الموضوع: زياد الرحباني
عرض مشاركة واحدة
قديم 30/09/2006   #163
شب و شيخ الشباب HashtNasht
مشرف متقاعد
 
الصورة الرمزية لـ HashtNasht
HashtNasht is offline
 
نورنا ب:
Oct 2003
المطرح:
قدامك ...مانك شايفني !
مشاركات:
3,438

افتراضي تتمة ...


علاقات المدينة

فتاة زياد الرحباني هي, بالتالي, فتاة مدينية بامتياز, والقيم التي تحملها حول الحب هي القيم المدينية, بكل تناقضاتها وجمالياتها. هي فتاة حديثة يسهل علينا أن نتخيلها بالجينز والتي شيرت, تخوض في شوارع المدينة وأمكنتها وعلاقاتها, ولا تقف ساهمة وراء نافذة البيت, متأملة الأشجار والسماء والقمر, منتظرة الحبيب, أو متذكرة إياه ومتفجعة على غيابه أو هجرانه لها. هي امرأة شارع مديني, ومطعم مديني, وبيت مديني, وغرفة مدينية. أجواء زياد الموسيقية ترسم باستمرار مثل هذه الأمكنة, وأحسب أن هذه إحدى الإضافات الجدية التي قدّمها زياد لفيروز, أي أنه حولها إلى امرأة مدينية بالكامل, لا امرأة فيها ملامح مدينية, بينما يرجع مكانها الصميمي إلى الريف, كما في كثير من نتاج الإخوين رحباني. لأن هذه النقلة إلى الحيز المديني لا تتوقف على المكان المديني وحده (وهو متوافر في عدد من أغنيات فيروز مع الأخوين رحباني), بل تنطلق إلى رحاب العلاقات المدينية المتشابكة. أغنية "يا ريت" مثلاً ترسم بيتاً لا يمكنه إلا أن يقع في الريف, في مكان ناء ومعزول "يا ريت إنت وأنا بالبيت/ شي بيت أبعد بيت/ مرمي على حدود الدني", حتى إنه بيت رمزي, لامكاني, سماوي, هو بيت الحب وفكرة الحب, ليتحول هذا البيت مع فيروز زياد إلى مكان فعلي لا يمكن تصوره إلا في المدينة: "يا ريت بيتك كان منو بعيد/ والباب تحت البيت مش حديد" ("شو بخاف", من "ولا كيف"). فعلى الرغم من أن هذا البيت بعيد أيضاً, فإن العائق الجدي هنا هو بابه الحديد, الواقع أسفل المبنى, أي أنه ليس بيتاً مفرداً, يمكن الطرق عليه فيسمع صاحبه وحده ويجيب. البيت هنا أيضاً هو بيت رمزي يعكس غياباً, لكنه في الوقت نفسه بيت واقعي. والأجواء المدينية تنعكس أكثر في المكان (الواقعي التصويري/ الرمزي)الذي تتحدث منه الحبيبة "شو بخاف/ دق عليك وما لاقيك/ شو بخاف بنص الليل ما حاكيك/ شو بحس الليلة صعبة/ بسمعها ضربة ضربة/ بيخطرلي آخد حبّة/ تا إقدر نام". الأجواء الليلة هذه, حبة المنوم, و"العلاقة" المفترضة بين الشخصين (وهي لا تبدو علاقة زواج بالضرورة, بل علاقة حميمة وحرة بين حبيبين), هذه كلها ترسم بطريقة تصويرية لا يبرع فيها أحد مثل زياد الرحباني, مكاناً مدينياً, يسهل أن نتخيل ألوانه وديكوره الداخلي, إنه مكان الحب الآخر, مكان علاقة الحب, القريبة والمباشرة, لا الميتافيزيقية والأفلاطونية.

السخرية, وهي من أهم أدوات زياد التعبيرية, وإن كان يساء فهمها أحياناً, هي أيضاً من تعبيرات المدينة. يجتمع المكان واللغة المدينيين وصورة المرأة الحديثة عند زياد بصورة نموذجية أحياناً, كما في أغنية "لا والله": "ما بتعمل شي علناً/ كلو ع السكيت/ حاجي تنفخ دخنة بوجي/ ولو بتدخن لايت... كرسي كرسي يا حبيبي/ من الحيط للحيط/ زرت الشارقة وقطر ومسقط/ جدة والكويت/ ورجعت منفض ولا قرش/ مجمع ولا خبيت" (ألبوم "ولا كيف"). هذا الرجل الذي تناديه فيروز "حبيبي" في هذه الأغنية, هو شريك فاشل في العلاقة, مطلق وعود لا ينفذها, وفي الوقت نفسه يمارس كل الإكسسوار الرجولي الاعتيادي (كما في أغنية "ولعت كتير"), وهو في الوقت نفسه لبناني حديث, ينتمي إلى زمننا الراهن, أحد أولئك الذين سافروا إلى "الخليج" لتحقيق الثروة المشتهاة والعيش الرغيد, لكنه أخفق في ذلك. صرخة فيروز في وجهه "ولك بس هو هي/ وين بعلمي العقل كبير" هي صرخة تاريخية بمعنى ما, المرأة فيها تقول للشريك الرجل إنه ما عاد يستطيع لعب الأدوار السابقة نفسها, تحديداً لأن المرأة الشريكة لم تعد أسيرة صورة الحب, ولا صورة المجتمع عنها وصورتها عن نفسها كامرأة بريئة وساذجة, تحب وتعطي بغير حساب.


حس أنثوي

غير أن المرأة في مراحل متقطعة من نتاج زياد الرحباني, ليست فقط "خسة بقلب خسة", ليست لغزاً, ولا هو فقط الرجل الضحية. الاثنان معاً نجدهما غالباً على أرض واحدة, مشتركة, أرض فقدان الحب (اللغز الحقيقي), والمقصود به دائماً عند زياد, علاقة الحب. الانغماس في الواقع والبحث عن المظاهر والصور الموضوعية للحب, ونزع القدسية والقيمة المطلقة المجردة عنه, لا يعني عدم رثائه في نهاية الأمر كما في أغنية "بتموت". الأمران يأتيان معاً كأنهما وجهان متمّمان لبعضيهما. في شريط "كيفك إنت" نجد أغنية حنونة (على الرغم من الأسى فيها) مثل "كيفك إنت" وواحدة ساخرة متحدية مثل "مش فارقة معاي". في الأغنيتين الحبيب ليس هنا, ليس حاضراً. بالأحرى الحب ليس حاضراً, إلا في أثره, أي في افتقاده. عدد كبير من أغنيات زياد الأخيرة (مع فيروز خصوصاً) يقوم على هذا الحسّ بالافتقاد, حتى حين يكون الطرف الآخر لا يزال حاضراً, كما في "مش كاين هيك تكون" التي تذكّر بـ "ضيعانو كيف خلص الحب":

"يا ضيعانن راحوا شو ما صار لكن راحوا مش سامع غنية راحوا". فالنكهة الساخرة للأغنية, واستحضار مفردات الحياة اليومية (صابون, يانسون, صالون... الخ) لا يخففا من ثقل الحس بالفقدان فيها. وهي بذلك تتساوى مع صباح ومسا":

"صباح ومسا

شي ما بينتسى

تركت الحب

وأخدت الأسى".

أو "ولا كيف":

"بترجعلي كل ما الدني بدا تعتم/ متل الهوا اللي مبلش عالخفيف/ وبعدو أليف/ بعدك ظريف/ بعدو بيعنيلك/ متلي الخريف".

أغنية تتقاطع مع "كيفك إنت" وحتى مع أغنية أخرى ساخرة النكهة مثل "ينذكر ما ينعاد":

"ينذكر ما ينعاد/ ويصيروا الإشيا بعاد/ وتسافر غير بلاد/ تا تنساني". أو "اشتقتلك": ورغم الغلطة وما حلا وقصتنا يللي حلا إنو ننساها كلا اشتقتلك/ وهيدي السجرا العتيقة يللي ما كنا نطيقها حبيتا واشتقتلا واشتقتلك".

هذه الحساسية الأنثوية لدى زياد, نابعة على الأرجح من حلّه ذلك اللغز القديم, لغز المرأة التي ليست بالضرورة كائناً معقداً مستعصياً على الفهم, إلا لأنها إلى هذا الحدّ متمسكة بـ "الحب", أو بالحب خلال ما يفترض أنه علاقة الحب. وهو تمسّك يجد الواحد منا (الرجل) نفسه عاجزاً أمامه, ومنكراً باستمرار لأهميته.

في تحويله الحب إلى مزاج مديني بالكامل, استغنى زياد عن ذلك المزاج الاحتفالي الطقوسي في أغنيات الحب العربية, اقترب من العالم الجوّاني للمرأة, تقمّصه واقتبس لغته, ليتمكن من أن يعكسه بصورة أكثر صدقاً وواقعية, وأكثر التصاقاً به وتعبيراً عنه في الوقت ذاته.

لعل هذه بعض دروس زياد الرحباني التي لم تستوعبها بعد الثقافة الغنائية العربية المعاصرة التي تنتج في المرحلة الراهنة فيضاً من الأسماء الشابة, حديثة الهيئة, وكلها بلا استثناء تغني "الحب", من دون أن تضيف مجتمعة أي بعد أو مزاج فردي أوة مديني, ومن دون أن تثير أي أسئلة جديدة, كتلك التي طرحها زياد الرحباني, فيما بات يمكننا اعتباره تراثه الغنائي والموسيقي الخاص, ولغته الفريدة في معالجة موضوع الحب.

(عن ملحق النهار).


سامر أبو هواش
شاعر وكاتب فلسطيني

J.S: Death is the solution to all problems. No man = No problem.
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.04575 seconds with 11 queries