الموضوع: أسبوع وكاتب - 3
عرض مشاركة واحدة
قديم 24/08/2009   #132
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي محمود درويش وشكل الصوت الغنائي \صبحي حديدي


-1-
تحاول هذه الورقة مقاربة الموضوع الغنائي بوصفه واحدا من أبرزا لسمات التكوينية في مشروع محمود درويش الشعري، سواء من حيث الديمومة الطويلة التي تكاد تبدأ منذ القصائد الأولى وتتواصل حتى القصائد الأخيرة، أو من حيث الحضورا لمركذي شبه الدائم في معظم النقلات الأسلوبية الكبرى التي عرفها هذا المشروع. ولسوف نتوقف عند اشكاليات مصطلح الغنائية ذاته ( وهو، كما هو معروف، بين أكثر مصطلحات نقد الشعر تعقيدا وتشابكا وتضاربا)، ثم بعض خصائص الموضوع الغنائي عند محمود درويش، كما يمكن تلمسها في مجموعته هي غنية، هي غنية (1986)، وتحديدا في قصيدة واحدة من هذه المجموعة هي "فانتازيا الناي".
واذا كان في وسع المرء أن يبدأ من القرائن الأولى البسيطة، فإن استعراض عناوين قصائد درويش طيلة ثلاثة عقود، بين عام 1966 وحتى عام 1990، يشير الى حضور مفردات الموضوع الغنائي في كل مجموعة تقريبا: "نشيد ما"، "أغنية » في مجموعة أوراق الذيتون ( 1964)، "قال المغني"،"شهيد الأغنية "? "ناي" «نشيد"، في مجموعة عاشق من فلسطين (1996)، "أغنية حب على الصليب "، "موال ". "أغنية ساذجة عن الصليب الأحمر"، "مغني الدم "، "أغنيات الى الوطن "، "الأغنية والسلطان" في مجموعة آخر الليل (1967)، "عازف الجيتار المتجول » "تقاسيم على الماء"، "أغنية الى الريح الشمالية "، "أغنية حب الى افريقيا" في مجموعة أحبك أو لا أحبك (1972)، "موسيقى عربية، "لحن غجري" في مجموعة حصار لمدائح البحر (1984)، "عزف منفرد"، "فانتازيا الناي" في مجموعة هي أغنية، هي أغنية (1986)، "رباعيات "، "جملة موسيقية " في مجموعة أرى ما أريد ( 1990).
من جانب آخر، ربما كان الموضوع الغنائي كما تجلى في القصائد ذاتها هو التفصيل الذي حظي على الدوام بقدر ملموس من افصاح درويش عن "النوايا الأسلوبية "، إذا صح هذا التعبير. ومن المعروف أن درويش نادرا ما يعلق باسهاب على نصوصه الشعرية، ويحدث غالبا أن دارسيه يقتنصون إشارة هنا أو إشارة هناك من حواراته وأحاديثه. ولحسن حظ دارسه، لا يبخل درويش في هذا المضمار، وتكاد بعض أقواله تذهب مذهب الحيثيات القاطعة الدالة على هذا أو ذاك من شؤون شعره، فتقتبس على نطاق واسع وتحتل موقعها لأسباب عديدة تتجاوز أحيانا حكمة إطلاق تلك الأقوال في الأساس.
ومما يلفت الانتباه أن درويش توقف مرارا عند تفصيل هام منتزع من سيرته زمن الطفولة، ذي صلة جوهرية برؤية الشخصية لمفهوم الشعر اجمالا، وبالموضوع الغنائي على وجه لتخصيص. وأنقل هنا هذا التفصيل كما رواه الشاعر في حوار مع التلفزة الفرنسية قبل أسابيع معدودات:"بدأت علاقتي بالشعر عن طريق علاقتي مع المغنين الفلاحين، المنفيين من قبل الشرطة. كانوا يقولون أشياء غريبة على درجة من الجمال بحيث أنني لم أكن أفهمها، ولكني كنت أشعر بها، وهكذا وجدت نفسي قريبا من أصوات الشعراء الجوالين المغنين، وقيما بعد أخذت استمع الى الشعر العربي الكلاسيكي الذي يروي مغامرات عنترة وسراه من الفرسان، فاجتذبني هذا العالم وصرت أقلد تلك الأصوات، واخترع لنفسي خيولا وفتيات » (1) قبلئذ، في عام 1987، قال: «مازلت أطلب الغناء وأرفض الرومانسية، مازلت أحث الواقع، بكل ما فيه من مفارقات وتناقضات وعبث، وأصر على الغناء الذي لا يشبه الغنائية المعروفة. لقد أراحني يانيس ?يتسوس حين وصف شعري بأنه ملحمي غنائي، أو غنائية ملحمية » (2) وفي عام 1970 كان قد قال: "أنا منحاز للغناء في الشعر. إن المناخ الانساني الحذين يقتض الشفافية في التعبير، ا وأحيانا لا أجد هذه الشفافيه إلا في الغناء» (3).
لقد أراحه يانيس ريتسوس، ولكن أنى لريتسوس أن يريح دارسي الموضوع الغنائي عند محمود درويش. الاجماع قائم وشامل حتى أننا لا نعثر على استثناء واحد لا يضع الغنائية في رأس التوصيفات العديدة الخاصة بشعر درويش، فكيف باستثناء ينفي الغنائية عن مشروعه. ولكنه عموما ليس الاجماع الناجم عن اشتغال نقدي معمق يبدأ من النصوص ذاتها لكي يستصدر الأحكام بوحي منها واستنادا الى ما تعرب عنه من خصائص، بل هو لسوء الحظ اجماع غائم في معظم الحالات، وهو بالتالي اجراء لا يسلط المذيد من الضوء على ظاهرة أسلوبية معقدة أصلا، بل يكتفي باعادة انتاج الضوء القديم المقيم ذاته، اذا لم يسلط بعض العتمة !
ولسنا نقصد توجيه اللوم هنا، ولسوف نوضح بعد قليل مقدار ما يثيره مصطلح الغنائية من اشكاليات عويصة تسقط قسطا كبيرا من الملامة عن دارس شعر درويش، وان كانت لا تعفيه البتة من واجب المحاولة الثانية في أضعف الايمان. وما يذيد الأمر سوءا أن المصطلح يقاس عادة بقرينة أحادية هي الأداء الغنائي الصائت، أو"النغم » في مغناه التطريبي المبتذل، أو حتى بالقصيدة التي لا تكتب إلا لكي تعطى الى المطرب، الذي يحملها بدوره الى الملحن. أكثر من ذلك. يحدث أن ينقلب الخيار الغنائي الى "شتيمة" أو "وصمة عار"عند بعض الشعراء العرب، لأن الغنائية هنا هي تذكره على نحو ما بالأوزان التقليدية بطبولها وصنوجها وتطويباتها التي أكل الدهر عليها وشرب، ولا يعقل أن يلجأ اليها شاعر يشتغل على تقنيات مختلفة مثل "تفجير اللغة » و" الايقاع الداخلي ".
وبالطبع يتجاهل هؤلاء، إذ لا يعقل أنهم يجهلون حقيقة حضور الغنائية الى درجة الانفجار الصرع في نص مثل "نشيد الانشاد"، أو في المقطع الشعري التالي من محمد الماغوط على سبيل المثال:
كن غاضبا أو سعيدا ياحببيي
كن شهيا أو فاترا، فإنني أهواك.
يا صنوبرة حذينة في دمي
من خلال عينيك السعيدتين
أرى قريتي، وخطواتي الكئيبة بين الحقول
أرى سريري الفارغ
وشعري الأشقر متهدلا على المنضدة
كن شفوقا بي أيها الملاك الوردي الصغير
سأرحل بعد قليل، ومحيدا ضائعا
وخطواتي الكئيبة
تلتفت نحو السماء وتبكي.(4)
وفي كل حال، من الانصاف القول أن اجتهادات دارسي الموضوع الغنائي عند محمود درويش تمتلك جميعها ما يمتلكه أي اجتهاد من فضيلة مزدوجة. لها أجر على المحاولة في الأساس وحتى حين تخطي،، ولها بالطبع أجر ثان حين تصيب، إذا جاز لنا اقتباس الحديث النبوي الشريف في هذا المقام. ومن الطبيعي استطرادا، أن نعثر على معالجات "دراماتيكية » لهذا الموضوع، وعلى أخرى رصينة أو تلم بمقدار كبير من النطاق الواسع المعقد، النظري والتطبيقي، الذي تشغله الموضوعات الغنائية في أي مشروع شعري كبير. وهكذا على سبيل المثال، نقرأ ما يلي من شاكر النابلسي: (درويش) يحاول أن يقدم دائما السؤال الوطني والسؤال الفكري عن طريق قلبه، وليس عن طريق عقله أو ذهنه وهذا الذي يأخذ شعره الى الغنائية دائما. لذا فقد كانت الأغنية رمزا لهذه التجربة في شعره. رمزا لأن تمر كل التيارات عبر قلبه، لا عبر عقله. ولذا فهو يغني دائما. يغني، ويغني ويغني، ما استطاع الى ذلك سبيلا، حتى لا يقتل الرمز، ويقتل المرموز، ويقتل الترميز في شعره. ذلك أن النغم يخدر الوعي، ويدع الروح تتحرر، ويترك الشاعر يرسل بحرية، عبر النغم، والأغنية، وهو في حالة تآلف بينه وبين الكون » (5).
أو نقرأ بالمقابل، ما يقوله غالي شكري: "كان درويش عميق الانصات للحوار السري بين الانسان والطبيعة وسريع الالتقاط لهمسات المعاني الملتبسة في تراكيب اللغة. أي أنه رغم افتراضه "البساطة " في القصيدة الغنائية جاءت قصيدته باصطياده غير (المألوف من أعماق العادي والمألوف كيانا مفتوحا على الدلالة المجردة في قلب الصورة المجسدة. وهي الصورة التي أسست لغته من ترابط الايقاع والدلالة، ويتابع غالي: "ومن هذا المفهوم الأول للشعر الغنائي أقبل معجمه الخاص في اللغة، بمفرداتها وتراكبيها ودلالاتها. معجما من صناعة الخيال الخلاق، الخيال المثقف بهذا القدر أو ذاك من المعرفة والخبرة البشرية والقدرة على إقامة حوار غير مسبوق بين اللغة والناس والأشياء، وبين أسرار الأزمنة والتضاريس المجهولة في جغرافيا الروح. هذه اللغة التي استجابت للصورة المركبة بديلا للصورة المسطحة في الخارج أو المكورة داخل الذات، الصورة المركبة من الوعي واللاوعي، من الذاكرة الشعبية (التاريخ) والخيال القادر على التركيب. هذه اللغة أيضا هي التي استجابت للصوت المركب من حوار الطبيعة والانسان حوار الأنا والآخرين، وحوار الزمان والمكان، فلم يأت صوت الشاعر أحاديا أو متعددا بين المفني العربي القديم والكورس اليوناني القديم، وانما صوت مركب لا ينوب عن، ولا يوجز، ولا يختزل ولا يفني لنفسه. إنه صوت الشعر، لا أي صوت آخر"(6).

شُذَّ، شُذَّ بكل قواك عن القاعدة
لا تضع نجمتين على لفظة واحدة
وضع الهامشيّ إلى جانب الجوهريّ
لتكتمل النشوة الصاعدة
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.05998 seconds with 11 queries