الموضوع: نزيه أبو عفش....
عرض مشاركة واحدة
قديم 07/10/2006   #25
صبيّة و ست الصبايا سرسورة
مشرف متقاعد
 
الصورة الرمزية لـ سرسورة
سرسورة is offline
 
نورنا ب:
Nov 2005
المطرح:
syria-homs-damascus
مشاركات:
2,252

افتراضي


ما يشبه كلاما أخيرا...(الجزء الاول)....





لم يكن نوراً..

كان شيئاً شبيهاً بما يصدم عينَ جنديٍّ خائف

قَذَفتْ به قنبلةٌ إلى قلب العماءْ.

لم تكن عدالةً..

كانتْ مأدبةَ سفاحين.

لم يكن هواءً..

كان دخاناً طائشاً يخرّشُ نسيجَ السماءْ.

لم تكنْ بلاداً.

لم يكنْ بستانَ سابلةٍ صالحاً لرفعِ أرجوحة

أو مدِّ فراشِ حبّ.

حتى ولم تكن أرضاً صالحةً لحراثةٍ.. أو سعيٍ..

أو تشييدِ مقبرهْ:

كان عماءً خالصاً.

كان عماءً فحسب.


وكان أمامي وحولي قضاةٌ فَتَكةٌ، وكهنةٌ يشحذونَ السيوفَ،

وبغايا عفيفاتُ الأعينِ والأهدابِ.. يُطيِّبْنَ شواربَهنَّ بماءِ

قرنفلٍ وشحومِ شهداءَ عاثري الحظّْ.

كنتُ أراهم فوق منصّتهم المرفوعةِ على الرماحِ وعظام ِ

الموتى، تحتَ أضواءَ كاشفةٍ ... وهديلِ ثكالى.. وصياح ِ

مهرّجينْ، يستعدّون لإصدار أوامرهم بإعدامي حرقاً حتى

الموت..

(وكأنما كان في القواميس ما ينصّ عل إعدام ٍ حتى الحياة!!..)

سيقول القضاةُ:

إنني لم أكنْ أومن أن الحريةَ تزدهر في ظلالِ المقاصلِ

والشمسَ تُشرق من قبور الأموات

والعبوديةَ أطيبُ من النبيذ والفوضى!...


سيقولون إنني... إلى آخره ِ.. إلى آخره ِ.. إلى آخره

فيما الكهنةُ يتمنون لي موتا ً سعيداً

ويباركون جبهتي بزيت ٍ مطَّيب ٍ بالأسيد ِ.... والقطران ِ..

وروح ِ البنفسج ْ

!......

كان حُماتي يتآلبون عليي

وأمّهات ُ حيرتي يُلْقِمنَني أثداءَهن َّ محشوة ً بالأكاذيب ِ..

والسم ِّ.. والأغاني.

وكنت ُ وحدي ...

لأنني كنت ُ وحدي


كنتُ ُ، بين النعاسِ والحيرة ِ،

أتنصّّت ُ إلى حفيف ِ أجنحة ِ الله إذ يعبر ُ بين النجوم ْ

ألتقط ُ رسائله وأرد ُّ عليها بالأنين ِ والصمت ِ والدموع ْ:

يا رب ْ

أنت َ، يا رب َّ السفهاء والقضاة ِ والبرابرة ْ

رب َّ العناكب ِ والملوك ِ والعقارب ْ

رب َّ الضباع ِ والجنود ِ والفلاسفة ْ

رب َّ الشعراء الرماديّين

ذوي الأسنان ِ المنخورة ِ

والأعين ِ الجاحظة ِ

والجلود ِ المفضَّضة ِ كحراشف الأسماك ْ

رب َّ قابيلَ.. وموسى.. وفحول ِ الظلمات ِوالدم ِ والحرير ْ

رب َّ القنافذ ِ والمومياءات ِ وملائكة ِ السجون ْ

اُنظر ْ في قلبي

اُنظر إلى قدمي ْ، وساقي ْ، وصدري،

وما يسيل ُ على فمي من وجع ٍ.. وفاقة ٍ.. وأنين ْ

اُنظرْ..

حيث تعبرُ قوافلُ مؤمنيكْ

محفوفةً بالأكاليل ِ

والنعوش

وأضاميم ِ الآسِ الطاردة ِ للوحشة ِ..

والديدان ِ.. والنعاس ْ.

حيث ُ يئنُّ الأمواتُ من الضجر

وتَزْرَقُّ قلوبُهم من الخوف

وتطفحُ على أطرافِ لحاهم أعشابٌ مائعةٌ

لا تنبتُ إلا في الكوابيسْ.

اُنظرْ إلى صدور المحاربينْ..

حيثُ تختلطُ اللهفةُ بالنشيج

والشهقةُ بالأمل

ودقيقُ عظامِ الموتى.. بحريرِ أكتافِ نساءِ الأحلامْ.

اُنظرْ إلى غصّتي ترنُّ في الظلام

كخاتمٍ على حافّة كأسٍ من الزجاجِ النبيلِ النبيلْ.

اُنظرْ إلى تعاستي ويأسي

وإلى كم أنا خائبٌ، ضعيفٌ، ومذعورْ

وكيفَ.. أنا .. وحدي.


كنتُ وحدي..

أرى، من كُوَّتي، سماءً وجبلاً يحزّانِ في قلبي

كوردةٍ مشكولةٍ في قميصِ ميتْ..

أسمعُ خوارَ أبقارٍ

ورفيفَ أجنحةٍ

وصيحات رعاةٍ، وكلابٍ، وديكةٍ، وصيّادينْ.

تنبضُ السهولُ في ذاكرتي

فأشمُّ روائحَ النباتِ تسوقها إليَّ الريحُ من أطرافِ الحقولْ.

أغمضُ عينْي..

فأرى صبياناً وبنات يشاركونني الغناءَ

ويتعقّبونني في غزواتِ الكرومْ..

عرفتُ أنني- وأنا بعدُ حيٌّ- مدفونٌ في قبري

كقدّيسٍ يافعٍ ضلَّ سواءَ السبيلْ

فصِحتُ في داخل نفسي:

ما أبهجَ الحياةَ وأشقّها..

ما أوجعَ الحياةْ!..


وكنتُ وحدي

لأنني ... كنتُ وحدي.


ولأنني كنتُ وحدي.. فلقدْ تأمّلتُ في الظلامِ كأنني

أصلّي، وبما يكفي لأنْ أعرفَ أن كلَّ شيء قد صار ورائي،

ولم يعدْ لي ما آملُ به غير النوم ِ والنسيانْ.

صرتُ أعدُّ على أصابعي مقدارَ ما فاتَ من جنونٍ، وما بقي

من آفات ِ قلبْ، فيما الأصدقاءُ يعاتبونني على يأسٍ لم يكنْ

من صنعي، وسوادٍ لم أكنْ من سيَّلَهُ على حوافِّ الدنيا،

وخرابٍ لم أشاركْ فيه ِ.. إلاّ كما شاركتْْ حواءُ في خلق

التفاح ِ، والرذيلة ِ، والأفاعي..

والعبيدُ في صنع ِ الأغلال ِ والقوانينْ..

والأمواتُ في تلفيقِ أناشيد النصرْ.


فقعدتُ أبكي

دون أيّ حياء ٍ من شاهد يشهدُ

أو عدو ٍ يشمتُ

أو سماء تلوم.

منذ خمسين عاما ً وأنا أبكي

فأبكي.........

لا كطفل ٍ أضاعَ شيئا ً عزيزاً.. إذ لم يكنْ لديّ من متاع ِ

اللقطاء غيرُ الغبار ِ، والخلِّ، ورماد ِ الذكرياتْ،

ولا كامرأة ٍ فقدتْ وليداً، أو زوجاً، أو قرطَ نحاسْ..

فأنا أشَدُّ رثاثة ً من أنْ يكونَ لي ما يُفقَدُ.. أو يُبكَى،

ولا كرجل ٍ..

لأنَّ الأمواتَ لا يبكون رجولة ً لا يعرفونها، والعبيدَ لا

يتحسّرون على حريةٍ لم يذوقوا طعمها إلاّ في الأحلام ِ

والأغاني وأعراس ِ اللصوص، ولا يندبونَ مجداً لا يتذكرون

عنه غيرَ ما تتذكرُ الديدانُ عن سعيها المرير ِ في الطينْ.

حتى ولا كدودة ٍ..

إذْ كانَ لي قلبٌ، وعينان ِ، وروحٌ أمّارةٌ بالجمالْ.

ولا كحلزون ٍ..

إذْ لم يكنْ لي قوقعةٌ أتحصّن فيها

وأحلمُ بحلزونتي إذْ يهبُّ الخريفُ على أديم ِ الترابْ.

ولا كأحد ٍ شبيه ٍ بي، إذ.. كنتُ أبكي

فقعدتُ أبكي.

.. .. .. .. ..

ورأيتُني عاريا ً وفقيراً ولا شأنَ لي..

قلتُ: يا ربُّ أين قميصي

وأينَ حذائي، وسلّةُ خبزي،

وما وُعِدَ الوُدَعاءُ به من نبيذٍ وقمحٍ؟؟؟

قلتُ: أين طريقي.. لأعْبرَ منهُ إلى مدنٍ غير هذي

وأهل ٍ سوى هؤلاء ِ

وقبر ٍ أقلَّ ظلاما ً؟؟؟

وأين هم رُسُلي، ورعاتي، وساسةُ خيلي؟

وأينَ أخي ، وابنُ عمي؟

وأينَ الشهودُ لكي يشهدوا؟

أينَ أمي التي دوّرتْ صيحتي في بساتين ِ أحشائها

كلَّ هذي الشهور ِ..

فلمّا خرجتُ إلى النور غلّتْ يديَّ وسدّتْ فمي ببقايايَ

ثم بكتْ فوق سلَّة نومي.. فسالتْ على زهرة ِ القطن ِ أنَّتُها

وتلطّخَ بالدمع ِ ثوبُ نعاسي؟!

وأينَ أبي؟..

يا أبي.. يا أبي

يا صديقي، تلفَّتْ إليَّ قليلا ً

لأعرفَ أين أنا الآنَ ممّا تمنّيتَ لي

ورسمتَ على جبهتي من فنون ِ الرعاة ِ وأفكارهمْ..

تلفّتْ إليَّ قليلا ً.. لكي أتعرّفَ عينيك َ في محنتي

مِلْ عليَّ.. وهّدْهِدْ ظلامي لكي يخرجَ الليلُ منّي

فتهدأ روحيَ فيَّ

تقدّمْ إليَّ..

وقُدْني إلى طرف ِ الحقل ِ حيثُ ينامُ أقارُبنا نومةَ الموت ِ

مفترشينَ معاطفَهم وبيارقَ أعراسهم..

فيمدّونَ راحاتهم صوبنا من شقوق مقابرهم

ويئنّون من شدَّة ِ البرد ِ،

قلْ لي كلاما ً جميلا ً، وخذني إلى كتفيكَ كما يؤخذ الطفلُ

خذني ودغدغْ نعاسي بكفّيكَ

خذ ْ يأسَ قلبي..

فقد كنتَ مثلي ضعيفا ً

وكنتَ، إذا عصَفَ الخوفُ، تنهدُّ حتى...

تتضوَّر روحكَ من حمله ِ

ويخونكَ قلبُ الفقير ِ

فتبكي....

ثم تقعدُ، خلفَ الجدار ِ، تغني

وأيضا ً تغني.. فيحسبنا العابرونَ ملوكا ً.

وتبرأُ أرواحُنا بالدموع ِ..

فنشربُ نخبَ سعادتنا.


كأنما، يا أبي، كنّا بشراً إلى حينْ:

كانت جدتي تعتقدُ أننا فقراء لأنّ الله لا يحبنا.. إذْ لم

تكنْ أمي تذهب إلى الكنيسة ِ إلاّ لِتَفقُّد ِ الأعراس ِ وحمل ِ

الأزهار ِ إلى جنازات ِ الموتى.

على أنني- يومها- لم أكنْ قادراً على رؤية ما يسيلُ داخلَ

عينيْ أمي من ظلام ٍ ودمع: كنتُ ما أزالُ أتدرّبُ على

الصلاة ِ، والكذب ِ، والتلذّذ ِ برائحة البخورْ..

كنتُ- كجميع ِ القدّيسينَ- ذكيا ً.. وأعمى.

.. .. .. .. ..

كأنّما كنّا بشراً إلى حينْ.


كنا نموتُ سبعَ مرّات ٍ في اليوم.. ثم ننصرف، في

أوقات ِ فراغنا، إلى تأليف ِ كتب ٍ وأناشيدَ تُمجِّد الجزّارين،

والبهائم، والحياة...

كنا بشراً إلى حينْ.

ان الحياة كلها وقفة عز فقط.......

شآم ما المجد....أنت المجد لم يغب...
jesus loves me...
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.06253 seconds with 11 queries