في هذا المكان، وعلى هذه الأرض، وبين الأمتعة الخشبيّة هذه، أبصرَ جبرانُ صاحبُ النبيِّ ذو الأجنحةِ المتكسِّرةِ النّورَ، فأشرقَ بنورِه في سماءِ لبنانَ، وأطلقَ في الآفاقِ اسمَ بلدةٍ مزويّةٍ بعيدة، "بشرّي" مثواه ومرج طفولته وصباه.
ولجتُ البيتَ وفي نفسي خفرٌ، وفي حلقي غصّة، وعلى صدري غمامةٌ تريدُ أن تتناثرَ مطراً.
وقفتُ أحدّقُ في الأرضِ وفي ترابها، وأرفعُ عنقي نحو أخشابِ السّقف المتآكلة، ثمّ أجولُ بناظريّ بين المتاع، فهذا سريرٌ وذاكَ صندوق!
من لي يأتيني بكَ رضيعاً يلفظهُ الرّحمُ بعدَ أشهرٍ فيصرخَ أولى صرخاتِه في يومٍ من أيّامِ سنةِ 1883، وعاشقاً تتكسّرُ أجنحتُه عندَ محاولته الأولى التحليقَ في عالمِ الحبِّ والجمال، وكافراً ومتألّماً عندَ موتِ إلهِه بموتِ أختِه الحبيبة سلطانة، وأديباً بارعاً في شتّى كتاباتِه، وفيلسوفاً في مجنونِه ونبيّه، وضعيفاً بين أنيابِ السلِّ، وراحلاً في سكرةِ الموت.
ألا فاسعدي أيّتها الأرض التي حملتِ جبرانَ بين راحتيك
وبئساً لموتٍ حمله بين نابيه!