عرض مشاركة واحدة
قديم 05/06/2008   #26
شب و شيخ الشباب Seth
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ Seth
Seth is offline
 
نورنا ب:
Jun 2006
مشاركات:
197

افتراضي


قراءة جديدة في أوراق الأمويين

للقارئ الآن وهو ينتقل معنا من عصر الراشدين إلى ما يليه، أن يهيئ ذهنه للدعابة، ووجدانه للأسى، فحديث ما يلي الراشدين كله أسى مغلف بالدعابة، أو دعابة مغلفة بالأسى، أما المجون فأبوابه شتى، وأما الاستبداد فحدث ولا حرج.

ليسمح لنا القارئ في البداية أن نقص عليه ثلاث قصص موجزة، يفصل بينها زمن يسير، واختلاف كثير، وهي إن تنافرت تضافرت، مؤكدة معنى واضحاً، وموضحة مساراً مؤكداً، ومثبتة ما لا يصعب إثباته، وما لا يسهل الهروب منه.

القصة الأولى:
عام 20 هـ وقف عمر خطيباً على منبر الرسول في المدينة، وتحدث عن دور الرعية في صلاح الحاكم وإصلاحه فقاطعه أعرابي قائلاً: والله لو وجدنا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا، فانبسطت أسارير عمر، وتوجه إلى الله حامداً شاكراً، وذكر كلمته المأثورة المشهورة: الحمد لله الذي جعل في رعية عمر، من يقومه بحد السيف إذا أخطأ …


القصة الثانية:
عام 45هـ قال ابن عون: كان الرجل يقول لمعاوية: والله لتستقيمن بنا يا معاوية، أو لنقومنك فيقول: بماذا؟ فيقول: بالخشب فيقول: إذن نستقيم. (تاريخ الخلفاء للسيوطي ص195)


القصة الثالثة:
عام 75هـ خطب عبد الملك بن مروان، على منبر الرسول في المدينة، بعد قتل عبد الله بن الزبير قائلاً (والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه).


ثم نزل ثلاث قصص موجزة، لكنها بليغة في تعبيرها عن تطور أسلوب الحكم، واختلافه في عهود ثلاثة، أولها عهد عمر بن الخطاب، درة عهود الخلافة الراشدة، وثانيها عهد معاوية ابن أبي سفيان مؤسس الخلافة الأموية، وثالثها عهد عبد الملك ابن مروان، أبرز الخلفاء الأمويين بعد معاوية، وأشهر رموز البيت المرواني، الذي خلف البيت السفياني بعد وفاة معاوية بن يزيد، ثالث الخلفاء الأمويين.

أما القصة الأولى:
فهي نموذج لصدق الحاكم مع الرعية، وصدق الرعية مع الحاكم، ونحن لا نشك ونحن نقرأها في أن الأعرابي كان صادقاً كل الصدق في قوله، وأنه كان يعني تماماً ما يقول، وأنه كان على استعداد بالفعل لرفع السيف في وجه عمر وتقويمه به إن لزم الأمر ونحن لا نشك أيضاً في أن عمر كان يدرك تماماً أن الأعرابي صادق في مقولته، وأنه لهذا سعد، ومن أجل هذا حمد الله، وكان في سعادته وحمده صادقاً كل الصدق، مع الله، ومع نفسه، ومع الأعرابي، وباختصار فنحن أمام حوار تؤدي فيه الكلمات دورها الطبيعي، حيث تعبر عن دخائل النفوس، في دقة، ووضوح، واستقامة.

وأما القصة الثانية :
فهي نموذج رائع لخداع الكلمات حين يصبح للعبارة ظاهر وباطن، وللكلمة مظهر ومخبر، فالرجل في تهديده أقرب للمداعبة، وأميل إلى الرجاء، ومعاوية في رده عليه يحسم الموقف بتساؤله (بماذا)؟ وهو تساؤل يعكس ثقة عالية في النفس، وهي ثقة تهوى فوق رأس الرجل ثقيلة وقاطعة، شأنها شأن السيف الحاسم البتار، وما أسرع ما ينسحب الرجل سريعاً محولاً الأمر كله إلى الدعابة، وهنا يدرك معاوية أن الرجل قد ثاب إلى رشده، فيعيد السيف إلى غمده الحريري، وينسحب هو الآخر في مهارة وخفة، مرضياً غرور الرجل، ما دام الخشب هو السلاح، وما دام القصد هو المزاح، والقارئ للحوار لا يشك في أن الرجل قال شيئاً وقصد شيئا آخر، وأن معاوية قال شيئاً وقصد شيئا آخر، وأن كلا الرجلين فهم قصد الآخر، فكـَّر في الوقت المناسب، وفـَّر في الوقت المناسب وأن الرجل في كـّرِه نحو معاوية، وفي فـّره منه لم يكن أبداً كجلمود صخر وإنما كان مثل كرة القش، ظاهرها متماسك وباطنها هش.


وننتقل إلى القصة الثالثة:
وهي أقرب من القصة الأولى في وضوحها وصراحتها واستقامة ألفاظها، غير أنها هذه المرة تعلن عكس ما أعلنه عمر، وتهدد بالقتل في حسم وصراحة، ليس لمن يخالف الأمير ويعترض عليه، وليس لمن يرفع في وجه السيف أو حتى الخشب، بل لمن يدعوه إلى(تقوى الله) وقد خلد عبد الملك نفسه بذلك، فوصفه الزهري بأنه أول من نهى عن الأمر بالمعروف.


هذه قصص ثلاث توضح كيف تطور الأمر من خلافة الراشدين إلى خلافة معاوية، الرجل المحنك المجرب، الناعم المظهر، الحاسم الجوهر، المؤسس للملك، بكل ما يستوجبه التأسيس من سياسة وحنكة، ومظهر ومخبر، ثم كيف أصبح الأمر عندما استقر الملك، ولم يعد هناك داع للخفاء، أو مقتضى للخداع أو المداهنة، وبمعنى آخر فإن القصص الثلاث تنتقل بنا بين حالات ثلاث، أولها العدل الحاسم، وثانيها الحسم الباسم، وثالثها القهر الغاشم.
وكل ذلك خلال نصف قرن لا أكثر، وقد رأينا أن نوردها في بدء حديثنا عن خلافة الأمويين لدلالتها، حتى يخلد القارئ معنا إلى قدر من الرياضة الذهنية والابتسام، بعيداً عن صرامة السرد ومرارة الحقائق.




لا اله الا الانسان
نشأ الدين عندما التقى أول نصاب بأول غبي
Religion can never reform mankind , because religion is Slavery
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.03518 seconds with 11 queries