عرض مشاركة واحدة
قديم 23/08/2008   #10
شب و شيخ الشباب achelious
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ achelious
achelious is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
المطرح:
الغدّ
مشاركات:
2,008

افتراضي


الوردة

في شهر أيار، كانت توجد في حديقة هذا البيت الصغير في الضاحية، بالقرب من أشجار الورد، صفوف من الملفوف. كان المالك، وهو عجوز متقاعد، يعيش وحيداً مع طاهيته، يخلع سترته عند الغسق، ويلبس مئزراً من القماش المخطّط وينكش الأرض بالمعول، ويشذِّبها، ويسقيها ساعة، في انتظار وجبة العشاء. وكانت نساء الحيّ تستطيع رؤيته، وهن عائدات مساءً من الحدائق العامَّة مع أطفالهن، من خلال قضبان الشبكة المعدنية، فيما هو يوجِّه الفوارة على المساكب حاملاً خرطوم الماء بيده. وكان الرجل المتقاعد يقطف، من حينٍ لآخر، ملفوفةً، ويعطيها لطاهيته؛ أو يقص بالمقراض بعضاً من تلك الورود، ويضعها في زهرية في منتصف الطاولة، في قاعة الطعام. وعندما يجد وردة جميلة جمالاً خاصاً، كان الرجل المتقاعد يحملها إلى غرفته، ويضعها في كأس بعد ملئها بالماء، ويضعها على منضدةٍ قرب سريره. وكانت الوردة تبقى في الماء تنظر إلى رأس سرير العجوز، حتى تسقط أوراقها، وتتفتَّح كل بتلاتها مثل الأصابع، وتكشف عن قلبها الأشقر والوَبِر. لكن المتقاعد لم يكن يرمي الوردة إلا عندما يجد بتلاتها منثورةً على رخام المنضدة، ولا يوجد في الماء الذي فتر والمليء بالفقاعات سوى الساق المليئة بالأشواك.‏
وفي صباح أحد أيام شهر أيار، انقضَّت سيتونية(1) مذهَّبة كبيرة، تتبعها ابنتها التي لا تزال شابة، بعد أن حلَّقتا سدىً في حدائق المنطقة، ولم تجدا أية زهرة وقد شاهدتا، من بعيد، مساكب المتقاعد، انقضتا على ورقة شجرة زعرور جرماني، عريضة وقاسية؛ وهنا قالت الأم لابنتها بعد أن استردَّت أنفاسها: "ها قد وصلنا إلى نهاية تجوالنا. فإذا ما انحنيتِ ونظرت إلى الأسفل، سترين زهرات عدة لا تنتظر سوى مجيئك. فنظراً لصغر سنِّك، أردت حتى الآن مرافقتك ونصحك في اختيار الورود وعلاقاتك معها... كنت أخشى أن تتعرض صحتُكِ الجسدية والنفسية للخطر بفعل حداثة الأحاسيس وعنفها إضافة إلى النهم الخاص بشبابك، لكنني وجدت أنكِ سيتونية عاقلة، مثل باقي سيتونيات عائلتنا، وقرَّرت أن الوقت قد حان، من الآن فصاعداً، لكي تعتمدي على نفسك وتحلِّقي بأجنحتك نحو الورود التي تفضلين؛ فمن الأوفق إذاً أن نفترق نهاراً كاملاً؛ وسنعود ونلتقي على ورقة شجرة الزعرور هذه. لكنني سأعطيكِ قبل أن نفترق، بعض التوصيات. تذكّري أن السيتونية خلقت لتلتهم الورود. أو، على العكس، خلق الله الورود كي تتغذّى السيتونيات عليها. وبخلاف ذلك، فلسنا نجد لماذا تصلح هذه الورود. وإذا لم تجدي ورداً، أمسكي وامتنعي عن الطعام، فمن الأفضل تحمّل الجوع على مسّ غذاءٍ غير جدير بعِرقنا. ولا تصدِّقي مغالطات دود الأرض والرعاع الآخرين، الذين يدَّعون أن جميع الورود جيدة. هذا ما يبدو، في أول الأمر لكن بعد ذلك تنكشف بعض الأمور. وبعد أن ينقضي زمن الشباب، تكشف السيتونية التي انحطت، النقاب عن جميع نقائص انحطاطها المخجلة؛ وعليها، بعد أن يتم إبعادها عن قومها أن تقاوم صحبة الخنافس والزنابير والطفيليات، وقائمة طويلة أخرى من الهَنات(2). لأن الوردة، يا صغيرتي، هي غذاء إلهي، قبل أن تكون غذاءً مادياً. ومن جمالها، تنهل السيتونية جمالها هي. إنها أشياء غامضة، ولن أعرف أن أقول لكِ أكثر من ذلك. وأعرف ببساطة، أن بعض القوانين، التي تدعى، بدقةٍ، إلهية، لم تُنْتَهك أبداً دون عقاب. لكنكِ لست بحاجة لمثل هذه التحذيرات، فأنتِ سيتونية سويَّة ونزيهة، وتحكمين بالفطرة على بعض الأشياء. فإلى اللقاء، يا صغيرتي، إلى اللقاء هذا المساء." وبعد أن عبَّرت عن أفكارها على هذا النحو، طارت الأم الشجاعة، لأن وردة قرمزية ضخمة، تفتَّحت أوراقها قبل هنيهة، كانت الآن تستهويها، وتخشى أن تسبقها إليها سيتونية أخرى، أو أن تستميل صراحة، ابنتها.‏
وبقيت السيتونية الفتيَّة بضع دقائق أخرى على ورقة شجرة الزعرور تتملَّى حديث أمها. ثم طارت بدورها.‏
إن أحداً آخر غير السيتونية، لا يمكنه أن يتصوَّر ما هي الوردة لسيتونية. فتخيَّلوا الزرقة في شهر أيار، تجتازها موجات شمسية بطيئة، في حديقة مزهرة. وها هو سطح منتفخ وأبيض يظهر أمام عيني السيتونية المحلِّقة والتي يداعب ظلّها بتضاريسه المُهيبة، ويتوِّج الضوء حوافه المتألِّقة؛ سطح واسع وناعم، مماثلٍ لسطح ثدي مثقل بالحليب. إنها الورقة الخارجية لوردة بيضاء، لا تزال منغلقة، لكنها عريضة عند الأطراف، وتكشف عن أوراق أخرى متراصَّة وملتوية بعضها على بعض. وقد أثار هذا البياض الشاسع والبكر، الذي اكتسح فجأةً سماء عينيّ السيتونية، هيجاناً شرهاً، فاتناً ولاهثاً. وكان أول اندفاع شعرت به، هي أن تنقضَّ برأسها أولاً، على هذا اللحم الرائع غير المحمي، وتنهشه، وتمزِّقه لتدمغه بندبة استحواذها المسبق عليه. لكن حدسها أوحى لها بطريقة أكثر نعومة لولوج الوردة؛ وها هي تتشبَّث بحوافي ورقةٍ مفرطة وتتسلل إلى داخل الوردة. كان في الإمكان رؤية جسم السيتونية الأخضر- الذهبي برهة، مماثلاً ليد تندس بين أغطية سرائر من الكتَّان الأبيض، يتخبَّط بيأس، محاولاً شق طريقٍ لنفسه؛ ثم اختفى تقريباً، واستعادت الوردة، المنتصبة على ساقها، مظهرها المألوف، شبيهةً بفتاة شابة، تحتفظ تحت مظهر البراءة العذرية، بالسر الحارق لأول عناقٍ غراميّ لها. لكن، فلنتبع السيتونية في قرارة الوردة. كل شيء حولها ظلام؛ لكنه ظلام نديّ، ذكيّ الرائحة وناعم؛ ظلام يحيا ويخفق في ثناياها الخفيَّة، مثل ثنايا فمٍ مُشْتَهى؛ والسيتونية ذاهلة بعطر الوردة، مبهورة ببياضها الذي تسبره بين البتلات التي تنطبق ثانيةً، وقد اهتاجت بليونة هذا اللحم. وهي ليست سوى رغبة، كما أن الوردة ليست سوى غرام؛ وبحبٍّ جنوني فطري، بدأت تلتهم الأوراق. ليس الجوع، كما قد يُظن خطأ، ما يدفعها إلى تمزيق البتلات وخرقها، لكنها الرغبة المجنونة في الوصول إلى قلب الوردة بأسرع وقتٍ ممكن. إنها تعصر بين براثنها، وتمزِّق، وتقطِّع، وتخزق، وتجزِّئ. وفي الخارج، لا يشك أحد بأمر هذا الولوج المجنون؛ وتحتفظ الوردة المنتصبة والبِكْر تحت ضوء الشمس، بدون خجلٍ، بسرِّها. لقد كسرت السيتونية، في أثناء ذلك الوقت، بهيجانٍ متزايد، غلاف الوردة الأول، والثاني والثالث. وبمقدار ما كانت تلج، كانت الأوراق تصبح أكثر نعومة، وأزكى رائحة، وأكثر بياضاً. وشعرت السيتونية بأنه سيغشى عليها من المباهج، وأن قواها ستخور تقريباً، وتضرب ضربةً أخيرة ببراثنها، وتفتح في متراس البتلات القاتم، فتحة نهائية، وتُدْخِل رأسها أخيراً في الفرو الأبيض والمُسْكِر لغبار الطلع. وستبقى هنا، دائخة، ضائعة، منهكة وكأنها ميتة، في هذه الظلمات الندية والمعطّرة؛ لن تتحرَّك، وستبقى جامدة، ساعات، وأياماً كاملة. أما، في الخارج، فلم يُفْشِ أدنى ارتعاش للأوراق، تحت براءة أشعة شهر أيار، سرَّ الوردة المثير.‏
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.03882 seconds with 11 queries