عرض مشاركة واحدة
قديم 31/07/2007   #1
صبيّة و ست الصبايا Rena
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ Rena
Rena is offline
 
نورنا ب:
Jul 2007
المطرح:
اللاذقية العذراء
مشاركات:
212

افتراضي من أجل حصان أعود إلى الكتابة ...


لم أكتب منذ عامين ...
والسبب بكل بساطة , هو أنني فقدت شهية الكتابة

فالكتابة كالعشق ... والعزف على البيانو ... ونظم الشعر ... وممارسة الجنس ... لا بد أن تحس بها جيداً , لتستطع أن تفعلها جيداً .. وأنا . خلال العامين الرماديين الماضيين , لم تكن عندي شهية للعشق , أو للوصل ... أو للعزف على أي شيء ..
فلقد كانت شهوتي السياسية تحت الصفر ...
وكان جهازي العصبي معطلاً , بحيث لم أكن قادراً على التقاط الموجات السريّة التي تبث عليها إذاعات الحطيئة ... والفرزدق ... وجرير ... وبقية أفراد فرقة (الردح) العربية ...
كان الوطن العربي يبدو أمامي على الخريطة كناقة مذبوحة يسيل دمها من الخليج إلى المحيط ..
وكانت بيروت تغرق في مياه البحر الأبيض المتوسط , كأسواره نادرة من البلاتين والذهب ..
وكان الحزن هو المواطن العربي الوحيد المسموح له بممارسة حق البكاء ... أو بممارسة الانتحار على أرصفة المدن العربية ..
لذلك أعلنت الإضراب عن الكلام ...على طريقة المساجين في الإضراب عن الطعام . على أمل أن تتحسن أوضاع السجن العربي .. أو تتحسن – على أبعد الاحتمالات – أخلاق السجّانين ...
كنت أقول لنفسي خلال فترة الصمت والقرف :
(إنه العصر العربي الرديء).... ولا بد أن يجيء عصر عربي آخر يمحو خطايا العصر الأول , ويكفّر عن ذنوبه ...
وها أنذا اكتشف بعد طول الصمت والصيام , أن العصور العربية كلها أتعس من بعضها .... وأنها تتشابه كحبات الرز وعيون الصينيين .... وأنه محكوم علينا أن نبقى تحت العباءة الكثيفة , المصنوعة من الغبار ... والملح ... والحقد ... والشتيمة .... إلى يوم القيامة ... أو إلى أبعد من يوم القيامة ...

قد يخطر ببالكم أن تسألوني :
- هل يحق لك ككاتب أن تضرب عن الكلام ؟ وهل يحق لك أن تتوقف ؟

وأجيبكم بكل محبة :
ولماذا لا أتوقف ؟ أن محركات ( الرولز رويس ) تتوقف ...
والمصاعد في نيويورك تتوقف ... وطائرات الجامبو تتعب من الإقلاع والهبوط ... والأسماك المهاجرة تتعب من السباحة ... وكازانوفا يتعب من التّزلج على أجساد النساء ... بل أن القلب نفسه يضجر من دورته الدموية ..

صحيح أن الكاتب مسؤول مسؤولية أدبية عن تجميل هذا العالم , وإضاءة قناديل الفرح فيه .
ولكن هل هذا يعني أن يصبح الكاتب قناً من الأقنان , يشتغل كالصيدليات المناوبة ليلاً ونهاراً , ولا يحق له أن يتمتع بإجازته السنوية كي يمرض ... أو يتزوج ...أو يموت ..
ربّما كان مطلوباً مني كشاعر أن أجعل مساحة القبح في العالم أقل ...
ولكن ماذا أفعل عندما تصبح مساحة القبح في العالم العربي أكبر من مساحة أوراقي ... ومن مساحة العالم العربي نفسه !!
بل ماذا يفعل الشعر , عندما يصير غالون البنزين : أكثر قيمة من كل قصائد المتنبي ؟.
ماذا أفعل .... عندما يصير النفط أميراً للشعراء ؟
[/font]
ماذا يعني أن تكون كاتباً في الوطن العربي ؟
يعني أن تصبح ضد جاذبية الأرض ..
ويعني أن تجلس على الكرسي الكهربائي , ولا يصعقك التيار ..
ويعني أن تمشي على حدِّ اثنتين وعشرين سكيناً ... دون أن يسيل دمك ... ويعني أن تكون لك قدرة جيمس بوند على القفز فوق القطارات , والاختباء في صناديق سيارات الشحن , واختراق مخافر الحدود , وتخدير رجال الأمن حتى لا يضبطوك بتهمة الحنين إلى شجرة ياسمين في دمشق , أو إلى مئذنة من مآذن القاهرة , أو إلى نخلة في بساتين البصرة .. أو إلى حجر من حجارة بعلبك .

يعني أن تلبس طاقية الإخفاء , وتمشي على ورق الكتابة حافياً حتى لا يسمعوا صوت تنفسك ... أو صوت أفكارك ....
أن تكون كاتباً في اسوج , أو فنلندا , أو سويسرا , أو اللوكسمبورغ , لا يشكل حدثاً غير اعتيادي .
أما أن تكون كاتباً في هذا الجزء من العالم , فظاهرة شاذّة , وعجيبة من عجائب الطبيعة تشبه ولادة طفل بثلاث أعين , أو سمكة برأسين ...
فالكتابة على هذا البساط اللانهائي من العطش , تبدو وكأنها انقلاب اخضر لا تسمح سلطات العطش بحدوثه .... أو كأنها جدول ماء لا تعطيه وزارة الداخلية تصريحاً بالتجول ..
إن الكتابة هي لعنة تطاردنا . وحكم بالأشغال الشاقة المؤبدة نقضيه في داخل دواة سوداء .. ننقل حبرها نقطة .. نقطة ... برأس دبوس , بانتظار ميلاد العصر العربي الجميل ...
[/font]
ولكن العصر العربي الجميل لم يأت ...
وكل ما حصل , أن العصر العربي الرديء ...أصبح أردأ ...
وقاموس الهجاء العربي ازدادت صفحاته ومفرداته حتى أصبح موسوعة أضخم من الانسكلوبيديا بريتانيكا ...
والسجن الذي كان عدد غرفه متواضعاً , صار مؤسسة فندقية بملايين الغرف ..والسجّانون الذين كانوا يتسلّون بحفر أسمائهم على لحم ظهورنا .... تناسلوا , وتكاثروا , حتى لم تعد مساحة ظهورنا تكفي لسياطهم ...
الذي حصل ...
أن الخيول العربية التي كانت تصهل على أبواب بدر وحطّين واليرموك والقادسية ... أصبحت تصهل على أبواب (البلاي بوي ) في لندن ..
الذي حصل أن الولايات العربية غير المتحدة ... تخترع كل يوم راية جديدة ... ونشيداً قومياً جديداً ... وعملة جديدة وطابعاً جديداً يحمل صورة أمير المؤمنين , وهو راكب على حصان هزيل القوائم , مقوس الظهر , يضربونه أكثر مما يطعمونه .... اسمه الشعب ..
ومن أجل هذا الحصان المعروق .... المسحوق ... المكسور الخاطر ... الذي يستعملونه كاوتوبوس من الجلد والعظم من الخليج إلى المحيط ...
من أجل هذا الحصان وحده ...... أعود
9/9/1977

نزار قباني ...
مجلة الحوادث اللبنانية ...

آخر تعديل butterfly يوم 18/09/2007 في 18:50.
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.07761 seconds with 11 queries