عرض مشاركة واحدة
قديم 10/01/2008   #24
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي


ملامح حداثية


ذكرنا أن نجيب محفوظ قد قرأ الاتجاهات الحداثية في الرواية منذ فترة مبكرة من حياته، ولكنه عندما بدأ يكتب انحاز إلي الأسلوب الواقعي لأنه كان أكثر الأساليب تناسبا مع تجربته. وحسنا ما صنع أديبنا الكبير لأنه لو اصطنع الأساليب الحداثية جملة وتفصيلا منذ البداية لأحدث صدعا لا يمكن رأبه في مسيرة الرواية العربية، وكان عمله في هذه الحالة سيظل في منطقة النقلة الفجائية بدون أساس أو مقدمات أو تطور طبيعي. لكنه باختياره للأسلوب الواقعي استطاع أن يصل بفن القص العربي إلي مرحلة النضوج الكامل في صورته الواقعية مما مهد الطريق بعد ذلك لدخول الاتجاهات الأخري التي كان هو أيضا من روادها كما أسلفنا، والتي أصبحت الآن تحظي بمساحات واسعة من التجريب في كل أنحاء العالم العربي، بدءا من الروايات التي تستلهم الموروث التراثي إلي تلك التي تغوص في المورث الشعبي إلي الأخري التي تجرب أشكالا بنائية تعتمد علي اللغة، أو علي الأساليب المستعارة من الفنون الأخري مثل القص واللصق والقطع وما إلي ذلك أو الروايات التي تصطنع أشكالا أخري من الواقعية مثل الواقعية السحرية، وهي نمط من فن القص انتشر خلال العقود الأخيرة في بلدان أمريكا اللاتينية.
وبالرغم من اعتماد نجيب محفوظ في هذه المرحلة الواقعية الأولي علي أسلوب المدرسة الواقعية الكلاسيكية، علي نحو ما فصلنا من قبل، إلا أن ملامح التيارات الحديثة بدأت تظهر بقوة في رواياته ابتداء من «القاهرة الجديدة» حتي أخذت هذه الملامح مساحات أكثر اتساعا في «الثلاثية» ومن ذلك استخدامه للغة قريبة من اللغة الشعرية في كثير من الفقرات والمقاطع، واقتصاده في وصف الأماكن والشخصيات مقارنة بما كان يفعله كتاب الواقعية الأوائل، واستخدامه لتيار الوعي لكن بعد تطويعه وجعله مفهوما (14).. إلخ، وحتي لا نتوه في خضم هذه الأساليب، وهو أمر لا يحتمله المقام يحسن بنا أن نتوقف بشكل موجز عند بعض هذه الملامح، لنري كيف استطاع نجيب محفوظ أن يقدم رواية جديدة تنسج علي منوال الواقعيين لكنها تختلف عنهم كثيرا، صحيح أنها تلتزم بأبنيتهم التقليدية المعروفة لكنها تضيف إليها كثيرا من الخبرات والطرائق والأطر التي عاينها نجيب محفوظ في قراءته لكتاب الرواية المحدثين الذين أحدثوا ثورات ضخمة في الفن الروائي لا تقل عما استحدثه بيكاسو وسلفادور دالي في الرسم، أو ما استحدثته المدارس الرمزية ومدارس الشعر الصافي في الشعر، واستحدثه العلماء في مجال العلوم مثل نظرية النسبية مما كان يعد بحق ثورة بكل المقاييس. وبالطبع فإن نجيب محفوظ وهو يكتب في أوائل الأربعينيات ما كان يمكنه أن يغض الطرف عما يسمع عنه ويقرؤه عند فرجينيا وولف وجويس وكافكا وبروست وفوكنر وهيمنجواي وغيرهم، خاصة أن أديبنا الكبير ـ كما أسلفنا بشأن قراءاته ـ لم يكن شخصا عاديا تجري الظواهر من حوله فلا يلتفت إليها، وإنما كان قلبه معلقا بكل جديد، يتأمله ويغوص في أعماقه، ويكشف عن وظائفه ويدخله ضمن مكوناته الثقافية والرؤيوية.
فقد عرفت الرواية الواقعية عند نجيب محفوظ ظاهرة الخلط بين الأساليب، فنجده ينتقل من المتكلم إلي المخاطب إلي الغائب في سهولة وتلقائية ظاهرتين، كما نجد المونولوج الداخلي يمتد ليغطي صفحة أو أكثر علي نحو ما يري في الصفحة الثالثة تقريبا من رواية قصر الشوق، عندما تغوص أمينة وهي أمام السيد أحمد عبد الجواد في رحلة مع الطريق الذي تطل عليه المشربية ويغوص هو مع جلسات الأنس التي تضم أصدقاءه الثلاثة محمد عفت وعلي عبد الرحيم، وإبراهيم الغار، وبينما هو كذلك تلتقي عيناه الحالمتان بعيني أمينة المستطلعتين فيدور بينهما الحوار الذي قطعه هذا المونولوج الداخلي عند كل منهما.
كما أن قراءة الثلاثية ـ كما ذكرت وحللت باستفاضة سيزا قاسم ـ تظهر بلا شك عملا متعدد الأصوات. وأوضح السمات التي تظهر هذا التعدد هو امتناع الراوي عن إصدار الأحكام العامة المنفصلة عن منظور الشخصيات الأيديولوجي، تلك الأحكام التي تشبه الحكم وجوامع الكلم ويمكنها أن تقف مستقلة عن النص ـ إذا انسلخت عنه ـ محتفظة بدلالة مطلقة، وتختلف الثلاثية بذلك عن تقاليد الرواية الواقعية (15)، وهذا يدل علي أن نجيب محفوظ قد أجاد استخدام «البوليفونية» أي تعدد الأصوات في البناء الروائي، واتجه بدرجة كبيرة إلي المنظور النفسي الذاتي. أو علي حد تعبير الدكتور علي الراعي، لقد رسم نجيب محفوظ الشخصيات بطريقة علمية موضوعية توازن تماما بين النمو الداخلي والخارجي للشخصية الواحدة، وقد أدي هذا إلي غني هذه الشخصيات في حياتها الداخلية والخارجية وتعدد أنواعها وتفرد كل منها بمميزات واضحة محددة تميزها عن باقي الشخصيات (16).
ويحسن أن نختم هذه الدراسة بكلمة لنجيب محفوظ تقول: «كانت كل الأساليب أمامنا في وقت واحد، فعندما نشرع في الكتابة قد نستفيد من أي من الطرق التي عرفناها ودخلت في آلية المشي عندنا بدون وعي. فعندما أكتب قد أستفيد من الواقعي التقليدي، من الواقعي الحديث، من تيار الوعي، من.. من.. لأنني قرأت كل هذا في فترة واحدة، بمعني أن التجارب التي عاشتها أوروبا مائتي سنة أو ثلاثمائة سنة اطلعت عليها أنا في عشر سنوات، وبهذه الطريقة استفدت من أكثر من أسلوب روائي، ومن كل في لحظة أي في اللحظة المناسبة حتي لنجد في «الثلاثية» لحظات سريالية» (17).

شُذَّ، شُذَّ بكل قواك عن القاعدة
لا تضع نجمتين على لفظة واحدة
وضع الهامشيّ إلى جانب الجوهريّ
لتكتمل النشوة الصاعدة
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.03461 seconds with 10 queries