عرض مشاركة واحدة
قديم 17/09/2009   #3
شب و شيخ الشباب Nasserm
عضو
-- زعيـــــــم --
 
الصورة الرمزية لـ Nasserm
Nasserm is offline
 
نورنا ب:
Aug 2009
المطرح:
نقطة زرقاء باهتة
مشاركات:
998

افتراضي


الأم: الضباب يتكدَّس هنا. تعالوا يا أولادي ندخل إلى الدار.

[تدخل الأم الدار بعد أن تقبِّل لعازر بحنان كئيب.]

مرتا: في الهواء قليل من البرودة، وعليَّ أن أنقل النول والكتان إلى داخل الدار.

مريم: [جالسة على العشب تحت شجر اللوز تقول لمرتا.] لا تصلح أمسيات نيسان لا للنول ولا للكتان. أتريدين أن أساعدك في إدخالها؟

مرتا: لا، لا. أستطيع أن أحملها وحدي. كنت دائمًا أُدخِلُها وحدي.

[تحمل مرتا النول وتدخل إلى الدار. وحين تعود لتحمل نسيج الكتان تهبُّ ريح تهزُّ الشجر، ويتساقط زهر اللوز على مريم ولعازر.]

لعازر: الربيع يعزِّينا، والأشجار تبكي لأجلنا. لو تعرف كلُّ الاشياء على الارض سقوطنا وحزننا لأشفقتْ علينا وبَكَتْ من أجلنا.

مريم: لقد حلَّ الربيع. حتى لو جاء محجوبًا بحجاب الأسى يظل ربيعًا. دعنا من الكلام عن الشفقة. لنتقبَّل ربيعنا وأحزاننا بالاعتراف بفضلها. ولنتأمل في صمتٍ عَذْبٍ ذاك الذي وهبكَ الحياة وسلَّم حياتَه هو. دعنا من الكلام عن الشفقة يا لعازر.

لعازر: الشفقة؟ الشفقة أن أكون ممزَّقًا من ألف ألف سنة برغبة القلب. ألف ألف سنة بجوع القلب. الشفقة أن أعود ثانية، بعد ألف ألف ربيع، إلى هذا الشتاء.

مريم: ماذا تعني يا أخي؟ لماذا تتكلَّم عن ألف ألف ربيع؟ كنت بعيدًا عنَّا ثلاثة أيام فقط. ثلاثة أيام قصيرة. إلا أن أحزاننا استمرت أكثر من ثلاثة أيام.

لعازر: ثلاثة أيام؟ ثلاثة قرون، ثلاثة دهور! كلُّ الزمان. كلُّ الزمان مع التي أحبَّتْها روحي قبل أن يكون زمان.

المجنون: بلى، ثلاثة أيام، ثلاثة قرون، وثلاثة دهور. غريب كيف أنهم دائمًا يقيسون ويَزِنون. دائمًا ساعة شمسية وميزان.

مريم: [بدهشة.] التي أحبَّتْها روحُك قبل أن يكون زمان؟ لماذا تقول هذه الأشياء يا لعازر؟ إنه مجرَّد حلم كنتَ تحلمه في حديقة أخرى. أما الآن فنحن هنا في هذه الحديقة، على مرمى حجر من القدس. نحن هنا، وتعرف، يا أخي، أن المعلِّم أرادك أن تكون معنا في هذه اليقظة لتحلمَ بالحياة والحب، ولتكون التلميذ الغيور، والشاهد الحيَّ على مجده.

لعازر: لا حلم هنا ولا يقظة. أنتِ وأنا وهذه الحديقة مجرَّد وهم، بل ظلٌّ للحقيقي. اليقظة هنا، حيث كنتُ مع حبيبتي والحقيقة.

مريم: [واقفة.] حبيبتك؟

لعازر: [يقف أيضًا.] نعم حبيبتي.

المجنون: بلى، بلى. حبيبته، الفضاء البكر، حبيبة كلِّ إنسان.

مريم: أين حبيبتك؟ مَن حبيبتك؟

لعازر: توأم قلبي التي بحثتُ عنها هنا، ولم أجدها. وجاء الموت، الملاك ذو القدمين المجنَّحتين، وحمل شوقي إلى شوقها، وعشت معها في قلب الله. دنوتُ منها ودنتْ مني، حتى صرنا واحدًا. كنَّا كوكبًا يتلألأ تحت الشمس، وكنَّا أغنية بين النجوم. كنَّا كلَّ هذا، وأكثر، يا مريم. حتى جاء صوت، صوت من الأعماق. صوت العالم ناداني، والذي كان موحَّدًا تطاير إربًا. وألف ألف سنة أمضيتُها مع حبيبتي في الفضاء لم تحمِني من قوة ذلك الصوت الذي دعاني للعودة.

مريم: [ناظرة إلى السماء.] أيتها الملائكة المباركة – يا ملائكة الساعات الصامتة – ساعدنَني على فهم هذا! لن أكون غريبة في هذه الأرض الجديدة التي اكتشفها الموت. تابع كلامك، يا أخي. أظنُّ أنني في أعماقي أتابع حديثك.

المجنون: اتبعيه، إن كنت تستطيعين، أيتها المرأة الصغيرة. أتستطيع السلحفاة أن تتبع المهر؟

لعازر: كنتُ جدولاً أنشد البحر، حيث تقيم حبيبتي. ولما وصلتُ إلى البحر أعادوني إلى التلال لأركض ثانية بين الصخور. كنت أغنية أَسَرَها الصمتُ، أتوق إلى قلب حبيبتي. ولما حرَّرتْني رياحُ السماء، وأطلقتْني في تلك الغابة الخضراء، استردَّني صوتٌ، وأعادني ثانية إلى الصمت. كنت جذرًا في غابة الأرض المظلمة، وصرت زهرة في الفضاء، ثم عطرًا. أرتفع لأغمر حبيبتي، فتمسك بي يدٌ وتعيدني جذرًا من جديد، جذرًا في الأرض المظلمة.

المجنون: إن كنتَ جذرًا تستطيع أن تهرب من العواصف في الأغصان. خيرٌ لك أن تظلَّ جدولاً يجري، حتى بعد وصولك إلى البحر. وخيرٌ للمياه أن تجري صَعَدًا.

مريم: [لنفسها.] يا للغرابة! يا لغرابة ما يجري. [توجِّه حديثها إلى لعازر.] ولكن، يا أخي، خيرٌ أن يكون الإنسان جدولاً يجري، وخيرٌ أن يكون أغنية لم تُغنَّ بعد، وخيرٌ أن يكون جذرًا في الأرض المظلمة. عرف المعلِّم هذا كلَّه، وناداك لتعود إلينا، حتى نعرف أنْ لا حجاب بين الموت والحياة. ألا ترى أنك شاهدٌ حيٌّ على البقاء؟ ألا ترى كيف أنَّ كلمة واحدة نطق بها بمحبة تجمع العناصر التي بَعْثَرَها وَهْمٌ سمَّيناه الموت؟ آمِن، آمِن، لأن الإيمان معرفتُنا الأعمق. به وحده تستطيع أن تجد العزاء.

لعازر: العزاء! العزاء الغادر المُهلِك! العزاء الذي يخدع حواسنا ويسخِّرنا للساعة العابرة. لن يكون عزاءٌ لديَّ، بل غضب. سأُحرَق في الفضاء البارد مع حبيبتي. سأكون في الفضاء الذي لا حدود له مع رفيقتي، مع ذاتي الأخرى. آه، يا مريم! كنتِ مرة أختي، يا مريم، وعَرَفَ الواحد منَّا الآخر حين لم يكن أقرب المقرَّبين إلينا يعرفُنا. والآن اسمعيني. اسمعيني بقلبك.
مريم: أسمعك، يا لعازر.

المجنون: ليسمع العالم كلُّه. فالسماء سُتحدِّث الأرض الآن. إلا أن الأرض صمَّاء. الأرض شبه صمَّاء – مثلي ومثلك.

لعازر: كنتُ مع حبيبتي في الفضاء، وكنَّا كلَّ الفضاء. كنَّا في النور، وكنَّا كلَّ النور. كنَّا نطوف على وجه الغمر، كما الروح الأزلية. وكان الزمان كلُّه اليوم الأول. كنَّا المحبة نفسها تقيم في قلب الصمت الأبيض. وفجأة دوَّى صوتٌ كالرعد، صوتٌ كأنه رماح عديدة تخترق الأثير. صرخ قائلاً: "تعال يا لعازر!" وكان للصوت صدًى ترجَّعَ في الفضاء. ومع أني كنت مدَّ الطوفان فقد صرتُ جَزْرَه. صرتُ بيتًا منقسمًا على ذاته، ثوبًا ممزقًا، شبابًا ضائعًا، برجًا سَقَطَ، ومن حجارته المحطِّمة أقيمَ نصبٌ. وصرخ صوتٌ: "لعازر هَلُمَّ خارجًا!" ونزلتُ من عرش السماء إلى قبر داخل قبر – هذا الجسد – في كهف مختوم.

المجنون: يا حادي القافلة، أين رجالك وأين جمالك؟ هل ابتلعتْها الأرض؟ هل لفَّتْها ريحُ السَّموم بالرمال؟ لا. رفع يسوع الناصري يده، وأطلق يسوع الناصري كلمة. أخبرني الآن: أين جمالك ورجالك وكنوزك؟ في الرمال، حيث لا أثر، في الرمال، حيث لا أثر. إلا أن رياح السَّمُوم ستعود ثانية وتنبشها. ريح السَّموم دائمًا تعود.

مريم: أوه. إنه حلم حُبِلَ به على رأس جبل. أعرف، يا أخي، أعرف العالم الذي زرتَه، مع أني ما رأيته أبدًا. ومع هذا، ما تقولُه يبدو غريبًا. إنها قصة يرويها شخصٌ في القاطع الآخر من الوادي، وأكاد لا أسمعها.

لعازر: في القاطع الآخر من الوادي يختلف الأمر كثيرًا. هناك لا وزن، ولا قياس. هناك أنتِ مع حبيبك. [صمت.] يا حبيبتي. يا حبيبتي، يا عطرًا في الفضاء! يا أجنحة منشورة لي! أخبريني في سكون قلبي هل تطلبينَني، وهل آلمكِ الانفصالُ عنِّي؟ هل كنتُ أنا أيضًا عطرًا وأجنحة منشورة في الفضاء؟ أخبريني الآن، يا حبيبتي: هل كانت القسوة مضاعفة؟ هل كان لكِ شقيقٌ في عالم آخر ناداكِ من الحياة إلى الموت؟ وهل كان عندك أمٌّ وشقيقات وأصدقاء اعتبرنَها معجزة؟ هل كانت قسوة مضاعفة، أُعطِيَتْ ببركة؟

مريم: كلا، كلا، يا أخي! ثمة يسوع واحد في عالم واحد. كلُّ الاشياء الأخرى ليست أكثر من مجرد حلم، تمامًا مثل حبيبتك.

لعازر: [في انفعال كبير.] كلا، كلا! إن لم يكن يسوع حلمًا، فهو لا شيء. إن لم يعرف ما خلف هذه القدس، فهو لا شيء. إن لم يعرف حبيبتي في الفضاء، فهو ليس المعلِّم. يا صديقي يسوع، مرة أعطيتَني كأس خمر قائلاً: "اشرب هذه لذكري." وغمستَ كسرةَ خبز في الزيت وقلتَ: "كُلْ هذا، إنه حصتي من الرغيف." يا صديقي، وضعتَ يدك على كتفي وناديتَني: "يا بنيَّ." قالت أمي وشقيقتاي في قلوبهنَّ: "يحب لعازر." وأنا أحببتُك. بعد ذلك ذهبتَ لتبني أبراجًا جديدة في السماء، وذهبت أنا إلى حبيبتي. أخبرني الآن. أخبرني لماذا أعدتَني؟ ألم تكن تعرف في قلبك العارف أني كنت مع حبيبتي؟ ألم تلقَها وأنت تتجوَّل فوق قمم لبنان؟ بالتأكيد رأيتَ صورتها في عينيَّ حين عدتُ ووقفتُ أمامك على باب القبر. وأنتَ، ألا حبيبة لك تحت الشمس؟ أتريد أن يأتي مَن هو أعظم منك ويفصلها عنك؟ وما عساك تقول بعد الفصل؟ وما عساي أقول لكَ الآن؟

المجنون: أمَرَني أيضًا أن أعود، لكني لم أُطِعْه. ولهذا يسمُّونني المجنون.

مريم: هل لي، يا لعازر، حبيبٌ في السماء؟ هل أبدعتْ رغبتي كائنًا خلف هذا العالم؟ وهل عليَّ أن أموت لأكون معه؟ أخبرني، يا أخي، هل من رفيق لي أنا أيضًا؟ إذا كان الأمر كذلك، فما أحلى أن نعيش ونموت، ونعيش ونموت ثانية – إذا كان الحبيب ينتظرني حتى أحقِّق ذاتي، وأنتظره حتى يحقِّق ذاته؟

المجنون: لكلِّ امرأة حبيبٌ في السماء. إن قلب كلِّ امرأة يبدع كائنًا في الفضاء.

مريم: [تكرِّر في رفق كأنها تحدِّث نفسها.] هل من حبيب لي في السماء؟

لعازر: لا أعرف. ولكن إذا كان لديك حبيب، ذاتٌ أخرى في مكان ما أو زمان ما، وتجتمعين به، فبالتأكيد لن يفصلك عنه أحد.

المجنون: ربما كان هنا. ربما يناديها. ولكنها، مثل كثيرات سواها، قد لا تسمع.

لعازر: [يتقدَّم إلى وسط المسرح.] أن ننتظر، أن ننتظر كلَّ فصل حتى يقهر فصلاً آخر. وبعد ذلك ننتظر أن يأتي فصلٌ آخر يقهر هذا. أن تراقب كلَّ الأشياء تنتهي قبل أن تأتي نهايتك – ونهايتك هي أيضًا بدايتك. أن تصغي إلى كلِّ الأصوات وتعرف أنها كلَّها تذوب في الصمت، ما عدا صوت القلب الذي يبكي حتى في النوم.

المجنون: تزوج أبناءُ الله أبناءَ الإنسان. وبعد ذلك طلَّقوهم. والآن يتوق أبناء الإنسان لأبناء الله. أشفِقْ عليهم جميعًا، على جميع أبناء الله وأبناء الإنسان.

[صمت.]



يتبع...





ربما كان عدم الاتفاق أقصر مسافة بين فكرين. (جبران النبي)
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.07256 seconds with 11 queries