عرض مشاركة واحدة
قديم 31/08/2008   #14
شب و شيخ الشباب achelious
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ achelious
achelious is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
المطرح:
الغدّ
مشاركات:
2,008

افتراضي


بعد هذه البدايات السعيدة، لم تفعل الشجرة سوى النمو. كان الجذع، الذي هو بحجم ساق، ينتصب تقريباً حتى منتصف الجدار، بَميَلان قليل نحو مركز الغرفة. واتخَّذت القشرة هيئتها النهائية، قشرة ناعمة، عسليَّة، فاتحة، بيضاء هنا، صفراء هناك، وأعلى بزرقة السماء، قريبة جداً من قشرة الأوكاليبتوس. كان للشجرة أربعة أغصان رئيسية. يميل أحدها إلى جهة الصِوان، مُخْفياً بخطٍ غير متوقَّع، الزجاج الذي كسره أوديناتو. والثاني يميل لجهة المدفأة، حيث كانت المرآة المتحرِّكة، التي تزيِّن الساعة ذات الطراز "الإمبراطوري"، إنها تختفي الآن، في الخضرة؛ والثالث، الأكبر ربما، لأنه كان أكثر حرية في التمدُّد على راحته، تتقدَّم أوراقه تقريباً إلى وسط قاعة الاستقبال، والرابع أخيراً، يقف عمودياً، وينسحق على زاوية السقف. باختصار، كانت الشجرة تتنامى.‏
ودعت كارينا، وهي في قمة سعادتها صديقاتها الحميمات جداً، لتأتين لتأمُّل الشجرة. وأتت النساء يملؤهن الفضول، لأنهن سمعن الحديث عن الشجرة بغموض، ويعتقدن حقيقةً أن الأمر يتعلَّق بنبتة "فوشية" (5) أو "أزالية" (6)، وباختصار بذاك النوع من النباتات العادية التي تضعها السيدات في أصيص، في زوايا قاعة الاستقبال. لكنهن تجمَّدن عندما وجدن أنها شجرة حقيقية، لها جذور، وجذع، وأغصان، وكل شيء، ابتكار فريد في نوعه، حتى في زمن الحداثات الغريبة هذا. لذا، سكتن بضع ثوانٍ، من الذهول والحسد، وليس فقط كلامياً، بل عقلياً أيضاً. وأخيراً، لم تعد تلك الثرثارات يعرفن ماذا يَقُلْنَ أو بماذا يُفَكِّرن. بعد خروجهن من منزل كارينا، استعدن شجاعتهن وقُلْنَ في أنفسهن إن الشجرة لم تكن هذا الشيء الخارق، بالدرجة التي تصوَّرتها صاحبة المنزل. وقالت إحداهن: "حسناً، كانت شجرة، وإذاً؟ كان من الأطرف لو وجد في قاعة الاستقبال، ما أدراني أنا؟ مِطْيَرَة (7) أو شبل داجن". وأضافت امرأة أخرى: "بماذا تفيد الشجرة؟ إنها ثابتة مثل صخرة، صامتة مثل سمك الشبوط (، وليس باستطاعتنا القول إن بإمكان كارينا استخدامها للوقاية من الشمس. فجدران المنزل تقوم بتلك المهمة. وختمت الشريرات قائلات: "كلا، إنها شذوذ حقيقي، بل أكثر من ذلك: ذوقها مريب.‏
بعد أسبوع، بلغ قطر الشجرة البالغة الآن متراً ونصف المتر عند القاعدة. وازداد ميلان الجذع نحو وسط الغرفة، حتى ليقال إن الشجرة كانت تمد ليس أغصانها، بل ذراعيها، لتستحوذ على الغرفة، ولون القشرة الفاتح واللَّحمي يؤكِّد هذا الشعور الحيواني المجسِّي (9). وتنغرز جذورها الضخمة والملتوية، مثل المخالب بين لويحات الأرضية، رافعةً وقالبةً إياها. كانت كارينا، وهي فريسة لهوى شجرتها، قد أخلت قاعة الاستقبال بأكملها.‏
كان من الغريب حقاً الدخول إلى هذه القاعة الكبيرة، ولا نجد بين جدرانها الأربعة العارية، المغطاة بالورق الموشى، سوى شجرةٍ ضخمة، وحيدة ومنفيَّة في زاوية، مماثلة لأخطبوط نباتي، بأذرعها الكثيرة الورق، الممدودة لتعجَّ في هذا الحيِّز أو المنتصبة لاكتشاف السقف. كان هذا الكائن الضخم المهيب، يدهش بأنه لا ينطق، ولا ينادي بصوتٍ كئيبٍ وحانق. والحال أن أوديناتو، شرط تركه وشأنه، لم يعد يزعج زوجته أبداً. لكنه كان يطلق مكبوتاته خفيةً جالساً مع أحد أصدقائه في مكتبه، ويقول:‏
"ليس لأني أعترض على الشجرة بحد ذاتها، لكن لكل شيء مكانه... الأشجار في الغابة، والإنسان في منزله.. ماذا تعني شجرة في قاعة الاستقبال؟ هذه الطريقة في رزِّ الطبيعة داخل‏
المنازل، هي حداثة شمالية... إن الشماليين يملؤون منازلهم بالنباتات، ربما لأنهم لا يزالون يذكرون الزمن، القريب العهد، الذي كانوا يختبئون فيه، في تجويف شجرة البلوط.. أما نحن، فإننا ننتمي إلى حضارة أقدم... ولا نحتمل الغموض أو العدوى... مدننا مصنوعة من الحجارة.. يبدأ الريف خارج الأسوار، وليس ضمن الجدران!..." هكذا كان يوضِّح فكرته، بوقار. لكن أصدقاءه كانوا يقولون فيما بينهم إنه رجل ضعيف، وإن زوجته، كما يقال، هي التي ترتدي البنطال في منزله.‏
أخيراً، وفي ليلة جميلة من ليالي ذاك الصيف، أيقظت فرقعة رهيبة الزوجين، تبعتها فرقعة كمية كبيرة من الأنقاض. ركضا نحو قاعة الاستقبال، وأول شيء رأياه من خلال فتحةٍ كبيرة في السقف، هو النجوم والهلال. هتفت كارينا وهي تركض لتقبلّ جذع شجرتها العزيزة شجرتي العزيزة تريد تنسُّم الهواء العليل!" فكرَّ أوديناتو: "هاكم كيف هنَّ النساء". لكنه، هنا أيضاً، لم يستطع الاحتجاج.‏
بعد شهر، كانت الشجرة تملأ قاعة الاستقبال بأكملها بأوراقها المضغوطة والمتشابكة. كانوا يفتحون الباب ويجدون أنفسهم وجهاً لوجه، كما يقال، مع غابة. أوراق، وأوراق، وأوراق. في مثل هذه الظروف، لم يكن مدهشا ًأن يجد أوديناتو ذات ليلةٍ الشجرة، صراحةً، في سريره. لا أكثر ولا أقل. كان غضن قد دخل الباب المحطَّم وتقدَّم نحو السرير الزوجي للرجل المثقَّف. ووجد الزوجان نفسيهما مفصولين نهائياً، بحاجز من الأوراق والأغصان. وكان أوديناتو يتذمَّر، من ذلك، قائلاً إن الشجرة تنمو، صراحةً، فوقه، وتضايقه، لأنها تضرب ظهره وساقيه. وكارينا تجيبه بأنه متعصِّب حقيقةً، وجهله مطبق. أما هي، فكانت تشعر بتنميل الأوراق على طول جسمها، الشيء الذي يؤثِّر فيها تأثيراً آخر مختلفاً تماماً. وتقول إنه حمَّام الطبيعة.‏
وفي فصل الخريف، سقطت الأوراق، وملأت قاعة الاستقبال بأكوامٍ حفرٍ تصدر حفيفاً. أحضرت كارينا مُشَدِّباً قَلَّم الشجرة. وتشوَّشت قراءات أوديناتو بضعة أيام بسبب ضربات الفأس. وأخيراً، قدَّمت كارينا الشجرة لزوجها، فخورة مثل أمٍ تعرض ابنها بشعره المقصوص للمرة الأولى، وقد اقتصرت على أغصانها الأكبر دون أوراقٍ أو فروع، قوية ذات عضلات، أكثر من أي وقتٍ مضى، جاهزة لمواجهة قسوة الشتاء. تظاهر أوديناتو المذعن، بالإعجاب بها. لكنه، في نفسه، كان يعتقد أن الطبيعة هي كارثة جميلة، وأن على الحضارة التي تحترم نفسها أن تبقيها أبعد ما يمكن عنها.‏
* ألبرتو مورافيا‏
ولد ألبرتوا مورافيا في روما عام 1907، وتوفيّ فيها عام 1990. ألَّف كتابه الأول وهو في الثانية والعشرين من عمره: "اللامبالون"، الذي ضمن لـه الشهرة الفورية. ونشرت روايته "المرأة الفهد" بعد وفاته، عام 1991. من أعماله: "الاحتقار"، "السأم"، "رحلة إلى روما"، وأخيراً "نزهات إفريقية". ظهر كتابه "جدل الأخطبوطات" في إيطاليا عام 1956، وهو مجموعة نصوص متهوِّرة، يبدو فيها مورافيا غير متوقَّع، ينهل من الميثولوجيا والأساطير الوثنية.‏


ت:وفاء شوكت

______________________________
(1) سطام (حديدة تحرَّك بها النار)‏
(2) جُنْبَة (كل شجرة علوها متران إلى أربعة أمتار، تظل صغيرة، وإن شاخت).‏
(3) سيفر (خزف فاخر من صنع مدينة سيفر بفرنسا).‏
(4) رأي قَبْلي (رأي مكوَّن من قبل لا رجوع فيه).‏
(5) فوشية (جُنْبَة مشهورة بزهرها تعرف باسم نباتي ألماني).‏
(6) أزالية (جنبة للتزيين من فصيلة الخلنجيات).‏
(7) المِطْيرَة (بناء كبير مخصَّص لتربية الطيور).‏
( الشَّبوط (سمك يعيش في المياه الحلوة).‏
(9) المجس (زائدة لا مفصليَّة قابلة للانمغاط والانكماش، توجد عند بعض الحيوانات، تمكنها من القبض على فريستها).‏

لا أحتاجُ لتوقيعٍ .. فالصفحةُ بيضا
وتاريخُ اليوم ليس يعاد ..

اللحظةُ عندي توقيعٌ ..
إن جسمكِ كانَ ليَّ الصفحات
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.05218 seconds with 11 queries