل و لوج أحدنا إلى عالم الآخر غاية الصعوبة , لا سيّما عندما نحاول أن نقف على حقيقة ما يجول في خاطر الآخر من مشاعر و أفكار . لا يمكنني أن أنفذ لحقيقة ما أنت عليه من خلال ما هو ظاهر على وجههك .
لقد قدمنا مرة ( نحن جان و لوريتّا ) سلسلة من الأحاديث في أوستراليا . على مدى ثلاثة أيّأم متتالية . و غالباً ما تحدثنا معاً خلال هذه الفترة عن رجل جلس في مؤخرة الغرفة من دون أن تظهر على محياه أيّة علامة و لا هو ابتسم لما كنّا نظنها نكات مضحكة جداً . فظنّنا أنّ شيئاً من أحاديثنا لم يصله و لا أثّرنا فيه بشيء.
و عند نهاية اللقاءات أتى إلينا , و بعد أن عرّف نفسه بالاسم و العمل ( و هو كان طبيباً ) لآراح يبكي : و بعد أن استعاد بعضاً من هدوئه قال لنا كم كان سعيداً و هو يصغي إلينا و كم أنّ أحاديثنا فتحت أمامه آفاقاً جديدة , و أنّه سوف يشرك بعضاً ممَّن يحب بتلك الأفكار و المشاعر التي تركت في نفسه أطيب الآثار .
نظر أحدما إلى الآخر و كلّ منّا يردّد في اعماق نفسه : " لا يمكنك أن تعرف ما يجول في ذذهن الإنسان و لا أن تحكي على نواياه , و إن حاولت فسوف تجد نفسك مخطئاً و سيكون خطأك في الغالب فادحاً " .

Hobbit 05/09/2009 12:07

26 آب

كلّنا يعرف أهميّة " الحضور " الشخصيّ أهميّة مجالسة شخص آخر . و هذا لا يشير إلى مجرد " المجاورة " , بل يعني تلاقياً في العمق و يحتم وعياً خاصاً و تركيزاً على ما يشرك فيه أحدنا الآخر .

و لكنّه من الصعب جداّ أن أُوهم الآخر بأنّني أصغي إليه و أنا منشغل عنه في أمور أخرى . إنّه يُحس في أعماق نفسه أنّني لست حاضراً . الحدث يدرك مالا تبصره العين . فإذا كنت تتساءل في نفسك كم سيطول حديثي , لا بدّ و أن أشعر بذلك . و إذا كنت تفضل القيام بعمل ما بدل أنّ تصغيّ إليّ فلن يخفى ذلك عليّ

أنا لن أخاطر في الانفتاح إذا ما شعرت بأنك منشغل عنّي في أمور أخرى و لن أبادر في البوح لك بما في قرارة نفسي و أنت تراقب الوقت أو تحاول التطرّق إلى موضوع آخر . و لن أشركك في فرحي أو نجاحي إذا كنت غير مستعدّ لأن تشاطرني بهجة العيد .

التأهب المستمر لأن أكون فيما هو للآخر ! هذا في الحقيقة ما حاولنا الإشارة إليه . كلّنا اختبرنا الشعور بالخيبة عندما نطرق باباً و لا نلقى جواباً . عندما أهتف إلى صديق , و في النفس حاجة ماسّة إليه , فأجده منشغلاً , و أعيد الكرّة مراراً فأسأم الصوت الذي يردّد صدى الانشغال عنّي و في نفسي توق عميق إلى أن أشرك ذاك الصديق بما يجول في نفسي . و بعد أن أكرّر محاولة الاتّصال و ألقى تكراراً الانشغال , أصرف النظر عن المشاركة و أحتفظ بما في نفسي لنفسي .

Hobbit 05/09/2009 12:09

27 آب

هنالك مثل هنديّ يذكرنا بأنّنا , إذا شئنا أن نفهم إنساناً آخر , علينا أن ننتعل حذاءه و نسير فيه مسافة ميل . و نحن نود ان نذكر , إضافة الى هذا المثل , أنّه لا يمكنني أن أنتعل حذاء شخص آخر من دون أن أخلع حذائي أولاً . عليّ أن أقوم بجهد حثيث كي أتحرر من ذاتي لأتمكن من الإصغاء إلى الآخر ,و من الولوج الى عمق ذاته و الوعي لما يجول في نفسه . إن هذا الأمر في غاية الصعوبة ,و لكن التمرس على الإصغاء بعمق يمكنّني , في نهاية المطاف , من تحقيق نجاحات ما كنت لأحلم بها في مواكبة الآخرين و الولوج إلى عمق همومهم و متاعبهم . و هذه من الأمور التي يقدرها الأهل و الأصدقاء و الغرباء على السواء .

تعال إذاً نتبادل الأحذية و نسير معاً و لو ميلاً واحداً!.

Hobbit 05/09/2009 12:16

28 آب

الإصغاء وحده غير كاف , بل يجب أن تترسّخ عندي الإرادة على التعلّم . و هذا ليس بالأمرالسهل لأنّه يحتّم عليّ أن أخرج من ذاتي , أن أضع جانباً , لبعض الوقت , ما أنا عليه , لأسير نحوك و أحاول بصدق أن أدخل في صميم العالم الذي هو عالمك و أعرب بصدق عن تفهّمي إيَّأك . آنذاك ستشعر بالارتياح و الامتنان , ذلك لأنّني أصغيت إليك لألج إلى عمق حقيقة ذاتك . و لم يقتصر إصغائي على الحاجة إلى الإجابة بسطحيّة عمّا أوحى به إليّ للوهلة الأولى ما تلفظت به من كلمات أو أعربت عنه من مشاعر .

يقول كارل روجرز Carl Rogers , أحد أهمّ علماء النفس الأميركيين في القرن العشرين , إنّنا نحن البشر العاديّين أشبه بشخص سقط في بئر عميقة لا ماء فيها . و في عمق البئر أخذ يعيش حالات من القلق العميق و اليأس لشعوره بأنّه لن يتمكن من النجاة ... فراح يضرب بكفيه جدار البئر علَّ أحداً في الخارج يسمع . بدا له أن كلّ محاولاته لا بدّ فاشلة ... و أنّ أحداً سيكتشف يوماً أنّ إنساناً سقط في هذه البئر وقضى و لم يدر بوجوده أحد !و لكنه عاد يطرق الجدران و يداه تدميان ... إلى أن سمع في آخر المطاف صوتاً من خارج جدران البئر , فأحسّ و كأنّ فرحاً كبيراً قد تفجر في نفسه و خالجه شعور بالارتياح لأنّ أحداً أخذ علماً بوجوده حيث هو , و لسان حاله يقول : الشكر لله على أنّ أحداً أحسّ بوجودي .

Hobbit 05/09/2009 12:18

29 آب

غالبا ًما نقارن بين الشعور الصادق مع الآخر من جهة , و الشفقة أو الامبالاة من جهة أخرى ففي الشفقة أشارك الآخر في شعوره و آلامه و لكن مع شيء من نظرة فوقيّة . لذلك نجد أنّ الشفقة موقف مرفوض في غالبيّة الأحيان .

و اللامبالاة أيضاً أشبه بالباب المغلوق , فكأنّك تقول للآخر : " ما أنت عليه لا يهمّني " . و هذا الموقف غالباً ما يكون جارحاً و مؤلماً .

أمّا في الشعور الصادق مع الآخر فإنّني أشاركه في عمق خبرته الشخصيّة و أفكاره و مشاعره و مواقفه , و أحاول أن أضع نفسي في مكانه . فمن خلال قدرتي على التفكير و استعمال المخيّلة , التقي الآخر في أفكاره و تطلّعاته , و أشاطره مشاعره . إنّني أحاول أن أعيش الخبرة التي يمّر هو فيها .

إنّه الولوج إلى عمق كيان الآخر , حيث يصبح لهذا الكيان صدى حقيقيّ في نفسي . و إنّ هذه القدرة , ككلّ تلك القدرات التي تشدّ أوصال التواصل بين الناس , فهي تخضع لسنّة التطوّر و النموّ . و أهمّ ما يحول دون ذلك الشعور الصادق مع الآخر هو اعتقادي بأنّه صورة عنّي , يرى الأمور كما أراها و يفكّر كما أفكّر أنا , و يواجه الحياة تماماً على طريقتي . لذلك وجب عليّ , إذا ما أردت أن أطوّر قدرتي على ذلك الشعور , أن أعي تماماً غيريّة الآخر و فرادة كلّ إنسان , و أن أدع جانباً غرائزي الشخصيّة و المقياس الذي أقيس به الأمور , لأعي ما يدور في فلك الآخر و ما يجول في نفسه . فهذا الشعور الصادق يشكلّ القدرة الأهمّ التي ترتكز إليها عمليّة الإصغاء إلى الآخر .

Hobbit 05/09/2009 12:19

30 آب

مخاوف متعدّدة تبقينا في غربة شجننا المنفرد . عند بعضنا خوف من الانهيار و الإجهاش بالبكاء كالطفل . و عند بعضنا الاخر تردّد و خشية من أن الآخر لن يقدّر أهميّة سرّي . نحن نتصوّر عادة كم يكون ألمنا عميقاً إذا ما قوبل سرّ بُحنا به باللامبالاة , بعد التفهمّ , بالصدمة , بالغضب أو الاستهزاء . قد يحنق الشخص الذي ائتمنته على سرّي فيبوح به لمَن لا يجوز أن ينكشف لهم .

ربَّما حدث لي يوماً أن أخرجت بعضاً منّي من العتمة إلى الضوء لتراه عين شخص آخر .

و ربمَّا تعذّر على ذلك الشخص تفهّمي , فأفلت مسرعاً , و كلّي ندم و ألم , عائداً إلى عزلتي العاطفية الخانقة .

و ربمَّا حدث , في لحظات أخرى , أنّ أحداً سمع بسرّي فتقبّله بيدين وديعتين و احتضنه , و ما زلت أذكر ما قاله لي مشجّعاً و في صوته نغمة المحبّ , و في عينيه نظرة المتفهّم .

أنا ما زلت أذكر ذلك البريق في عينيه , و كيف احتضن يدي بين يديه ضاغظاً عليها بلطف ليقول لي إنّه قد تفهّمني . كان ذلك اختباراً عظيماً شعرت على أثره بحريّة كبيرة و دفقة من الحياة جديدة . أن يصغي إليّ إنسان و يحترمني بجدّية و يفهمني , فذاك يلّبي حاجة هائلة عندي .


الساعة بإيدك هلق يا سيدي 04:14 (بحسب عمك غرينتش الكبير +3)

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
ما بخفيك.. في قسم لا بأس به من الحقوق محفوظة، بس كمان من شان الحق والباطل في جزء مالنا علاقة فيه ولا محفوظ ولا من يحزنون

Page generated in 0.05656 seconds with 11 queries