عرض مشاركة واحدة
قديم 02/02/2008   #3
post[field7] dot
مشرف متقاعد
 
الصورة الرمزية لـ dot
dot is offline
 
نورنا ب:
May 2006
مشاركات:
3,276

Exclamation


ويعيدنا الكاثاريون، مرة أخرى، إلى سفر التكوين الذي يحدثنا قائلاً: "... وكانت الحيَّة أحيل جميع حيوان البرية التي صنعها الربُّ الإله فقالت للمرأة: أحقًّا قال الله لا تأكلا من كلِّ شجر الجنَّة؟ فقالت المرأة للحية: من ثمر الجنَّة نأكل، وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنَّة فقال الله: لا تأكلا منه ولا تمسَّاه لئلا تموتا. فقالت الحية للمرأة: لن تموتا، بل الله عالم أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر. ورأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل وأنها بهجة للعيون وأن الشجرة شهية للنظر. فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت رجلها أيضًا معها فأكل، فانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان..." (تكوين 3: 1-7).
ويعيدنا الكاثاريون، أيضًا ونتيجة لذلك، إلى الربِّ يقول: "... هو ذا آدم قد صار كواحد منَّا يعرف الخير والشرَّ..." (تكوين 3: 22). وأقف حائرًا، لأنه لا الكاثاريون ولا سفر التكوين يعطيان تفسيرًا منطقيًّا – اللهم إلا إذا كان ثمة في سفر التكوين ولدى الكاثاريين تفسير باطني آخر لما سبق (وهذا هو الأغلب). لكن الكاثاريين لا يعطون علمهم لأيٍّ كان، لأن على طالب المعرفة أن يكون جديرًا بها، ويتجرد عن المادة، وفيما يتعلق بالكاثاريين، أن يصبح من الكُمَّل.

8


ونستعرض هنا بعض طقوس الكاثاريين، مبتدئين بالصلاة، لأن الصلاة عندهم تختلف عن تلك التي يردِّدها "الأطهار" وتلك التي يتلوها المؤمنون العاديون. وصلاتهم الوحيدة هي صلاة الأحد التي لا يمكن للإنسان أن يردِّدها ما لم "يتعلَّم"، لأنه ليس في وسع المؤمن العادي، وفق معتقدهم، أن يدعو الله وهو ما يزال أسير المادة وعبد الشيطان. "... لأنه حين سأل بيير ماروي الكامل بيليباست، أحد آخر الكُمَّل: "أية صلاة في وسعي أن أردد، ربما، إن لم تكن أبانا؟" أجابه هذا الأخير: "يجب عليك أن تطلب من سيدنا الرب الذي أهدى الملوك ملخيور وبلتشصر وجاسبار، عندما أتوا من الشرق للسجود له، أن يرشدك كما أرشدهم...".
وصلاة الكاثاريين الأساسية المخصصة للـ"معمَّدين"، أو صلاة الأحد، هي التي يعرفها المؤمن المسيحي بـ"أبانا"، كما تردِّدها الكنيسة – لكن، حينئذٍ مع ذلك الفارق الذي كان يتحدث عند الكاثاريين عن "الخبز الجوهري" عوضًا عن "خبزنا كفاف يومنا". وطبعًا فإنه يغلب على الكاثاريين، حين يتلونها، هذا المفهوم المثنوي "المتشائم" لمعاني تلك الصلاة الربانية. فحين يقولون، مثلاً: "ليأتِ ملكوتك" أو "لتكن مشيئتك"، فإنما يعنون أن لا هذا الملكوت ولا تلك المشيئة متحققان ههنا؛ وحين يقولون: "ونجِّنا من الشرير"، فإنما يعنون أن هذا الشرير هو السيد الفعلي لعالمنا؛ وهكذا.
ونعرِّج على طقس آخر هو "طقس السلام"، أو الـMelhorament، الذي كان المؤمن يعبِّر من خلاله عن إخلاصه للكنيسة الكاثارية؛ وهو عبارة عن سلام كان يلقيه المؤمن على الكامل حين يلقاه، فيطلب منه البركة والصلاة من أجله، إضافة لحقِّ الوصول لنعمة المعمودية – أو لنقل، لهذا الطقس الكاثاري الأساسي الموسوم بالـConsolamentum، فيَعِدُه الكاملُ به.
ونتوقف هنا قليلاً للتحدث بعض الشيء عن هذا الطقس الكاثاري، الذي هو المعمودية أو الـConsolamentum الذي سبقت لنا الإشارة إليه، لأنه عملية مسارَرة initiation كاملة تعطى لطالبي الكمال؛ وهي عبارة عن طقس تتم من خلاله المعمودية الروحية للمريد، لأن الكاثاريين كانوا يرفضون معمودية الماء (حسب يوحنا المعمدان) والكنيسة.
ويُدخَل مريد هذه المعمودية في المحفل، يرافقه الأقدم في مكان إقامته و/أو والده الروحي. ويلقي الجميع التحية التي تحدثنا عنها أعلاه، أو الـMelhorament، على رئيس المحفل. ثم، بما أن الطقس يستوجب من جميع أفراد المحفل أن يكونوا أطهارًا، يبدأ الرئيس بالاعتراف، طالبًا المغفرة، فيمنحه إياها أقدم الحضور. ثم يباشر الجميع الصلاة، فيردِّدون أبانا سبع مرات، طالبين الرحمة التي يمنحهم إياها هذه المرة رئيسُ المحفل.
وتبدأ طقوس المعمودية، فيركع المريد أمام منضدة صغيرة مستديرة يغطيها شرشف أبيض، وعليها شمعدانان وُضِعَ بينهما كتاب الأناجيل، وقد فُتِحَ عمدًا على بداية إنجيل يوحنا. ويسأل رئيسُ المحفل المريدَ عن رغبته الأكيدة في الحصول على المعمودية الروحية وممارسة كلِّ مكارم المسيحي الحق. ويطلب المريد المغفرة لخطاياه، فيحصل عليها من رئيس المحفل، الذي يحدِّثه من بعدُ عن ولادته الجديدة أمام كنيسة الله بدءًا من تلك اللحظة. ثم يضع رئيس المحفل الكتاب على رأس المريد؛ وبعد أداء الصلاة، يقرأ له مقدمة إنجيل يوحنا، حتى تلك الفقرة التي تقول: "أما النعمة والحق فباليسوع صارا..." – وتتم بذلك المعمودية.
وأقف حائرًا – لأن هذه الطقوس تذكِّرني، من خلال مطالعاتي، بطقوس أخرى لجماعات أخرى ما زالت مستمرة، وحيث لإنجيل يوحنا أيضًا مكانة خاصة.

9


وأتجاوز تلك الطقوس الأخرى، لأتوقف أمام بعض الأساطير والمعتقدات الكاثارية الملفتة للانتباه، لما تحويه من عمق باطني. وأولى هذه الأساطير هي أسطورة جمل الماء: البجع أو الـPelikan، رمز التضحية وأحد الرموز السرَّانية إلى السيد المسيح – هذا البجع الذي يقدم قلبه أو أحشاءه ليطعم أطفاله أو دمه ليعيدهم إلى الحياة، بعد أن قتلهم الشيطان، والذي تتحدث الأسطورة عن ملاحقته الشمسَ في طيرانه؛ وهو، كما نعلم أيضًا، رمز أساسي من رموز الصليب+الوردة Rose+Croix والماسونية الروحانية التأملية.
وأيضًا كان الكاثاريون يؤمنون بالتناسخ Métempsycose الذي من رموزه حدوة الحصان. والقصة الأسطورة الأقرب لمخيلة العامة تتحدث عن روح إنسان شرير، وقد مُسِخَت بعد وفاته بقرةً كان صاحبها يضطهدها، ثم حصانًا فقد حدوته ومات منقذًا راكبه، لتحلَّ هذه الروح في النهاية في جسد طفل، ولدًا لأسرة صالحة، فيربى تربية حسنة ويصبح كاملاً.
وأتابع، من خلال الأسطورة، متوقفًا، بصفة خاصة، أمام رمز كاثاري لفت انتباهي منذ فترة، ومازلت أتابعه، ألا وهو رمز "الكأس الأقدس" أو الـSaint Graal، الذي وصلنا من خلال الأسطورة والأغنية الشعبية للمنشدين الشعراء في العصور الوسيطة Troubadours – تلك القصيدة الملحمية الرمزية ذات الرموز الباطنية التي تدعى برتسيفال Perzival مثلاً – وفيها يحدثنا الظاهر عن مريد هو برتسيفال، يبحث عن قصر سرِّي يحتفظ فيه ملكٌ جريح بكأس مقدسة يحرسها ملائكة ليسوا أخيارًا ولا أشرارًا – فأجد مسارًا وقصة ورموزًا تذكِّرني بأخرى جاءت بعدها وتتحدث عن العرس الكيميائي لكريستيان روزنكرويتس، حيث الصحيح يختلط بالمزيف، ودعوة واضحة تُفهِم المريد أن عليه اختيار طريقه بنفسه. وأقرأ ما يكتبه المحلِّلون عن كأس هي، في النهاية، رمز سلالة إله ينبثق نورُه من هذه الكأس التي يلمحها برتسيفال. حقًّا لقد كان الكاثاريون إجمالاً، ومن خلال بعض كُمَّلهم تحديدًا، من مريديها.

10


وأعود إلى التاريخ، حيث لم يزل الكثير من النقاط الغامضة المتعلقة بالكاثاريين ملفتًا للنظر بشكل صارخ. فحينئذٍ، في أثناء الحملة الصليبية ضد الألبيجيين (الكاثاريين)، كان موقف فرسان الهيكل Templiers محايدًا، إن لم نقل إنه كان متعاطفًا ضمنيًا مع الكاثاريين. وقد واجه فرسان الهيكل، من بعدُ، على يد الكنيسة، مصير الكاثاريين نفسه. والتاريخ الباطني يتحدث عن اهتمام كبير لملك فرنسا لويس الرابع عشر بلوحة للرسام بوسَّان، تدعى رعاة أركاديا، صودرت وأخفيت حينذاك، وتصوِّر رعاة يتأملون في قبر موجود إلى اليوم في بلاد الكاثاريين قرب قلعة مونسيغور، وقد كُتِبَتْ عليه العبارة اللاتينية التالية: ET IN ARCADIA EGO. هذا، ويلفت المؤرخون النظر إلى أمور غريبة تتعلق بهندسة هذه القلعة وتوجيهها نحو شروق الشمس – مما يجعل بعضهم يعتقدون أن هذا القصر المنيع كان، ربما، من خلال إحدى وظائفه، معبدًا شمسيًّا.

11


وأشعر بأني أغالي في التحليق، ربما، وأني بدأت أفقد روحي النقدية، فأتحفَّظ قليلاً، وأعود إلى التفكير – ولو بشيء من القسوة – فيما حصل في تلك الأيام. وأفكر أنِّي، كقارئ مشكِّك، أنجرُّ، ربما بحكم ثقافة وتربية سابقين، إلى ذلك المنزلق الذي يتعاطف، بعقل اليوم، مع مَن يُعتقَد أنهم كانوا ضحايا ذلك الزمان. و أفكر أن الكاثاريين ربما كانوا كسواهم، وأن ما حصل لهم كان، في منطق تلك الأيام، عاديًّا. فالمجتمع الأوروبي، المنظم يومذاك بحسب مفاهيم القرنين الثاني والثالث عشر الميلاديين، كان قائمًا على أساس مفاهيم الملكية المطلقة، ويستند إلى كنيسة راسخة ومسيطرة لم يكن في وسعها، في ذلك الحين، قبول النموذج الكاثاري الذي كان، سواء كفكر و/أو كمشروع نموذج اقتصادي، يتهدَّد أسُس السلم السياسي والاجتماعي القائم.
وذلك لأنه، بمنطق هذه الأيام – وقد بدأنا نقبل، أو هكذا نعتقد، ما ندعوه بالتسامح الفكري – تبدو محاكم التفتيش وممارسات كنيسة تلك الأيام مستنكَرة ومرعبة. ولكن، أتراها لم تكن، بمنطق تلك الأيام، مبرَّرة تمامًا – وكلُّ المظاهر المحيطة بنا تدلُّ أننا لم نكتشف بعد معنى التسامح الحق، وأننا ما زلنا – كبشرية – من الناحية الإنسانية، مجرَّد رُضَّع!

12

ربما أيضًا لأننا هكذا... ربما لأنه، مذ ذاك إلى اليوم، ليس في وسع إنسانيتنا أن تتحمل بعدُ عمقَ ظواهر قد تهز أركان ما نؤمن به. لكننا، مع ذلك، لا نستطيع تجاهُل الكاثاريين وشطبهم من التاريخ – والكاثاريون قد ذُبِحوا يومذاك؛ أو هكذا اعتقد من ذبحهم من حكام عالم تلك الأيام. والكاثاريون كانوا يحملون معتقدات وأسرارًا مازالت، إلى اليوم، غامضة لمعظمنا – أسرارًا ومعتقدات كانت واستمرت، ويتعلق بعضُها حتى بشخص السيد المسيح. وأعود إلى هذه النقطة التي مازالت تؤرقني...

... حيث كان الكاثاريون يؤمنون بمسيح ينتمي إلى عالم الملائكة، وجاء ليوقظ النفوس النائمة: مسيح غير مادي، يقابله آخر أرضي مات على الصليب وعاش حياته المادية الأرضية كسواه – والمادة كانت بالنسبة لهم هي مجال الشيطان. حول هذا الموضوع يقول أرنو بوست في كتابه حول الكاثاريين ما مفاده أن المسيح الواقعي وُلِدَ وصُلِبَ في عالم لا مرئي، عالم أعلى، ليس هو السماء، إنما ساحة تلك المعركة الحقيقية الدائرة بين الخير والشر. وأتساءل...

13


فالموضوع يبقى غامضًا جدًا – ومن هنا يأتي جمالُه. وهو يستدعي التفكير ويستدعي التأمل، لأنه يتعلق، في النهاية، بهذا السعي الإنساني العميق، على مرِّ العصور وحتى يومنا هذا، نحو ألوهة مطلقة لا يمكننا إدراكُها عقلاً. وهو يتعلق بروعة هذا السعي من قبل نخبة هذه الإنسانية؛ وهذا مازال – وسيبقى – مستمرًا ما بقيت هذه الإنسانية. سيبقى يتقدم، من خلال أبنائه، شاقًّا طريقَه إلى الأمام بين الصخور الوعرة نحو ما يبدو وكأنه اللانهاية!
لذا – ولمن يقول أو يعتقد في عصرنا، مستنتجًا الدروس والعِبَر من مأساة الكاثاريين ومن واقع أن إنسانية اليوم ميؤوس منها لأنها كانت دائمًا – وستبقى – أسيرة شهواتها المادية – أقول – أيضًا من خلال الكاثاريين – أن للحقيقة الإنسانية دائمًا وجهين، ليسا بالضرورة متعارضين...
حيث إذا كان، كما يقول الشاعر الإنكليزي وليم بليك في "لوحته الإلهية"...

للقسوة قلبُ إنسان


وللحسد وجهُ إنسان
وللعنف شكلٌ إلهي وإنساني

وللتقية ثوبُ إنسان...


فإنه أيضًا – وهنا تكمن الروعة...

للتسامحِ قلبُ إنسان

و للرحمةِ وجهُ إنسان

و للحبِّ شكلٌ إلهي وإنساني

و للسلام ثوبُ إنسان.

***


13-05-2007

مدونتــي :

- ابو شريك هاي الروابط الي بيحطوها الأعضاء ما بتظهر ترى غير للأعضاء، فيعني اذا ما كنت مسجل و كان بدك اتشوف الرابط (مصرّ ) ففيك اتسجل بإنك تتكى على كلمة سوريا -
 


  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.07641 seconds with 11 queries