عرض مشاركة واحدة
قديم 19/09/2009   #8
شب و شيخ الشباب Nasserm
عضو
-- زعيـــــــم --
 
الصورة الرمزية لـ Nasserm
Nasserm is offline
 
نورنا ب:
Aug 2009
المطرح:
نقطة زرقاء باهتة
مشاركات:
998

افتراضي


من هو غير الطبيعي؟.. إخاد أم محمد شوق أم ليندا أم أنا ؟ هناك أيضاً صديقتي الصحفية نور التي تشبه ميغ رايان، وهناك المزيد ...المزيد.

* * *

هذا الفجر .. أستيقظُ كوحيدٍ في دمشق، الهواء البارد يدور حولي ويأخذني إلى حيث يجب أن أذهب.
الطريق إلى الأربعين، يجب أن تمرّ من حارة التغالبة، قرب الشيخ محيي الدين ابن عربي، ثم ترتفع قليلاً إلى فوق على ضلع قاسيون، ثم تختفي البيوت ويبدأ الدرج العاري بين الصخور، حيث أن التفاتة واحدة إلى الخلف ستجعلك تعدل عن إكمال مشوارك، سترى الشام كما هي، قبل أن ترتفع السحابة اليومية من الدخان والكربون ..لتجعل كل شيء رمادياً.
إذا جلست على صخرةٍ ما، لتدخّن سيجارة ستراقب ما يحدث قرب فندق الشام، وستتذكر كيف جعل أحمد معلا ، مقهاه القديم، مرسماً للوحاتٍ يصنعها من الورق المجعد والقهوة، في طريقه إلى الشهرة ..
وسترى المثلثات فوق الجامع الأموي، وقوس باب توما، وسور دمشق الذي تسلّم عليه كلما عبرتَ قربه وتلمس أحجاره الحية، وستلمح ما يطير من سنونوات فوق مدرسة التجهيز قرب حديقة فكتوريا، والتكية السليمانية ومآذنها وقبابها الصغيرة،والجامعة، ولن تحتاج إلى عدسات مكبرة لتقرأ ما كتب على قبور موتى المدينة، من معاوية بن أبي سفيان إلى نزار قباني وابن قيم الجوزية والرئيس شكري القوتلي وصلاح الدين الأيوبي.
لن يسبقك أحد إلى الأربعين...الآن،تحتك، سيظهر مقام الشيخ خالد ذي الجناحين..النقشبندي الكبير الأول ...والشيخ إبراهيم الناريّ: اللهم صلّ صلاةً كاملة وسلّم سلاماً تاماً على سيدنا محمد الذي تنحل به العقد وتنفرج به الكرب وتقضى به الحوائج وتنال به الرغائب وحسن الخواتيم، ويستسقى الغمام بوجهه الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين في كل لمحة ونفَس، وعدد كل ما هو في علم الله وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين...الصلاة النارية التي اخترعها الشيخ إبراهيم ...
حين ستتذكر ذلك...ستتذكر معه أولياء الصالحية، وظهوراتهم في الليالي، بين الناس، أمرٌ عاديّ ومألوفٌ ولا يتوقف عنده أحد..أن يقول لكَ أحدُ سكان الصالحية أنه رأى ليلة الأمس شيخاً يطير من سطح إلى سطح، وآخر يعبر حافة جدار شاهق في ذهابه إلى العتمة...يروون ذلك وهم يتناولون الفول مع خبز الصاج ...وينتقلون إلى مواضيع أخرى ...
يرن الموبايل ـ لم أعد أذكر هل كنت أملك جهاز موبايل وقتها أم لا ـ على كل حال، سيرن الموبايل ...أنظر إلى الرقم ..إنه إخاد ...لن أجيب..ماذا يريد في السادسة صباحاً ؟...
المهم أنه أخرجني من تأملي..سأتابع الصعود إلى الأربعين ...يرن الموبايل مرة أخرى ...لن أجيب ...سأرى من المتصل لابد أنه إخاد ..لا ...رقم جديد...قد يكون اتصل من رقمٍ آخر كي يتمكن من الإيقاع بي..يهوديّ...لن أجيب ...أكاد أصل ...ها هو المقام يقترب، والدرجات انتهت..أصبح عليّ أن أمشي فوق أنبوب الماء الذي يأتي من الأعلى من الأربعين ...وزلة قدمٍ واحدة ستهوي بي إلى الأسفل إلى حضن المدينة التي أتعشّقها.

* * *

ـ نور ستتكفل بكل شيء لا ينشغل بالك...
ـ هل اتفقتِ معها على ذلك ؟
ـ نعم ..وهي تنتظرنا قرب باب المتحف..
ـ لماذا تنتظرنا ؟..لم لا تدخل قبلنا ..
ـ لا أعرف...هي فضّلت ذلك مع أني أخبرتها بأنك تعرف الطريق إلى دورا أوروبوس...

* * *

اسمع إخاد ...لطالما شدّني سؤال حول يهود الشرق، وفكّرت كثيراً بأناس مثل شحاته هارون ولد شحاتة هارون آ..لا تعرفه ؟! ولد في القاهرة لأبوين مصريين يهوديين، أصوله سورية، وجاء أجداده لمصر في القرن التاسع عشر، وعمل والده (الخواجة هارون) ـ كما كان يطلق المصريون على اليهود في أوائل القرن العشرين ـ بائعا في محل (شيكوريل) لأزياء الملابس.
بعد ذلك أرسله والده إلى مدرسة (الفرير الكاثوليكية)، ولما وجده لا يعرف أصول الديانة اليهودية أحضر له حاخاما لتعليمه، ثم حين لاحظ ضعفه في اللغة العربية، أحضر له شيخا أزهريا ليعلمه قواعد النحو والصرف، حتى أنه يقول عن نفسه: (إن الديانات الثلاث قد أثرت بشكل أو بآخر في تكوين فكري).
ـ أعرفه يا صديقي دعني أتابع لك كيف سارت حياته، درس الحقوق في جامعة (فؤاد الأول)، وانضم إلى التنظيمات الشيوعية التي ماجت بها القاهرة في الأربعينيات، وتم القبض عليه سنة 1946..
عندما بدأ ترحيل اليهود المصريين، رفض شحاتة السفر، وتمسك بجنسيته المصرية، وكان قد اشترك مع القوى اليسارية في تكوين (الرابطة الإسرائيلية للكفاح ضد الصهيونية) في نيسان سنة47، ووقّع بيانها خمسة من اليهود اليساريين، وكان يقول: لن أترك مصر، ولو قطعوا رقبتي، إنها وطني.
عمل في المحاماة وتخصّص في تسجيل ورعاية براءات الاختراع، وتعرض مكتبه لفرض الحراسة من الدولة عام 56، واعتقل عدة مرات عام 67 و75، بسبب الشك في ولائه لمصر، وفي الـ 79 بسبب معارضته لاتفاقية كامب ديفيد، وكان مطلوبًا في أحداث سبتمبر 81 وفق قرارات التحفظ على القوى الوطنية في مصر.
ـ ولكن أنت لا تنصف الرجل .. لم لا تكمل إخاد.. عن ما كان يفعله شحاته هارون؟ ...في العام 1967 فتحت نقابة المحامين المصرية باب التطوع لمساندة القوات المسلحة، فكتب شحاتة إلى النقيب أحمد الخواجة يقول:
(عزيزي أحمد، تحية كفاح أبعثها إليك مع استمارة التطوع.. تاركًا لك اختيار المكان الذي أستطيع فيه أن أؤدي حقي وواجبي في المعركة، إذ أعتبر مجلس النقابة قيادة لي)
أو رسالته إلى محمود درويش عندما خرج من حيفا التي قال له فيها(تحية من القاهرة، صخرتي التي لن أبيعها باللآلئ.. حبيبتي التي لن أهجرها.. أنت وأنا الأمل.. لو عدت أنت لحيفا، وصمدت أنا في القاهرة)..
ـ هه ...هذه رومانسيات ....لن يفيد الانخراط في النسيج العربي المتخلف...ولكن المهم خلق فكرة جديدة للأطراف كلها..كان أبي يعرفه..حتى أن بيننا صلة قرابة ما ..
ـ رومانسيات !!!
ـ نعم رومانسيات ..وتطهّر ...واغتسال من دنس مسبق في الذهن....ليس هذا ما أريده ..
ـ سأروي لك المزيد عن شحاته ...كان له ثلاث بنات: منى ونادية وماجدة، ولم تعرف نادية وماجدة بحكاية أختهن الكبرى إلا بعد أن كانت صغراهما في الخامسة عشرة، لأن منى ماتت وهي صغيرة، وكان شحاتة يمزق كل الصور الخاصة بها، لأنه لا يريد أن يتذكرها أبدًا.
أصيبت منى في الخمسينيات بمرض في الدم، وكان لا بد أن يتوجه إلى باريس لعلاجها.. فتقدم بطلب التأشيرة، ولكن السلطات أبلغته بأنه إذا سافر فلن يعود إلى مصر أبداً..
وبعد جدال طويل قرر أن يبقى في مصر، حتى لو كان هذا يعني أن يفقد ابنته الكبرى، وهذا ما حدث في ظل الإمكانات الطبية المتاحة بمصر آنذاك، وقد حزن عليها كثيرًا، وأحرق كل الصور الخاصة بها، لأنه يريد أن ينسى الأمر.
وحينما زار (إيجال بادين) نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي القاهرة عام 79 ذهب للصلاة في الكنيس اليهودي بالقاهرة، فدخل شحاتة بعد تعرضه لتفتيش دقيق، وقال له: إنني كمصري أرى أن المعاهدة مهينة بحق كرامة شعب مصر، فما كان من قوات الأمن إلا أن حاصرته وأخرجته، لأنه يعبر عن رأيه ورأي حزبه اليساري التوجه (حزب التجمع المصري) الذي كان عضوًا مؤسسًا فيه.
تمكّن منه الزهايمر في آخر عمره، ولم يعد يستطيع التعايش والتواصل مع من حوله. تزوجت ابنتاه، ماجدة من طبيب كاثوليكي إيطالي الأصل، وتزوجت نادية من مصري مسلم، مما جعل بيته الذي كان يسميه أصدقاؤه (محطة مصر) ـ نظرًا لكثرة زواره ـ أكثر البيوت في العالم احتفالا بمناسبات دينية.
ومثلما كانت حياة هارون مثيرة للجدل كانت كذلك وفاته فقد رفضت عائلته عندما توفي في آذار سنة 2001 أن يصلي عليه السفير الإسرائيلي بالقاهرة، واستأجرت حاخامًا من فرنسا للصلاة عليه، حتى لا يحضر حاخام من إسرائيل التي ظلّ طوال حياته يهاجم وجودها ويرفضه.
وتحيّرت أسرته في نعيه الذي كان ينبغي أن يُنشر في الجريدة، لأنها لا تستطيع نشر آية من التوراة مثلما يفعل المسلمون مع القرآن والمسيحيون مع الإنجيل، فنشروا كلمة تلخِّص فلسفته في الحياة، كان قد أوردها في كتابه الوحيد (يهودي في القاهرة).. قال فيها:
(لكل إنسان أكثر من هوية، وأنا إنسان مصري حين يُضطهد المصريون.. أسود حين يُضطهد السود.. يهودي حين يُضطهد اليهود.. فلسطيني حين يُضطهد الفلسطينيون).
ـ كما قلت...رومانسيات...مجرّد رومانسيات.

* * *

ربما كان عدم الاتفاق أقصر مسافة بين فكرين. (جبران النبي)
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.05586 seconds with 10 queries