عرض مشاركة واحدة
قديم 02/03/2009   #3
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي


إذا كان رفض هذا التصور السلبي للرغبة يمثل الجانب الأول، فإن الجانب الثاني يتمثل في رفض كل نظرة اختزالية للرغبة. رأينا أن موقف التحليل النفسي مسكون بهوس إرجاع كل رغبة إلى الحقل الماضوي، وإلى الحقل العائلي، إلى الأم، وفي نهاية المطاف إلى أوديب. يعمل كل من دولوز وغاتاري على قلب هذا التصور، فعوض أن تحيل الرغبة على الماضي، أصبحت تحيل على المستقبل. يقول دولوز : « إننا نقول على العكس من ذلك إن اللاشعور لا تملكونه، ولا تملكونه أبدًا، إنه ليس بـ"قد كان" التي ينبغي بواسطتها أن تصير الأنا على ما هي عليه. ينبغي قلب الصيغة الفرويدية. اللاشعور ينبغي أن تُنتجوه. إنه لا يخص بتاتًا الذكريات المكبوتة، ولا حتى الاستيهامات. إننا لا نعيد إنتاج ذكريات الطفولة، إننا ننتِجُ بواسطة كتل من الطفولة تنتمي دائمًا إلى اللحظة الراهنة كتلاً من صيرورة الطفل »29. يعني ذلك أن الرغبة مقترنة دائمًا مع الخارج، في علاقة مع الخارج. فكل موضوع يفترض استمرار مجرى في علاقة مع أشياء خارجية، مع عوالم ممكنة، وأزمنة آتية. « الرغبة آلة، تركيب آلات، تنسيق آلي - آلات راغبة ». يعني ذلك أن اللاشعور ليس معطى، ولا يتمتع بسبق وجودي على الفرد. وإنما هو لا شعور يجب إنتاجه، يجب بناؤه. لنعد إلى الطفل هانس. فهانس لم يكن يرغب في الأم ولا في الأسرة، وإنما كان يريد الخروج من بيت الأسرة، من حقلها. « إنه يريد نزول الدرج قصد اللحاق بصديقته مارْيِيدَل وممارسة الجنس معها. إنها حركة الخروج من المنطقة التي من خلالها تسعى آلة - طفل الدخول في تنسيق جديد »30. لا يتعلق الأمر إذن بنظرة اختزالية، بل بنظرة تركيبية، بنائية. فالرغبة تأسيس وبناء وتنسيق. وهي رغبة تنسيقية، بمعنى أنها رغبة تقترن دائمًا بأشياء أخرى، بعناصر من طبيعة أخرى تشكل امتداداتها. فالطفل هانس أراد الخروج من موطن الأسرة، من موطن الأم والأب لينساب في تنسيق آلي جديد مع الشارع والطفلة مارْيِيدَل وعملية ممارسة الجنس. فعوض اختزال رغبة هانس في الماضي، في الأسرة، يتم ربطها، في تصور دولوز وغاتاري، باقترانات خارج مجال الإحالة التقليدية. لا يتعلق الأمر بإحالة، وإنما باقتران وتنسيق. « لا وجود لذات الرغبة، مثلما أنه لا وجود لموضوع الرغبة. الرغبة هي نسق العلامات التي لا دلالة لها والتي يتم بواسطتها إنتاج سيولات اللاشعور في حقل اجتماعي. لا وجود لأي بروز للرغبة لا يضع البنيات القائمة موضع سؤال، وذلك بغض النظر عن المكان الذي يحصل فيه كعائلة صغيرة أو مدرسة حي »31. تصبح الرغبة إذن في محيط مفتوح على المجال السياسي والاجتماعي. تصبح داخل علاقات الاقتران والتنسيق التي تجعل منها بعدًا أساسيًا في الخلق والإبداع. وكما يقول هنري ميلر : « من عالم الأفكار هذا الذي نتمرغ فيه، ينبغي أن يخرج عالم جديد ؟ لكن هذا العالم لا يمكنه أن يظهر إلا في حدود إمكانية تصوره. ومن أجل تصوره، ينبغي أولا الرغبة فيه... الرغبة غريزية ومقدسة، وهي وحدها التي تمكننا من تحقيق الحَبَلَ بلا دنسَ »32. لا شيء يتحقق من دون رغبة. لذلك فـ« الرغبة ثورية، لأنها تريد دائمًا مزيدًا من الاقترانات والتنسيقات »33. وخطأ التحليل النفسي هو جهل هذه الاقترانات والتنسيقات واختزال الرغبة في أسطورة الإحالة.
هذا عن الانتقاد الأول الذي ينتقد به كل من دولوز وغاتاري التحليل النفسي، وهو انتقاد قائم على نسف الأساس الذي يقوم عليه التحليل النفسي، وهو تصور معين لمفهوم الرغبة. أمَّا الانتقاد الثاني، فإنه يتعلق « بالطريقة التي يمنع بها التحليل النفسي تشكل الملفوظات »34. يبدو هذا الانتقاد أيضًا انتقادًا غريبًا، خصوصًا إذا علمنا أن فرويد عند تأسيسه لمجال التحليل النفسي حرص على تمييزه عن مجال التنويم المغناطيسي الذي كان سائدًا آنذاك. والسبب الذي دفعه إلى ذلك هو كون طرق علاج التنويم المغناطيسي طرقًا إيحائية، أي طرقًا تمنع المُعَالَج من الملفوظ والتعبير عن عواطفه ومعاناته. هذا في حين أن طرق العلاج التي يمارسها التحليل النفسي طرق محايدة، إن صح القول. « إن الطريق الذي يسلكه التحليل النفسي يتميز عن كل الطرق القائمة على الإيحاء، والإقناع، وطرق أخرى، في كونه لا يريد أن يقمع عند المريض أي ظاهرة نفسية عن طريق سلطوي. إنه يبحث عن سبل الولوج إلى أصل الظاهرة [النفسية] ونسفها من خلال تحويل دائم لشروط نشأتها »35. لا تهدف طرق العلاج في التحليل النفسي إذن إلى ممارسة أي شكل من أشكال القمع أو السلطة على المريض، بقدر ما تهدف إلى منحه فرصة التعبير عن معاناته وماضيه الذي هو في الأصل « الخزان الوحيد » لكل ما يحصل في الحاضر وفي المستقبل. إنه يهدف إلى جعل المريض، أي المُحَلَّل نفسيًّا، يعبر عن انفعالاته وصراعاته بكل حرية وتلقائية.
لكن هل يحقق التحليل النفسي ذلك فعلاً ؟ هل يمَكِّن المريض من الحديث والتلفظ حقًا ؟ ذلك هو السؤال الذي يطرحه كل من دولوز وغاتاري. يذهب الفيلسوفان إلى أن التحليل النفسي لا يعمل سوى على قطع الطريق أمام الملفوظات، أمام المريض للإفصاح عن تلفظاته. والسبب هو أن التحليل النفسي يختزل كل ما يقوله المريض في ذات مُتَكَلِّمة. « ففي الوقت الذي نقتنع فيه بأنه [أي المريض] ينطق بتلفظاته المُعبِّرة عن فردانيته، نسحب منه شرط التلفظ. فأن نُسْكِتَ الناس، أن نمنعهم من الكلام، وبالخصوص عندما يمارسون الكلام، هو أن نعمل كما لَوْ لم يقولوا شيئًا : ذلك هو حياد التحليل النفسي الرائع »36. لنعد إلى الحالات المرضية التي حللها كل من فرويد وميلاني كلاين. فعندما أراد الطفل هانس الالتحاق بصديقته في بهو العمارة لممارسة الجنس معها، فإن فرويد لم ير في ذلك سوى رغبة في الأم، أي أن الملفوظ الذي يعبر عنه هانس هو ملفوظ أسروي محض، ملفوظ يعود إلى الأسرة، وفي نهاية المطاف إلى ذات متميزة وهي الأم. وكذلك عندما يقول « أطفال ميلاني كلاين، "بطن ما"، "كيف يكبر الناس ؟"، فإن ميلاني كلاين تفهم "بطن أمِّي"، "هل سأكون كبيرًا مثل أبي ؟". وحينما يقولون "هتلر ما"، أو "تشرشل ما"، فإن ميلاني كلاين ترى في ذلك امتلاك الأم القبيحة أو الأب الطَّيِّبِ »37. هكذا نرى أن هؤلاء الأطفال لا يتحدثون إلا عن أسماء غير معرفة، أي عن أسماء لا تحيل على شخص معين ومحدد. فالملفوظ التالي « بطن ما » يحيل على بطن بدون تعريف، أي دون أن يحيل على ذات معينة، الأم مثلاً. مثلما أن الملفوظ التالي «كيف يكبر الناس » لا يُحيل على ذات معينة، وعلى شخص معين. وإنما هما ملفوظان يحيلان على أشياء غير معرفة، على أحداث غير معرفة، ولا يمكن اختزالها في ذات محددة ومعرفة. لكن ميلاني كلاين لا ترى إلا المُعَرَّف. ويجب أن يكون هذا المُعَرَّف هو أبي أو أمي، أي أن يكون من داخل العائلة. إننا لا ننفصل في التحليل النفسي عن أسطورة الإحالة. هذه الرؤية الاختزالية التي نقضها دولوز وغاتاري لكونها تمنع الرغبة من التحقق، ينقضانها ثانية لكونها تمنع الملفوظ من التحقق، أي تمنع من فهم وإدراك المعنى الفعلي الذي يتفوه به المريض.
إن الأمر الذي يآخذه كل من دولوز وغاتاري على التحليل النفسي هو كونه ظل رهين تصور ميتافيزيقي يجعل من الذات هي المركز، أي أن التحليل النفسي لم يستطع التخلص من الكوجيطو الديكارتي على اعتبار أنه لم ينفصل عن الذات العارفة والذات المتكلمة. فهذا الاختزال هو الذي يرفضه الفيلسوفان.
ولعل هذا المجال هو الذي حقق فيه دولوز وغاتاري أكبر إنجاز، وربما هو الذي تطلب منهما أكبر عناء لتجاوز التصور الاختزالي الموروث عن الميتافيزيقا الديكارتية. وهو المجال الذي يشتركان فيه مع أغلب الفلاسفة النيتشويين المعاصرين من أمثال موريس بلانشو وميشيل فوكو وغيرهما ممن حاولوا تأسيس تصور أصيل للملفوظات38. فعندما يتكلم المريض والمُحَلَّلُ، فإنه لا يتكلم من حيث هو ذات عارفة، وذات مستقلة عن العالم المحيط بها. وهو لا يحيل على ذات مُعَرَّفة حتى وإن كانت ذات الأم أو الأب. إنه لا يتكلم إلا من حيث هو خط مقترن بخطوط متعددة ومتنوعة. ولعل المفهوم الجديد والأصيل الذي يقدمه كل من دولوز وغاتاري هو مفهوم التنسيق. وهو في الواقع أهم إسهام لكتاب ألف سطح الذي جاء ليعوض مفهوم الآلة الراغبة، الذي كان أحد المفاهيم الأساسية لمؤلف أوديب المضاد. ما التنسيق ؟ التنسيق مفهوم أحدثه دولوز وغاتاري لدراسة مجالات عديدة، مثل دراسة المجتمعات والتشكلات المجتمعية والاقتصادية والسياسية، ومجال اللسانيات كما سنرى ذلك. نحن نعرف أن التوجه الماركسي يقسم المجتمع إلى طبقات يكون الصراع هو الأساس الذي يربطها، ويكون هو الطاقة التي تحرك المجتمع. فالطبقات هي الصور والأشكال التي من خلالها يمكن فهم طبيعة مجتمع ما، مثلما أن ما يعرف بعلم الاجتماع البرجوازي لا يخرج هو ذاته عن هذا التصور. فهو يقسم المجتمع إلى مؤسسات باعتبارها صورًا متشكلة لها إطارها، مثل المدرسة والثكنة والإدارة، إلخ. على الرغم من اختلاف وتقابل هاتين الفلسفتين، الماركسية والبورجوازية، فإنهما تفترضان التصور الواحد ذاته. إذ تقومان بتقسيم للمجتمع وفق أشكال وصور قائمة الذات، أي أشكال متشكلة سلفًا. هذا في حين أن فلسفة دولوز وغاتاري لا تقول بصور متشكلة، وإنما بالتنسيق. فالمجتمع، أي مجتمع، هو عبارة عن تنسيق، بل هو عبارة عن تنسيقات.
والتنسيقات ليست صورًا ولا أشكالاً كما هو شأن الطبقات أو المؤسسات، سواء في التصور الماركسي أو التصور الذي يطلق عليه اسم التصور البرجوازي. التنسيقات من طبيعة مغايرة. إنها أشياء من دون أشكال، ومن دون صور. التنسيق يتكون من الصيرورات الدائمة ومن التحولات المستمرة التي تخترقه كل لحظة وهي تكون في حالة تحول دائم. فالتنسيقات ليست تمثلاً لشيء، وإنما هي تحول لشيء ما. يقول دولوز : « ستكون التنسيقات من حيث مضمونها مليئة بالصيرورات والتكثيفات، بالتحركات التكثيفية والتعدديات العادية (رهوط أو جموع أو أنواع أو أجناس أو شعوب أو قبائل...) »39. لا علاقة للتنسيقات إذن بصور وأشكال، وإنما بتكثيفات وتعدديات وتحركات. ليست هذه التكثيفات وهذه التعدديات صورًا وأشكالاً قائمة الذات، وإنما هي سيولات غير متشكلة، مثل الديمومة التي يتحدث عنها برغسون. إنها اختلاف محض، حسب التصور الذي جاء به كتاب الاختلاف والتكرار لجيل دولوز. هكذا نرى أننا لسنا أمام تصور تقليدي يفترض صورًا قائمة الذات، وإنما أمام تصور يرتكز على فلسفة الاختلاف ليجعل من التنسيق المفهوم الأصيل الذي يحقق هذا الاختلاف في أسمى قوته.

شُذَّ، شُذَّ بكل قواك عن القاعدة
لا تضع نجمتين على لفظة واحدة
وضع الهامشيّ إلى جانب الجوهريّ
لتكتمل النشوة الصاعدة
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.05645 seconds with 11 queries