الموضوع: محمود البدوى
عرض مشاركة واحدة
قديم 19/08/2008   #22
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي


وقبل الفجر بساعتين استراحا بجانب تل .. بعيدا عن كل قدم يمكن أن تتحرك.. ووضع لها الحقيبة تحت رأسـها الذي عصبـته بإيشـارب وتمددت على الرمال وهو قريب منها.
ولما شعر بأنها نامت، وأحس ببرد الليل، خلع سترته وغطاها في رفق حتى لا توقظها حركته.
ولكنها كانت متيقظة، وشاعرة براحة النفس واطمئنانها، لأنها لا تزال حية وفى رفقة رجل أدركت بغريزتها كل ما في طباعه من نبل وشهامة.. وان لم يحدثها أحد عن ذلك.. وكانت تلاحظه بعينيها وهو على مبعدة خطوتين منها . وتخاف عليه من حشرات الصحراء في الليل ..
نسيت أنها في حرب .. وما يأتي ساقطا من السماء هو شر من كل حشرات الأرض. ولاحظت أنه لم يدخن حتى في النهار وضوء السيجارة لا يضير في هذه الساعة ولا يكون دليلا للأعداء.. حرم نفسه من هذه المتعة لأجلها حتى لا يضايقها برائحة الدخان.. ويثير أعصابها وهى جائعة تعبة ..
كان قميصه قد اتسخ ، وتهدلت بدلته وعلق بها العرق والغبار .. وطال شعر ذقنه وبدا خشنا وعلا الشحوب وجهه . واتسعت عيناه من الإرهاق والجوع ..
كانت الصورة في مجموعها تثير الشجن ولكنها شاقتها .. كانا في حالة عذاب مشتركة وقد سرح بها خيالها حتى جعلها تتصور. أنه سار في هذا الطريق الشاق من أجل أن يحميها.. ولو كان وحده لسهل عليه الأمر.. ونجا .
وفتح عينيه وهى تمشط شعرها ، ورأى حبات الرمال في لون الزمرد عالقة بثوبها .. كأنها تطريز جديد عمل فيه بدقة .. فعجب للطبيعة التي تزيد من جمالها في كل ما تفعله بها
وقالت بعذوبة ..
ـ ألا تحلق ذقنك ؟
وضحك لمداعبتها وقال :
ـ وينقصنا الحمام أيضا . ومرآة زينة كبيرة لك وكل العطور الجميلة التي في العالم .. والآن هيا .. مع الجوع والعطش..

***


ومشيا بعد طلوع الشمس على مهل ، كانا ينـزعان أقدامهما من الأرض بمشقة . واشتد بهما الجوع وبلغ العطش مبلغه . فظهر الشحوب على وجهيهما ، وابيضت الشـفاه وتشـققت .. وترددت الأنفاس بصعوبة .. ولكنهما كانا من الشجاعة بحيث لم يتطرق إلى قلبيهما اليأس..
ومشيا أقل من مائة خطوة ، ثم ارتميـا على الأرض كميتين ، وأغلقا عيونهما من الشمس وأخذ هو يتشهد فى سره ..

***


وتحرك إسماعيل بعد ساعة وفتح عينيه وشاهد على مرمى البصر.. وفى وهج الرمال المصفرة من الشمس خيطا من الدخان يتصاعد من ظهر كوخ.. فنبه أمينة إلى ما شاهده وهو يشعر بالفرح.. فقد وجد خيطا من الأمل وسط ظلام اليأس.. والجوع القاتل.. وجعلها تستريح في مكانها..

واتجه هو نحو الكوخ محاذرا منهوكا، ولما اقترب تصلبت رجلاه ويده على المسدس.. كانت تحدق فيه من فتحة الكوخ عينا رجل.. وجه نحيل خشن وحاجباه كثيفان، وعيناه فيهما صرامة وتحد..

وأظهر إسماعيل كل ضروب الوداعة واللطف .. وهو يقترب من الرجل ويقف على بابه .. ويطلب منه الماء والطعام .. واعتذر الرجل بأن الدار خاوية منذ الأمس، فلا توجد كسرة خبز ولا قطرة ماء.. عندهم.. ولم ييأس إسماعيل وظل يحـاور الرجل ثم أخرج له ورقة بخمسة جنيهات ليغريه ، فتغير حال الرجل على التو ..
ودخل وعاد يحمل خبزا ولبنا .. ناولهما لإسماعيل ..
وحمل إسماعيل الخبز واللبن في ركوة ومنديل ولكن قبل أن يبعد عن الكوخ سمع المرأة في داخل الكوخ تشتم زوجها وتوجعه بالكلام وتوبخه، لأنه أخذ ثمنا لإطعام جائع غريب.. وظلت تصب عليه اللعنة بصوت جارح ..
ثم جذبت الورقة ذات الجنيهات الخمسة منه ، وخرجت تجرى ، وأعادتها لإسماعيل ، وهى تعتذر عن جشع زوجها .. وسرته هذه الشهامة من الأعرابية .. وحكي كل شيء لأمينة وهما يجلسان للطعام .. وكان يردد :
ـ تأملي الحياة .. الخير .. والشر.. في بيت واحد ..
وبعد أن أكلا وشبعا.. لم يستطيعا مواصلة السير إلا قليلا.. جعلهما الشبع بعد الجوع القاتل في حاجة شديدة إلى النوم .. فناما في فجوة منخفضة .
واستيقظ إسماعيل وأمينة نائمة بجواره وتكاد تكون ملاصقة له.. وقد جعله الطعام الذي أجرى الدم في عروقه وغير من حاله.. ينظر إليها لأول مرة كما ينظر الرجل إلى المرأة .. ويشتهيها ..
وكانت نائمة مستسلمة، وما تكشف من جسمها، رغم ما علق به بسبب الطريق كان لا يزال يثيره ولو اقترب منها ما منعته.. ولا رفضت له رغبة .. ولقد لفتهما الحرب في إعصارها والموت يترصد لهما في كل خطوة..
فلماذا يحرم نفسه من متعة الدنيا، وحياته مهددة بالموت في كل لحظة..
وهم بأن يقترب منها ولكنه أحس بمثل الإعصار .. يشق عينيه .. فظل جالسا مدة في مكانه ساهما سادرا. ثم رجع إلى نفسه يلومها على ما انتابه من هواجس وأدرك أنها كانت تحتقره لو فعل بها شيئا. تحتقره كرجل، لأنه استغل ظروف المكان، وخان الأمانة التي جعلتها تضع نفسها ومالها وجواهرها في حماه..
ولما استيقظت من نومها .. ابتسم لها وأمسك بها من يدها واتجها إلى القنال .. وفاجأتهما غارة عنيفة وهما على مداخل القناة .. وغاب إسماعيل عن وعيه ..
ولما أفاق أحس بأثر الضربة في صدغه .. ولا يدرى أكانت من شظية أم من الحصى المتطاير من فعل القنبلة. وسال منه الدم ولكنه تحامل على نفسه ونهض وأخذ يبحث عنها كالمجنون.
وبعد طول البحث لم يعثر عليها . وأدركه اليأس ، وبلغ منه التعب منتهاه ، فارتمى على حافة القناة وكأنه يموت ..

***


ومضت ساعات وهو مضطجع بجانب التل يتابع بعينيه موج البحر .. وكان شهاب من نار ودخان يتفجر في الصحراء .
وظل إسماعيل الليل بطوله يسمع الدوى ، ويرقب البحر ، وهو في أشد حالات الحزن لفراق أمينة وقد نهش قلبه القلق عليها ولفه في إعصار ..
ورأى في مواجهته زورقا يقترب من شط القناة بحذر .. فنهض في تثاقل وتعب وأخذ يتجه إليه، ولمحه الصياد وهو يسير على الشاطئ .. فحرك الزورق ليقترب منه ..
وقال له إسماعيل :
ـ تعديني القناة يا ريس..؟
ـ أعديك .. ولكن أنت شايف الحال ..
ـ أي حال ..؟
ـ اليهود في كل مكان .. في الشمال والجنوب وطائراتهم تدك .. والتعدية مخاطرة .. وثمنها غال ..
ـ أنا مستعد لما تطلب ..
ـ أعتدت أن آخذ مائة جنيه .. ولكن لأجل خاطرك سآخذ خمسين فقط ..
ـ لماذا تستغل الظروف يا ريس.. عيب .. تكفى عشرة ..
ـ قلت خمسين يعنى خمسين..
ـ هذا كثير ..

ـ أنت حر ..
وحرك المجاديف ليبتعد بالزورق، فارتعد إسماعيل بعـد أن أدرك أنه سيدفن في فيافي هذا المكان كما دفن غيره، وقال في ضراعة..
ـ سأدفع لك ما تريد..
ـ النقود أولا.
فأخرج إسماعيل المبلغ من الحقيبة وأخذ يعد له الخمسـين جنيها والصياد يحدق في محتويات الحقيبة ..
ونزل إسماعيل في الزورق وشد الصياد المجاديف .. واضطجع إسماعيـل في باطن الزورق من الخـلف ، وهو يحس بتعب شديد في عظامه ولحمه . كانت الأوجاع قد أخذت تتوزع على جسمه كله . ورأسه ينفجر من أشد أنواع الصداع .. فوضع رأسه على الخشب الصلب ليفلقه نصفين ويستريح.. ! وظل نائما على جنبه وظهره إلى الصياد الذي كان يجدف في حذر وسكون، وتكاد مجـاديفه لا تمس الماء ولا يسمع لها صوت..
ولامست يد إسماعيل بالمصادفة معدنا صلبا صغير الحجم وهو يدس يده بين فتحات الخشب في باطن الزورق .
وجعله حب الاستطلاع يمرسه بين أصابعه .. حتى تبين أنه سلسلة ناعمة خارجة من فتحة في صندوق، غيبه الصياد في باطن الزورق. وحدق إسماعيل في الظلام بين شقوق الخشب فلم يتبين نوع السلسلة. فحول وجهه إلى الصياد وسأله :
ـ أمعك ثقاب يا ريس ..؟
ـ لماذا ..؟
ـ أشعل سيجارة .
ـ السيجارة تضيعنا .. إننا في حرب ..
فأذعن إسماعيل للأمر .. وصرف ذهنه عن السلسلة والصندوق بعد أن أدرك أن الصندوق موجود غالبا في كثير من الزوارق التي تبقى في البحر..
وسأل وهو يتطلع إلي وجه الصياد الجامد وكان يراه طويلا مستقيم العود.. رغم أنه يزاول التجديف كثيرا ويحنى جذعه..
ـ عديت ناس كثير يا ريس .؟
ـ كثير.. من يومين وأنا أعدى خلق ..
ـ وتحت أي بلد نحن الآن الإسماعيلية أم السويس..
ـ إننا في الخليج قريبا من السويس .. ولو كنا تحتها كنا ضعنا من زمان..
ـ ألم تعدى سيدات .؟
وحدق إسماعيل في وجه الصياد وهو يلقى عليه هذا السؤال فرآه جامدا لم يتغير ..
ـ سيدات في هذه الأهوال.. أبدا ..
كان صوته هادئا وواضحا..
ـ بقى كثير على البر ..
ـ إنني أحاول أن أبعدك عن المخاطر .. ولذلك تحس بطول المسافة .. قربنا .. أمامنا القليل..
ـ سأنام وعندما نصل أيقظني ..
ـ حاضر ..
ومضى زمن ..
وأغلق إسماعيل عينيه بضعة دقائق واسترخى .. وأحس بتوقف المجاديف .. فتصور أن الزورق وصل إلى الشاطئ . وفتح عينيه فإذا بالزورق لا يزال في وسط الماء.. ولمح في يد الصياد شيئا غريبا .. مسدسا كبيرا من طراز إيطالي قديم . وكان يعده للحركة الأخيرة .. ضغط الزناد .. وقد انشغل به . فتأمله إسماعيل في صمت وتوجس من الرجل شرا .. مسدس كهذا في يده لماذا ؟ .. إنه لا ينفع في الحرب..
وأحس بالخوف وبالعرق على جبينه وبازدياد ضربات قلبه ..
ولكنه تمالك نفسه سريعا ووضع يده على مسدسه وأصبعه على الزناد .. وأخرجه من جيبه ، وفى اللحظة التي كان فيها الصـياد يمد يده ويصوب إلى رأس إسماعيل وهو نائم ، تحرك إسماعيل سريعا وأطلق النار .
وضاعت الطلقتان في دوى المدافع ووهج النيران ..

***

وأحس إسماعيل بالدم يلطخ ثيابه ، وأدرك أن الرصاصة أصابت كتفه وخرجت من جسمه واستقرت في قاع الزورق... وحدق في وجه الصياد وجس نبضه فتبين له أنه مات..
وظل يبحث في بطن الزورق حتى وجد قطعة حديد رفع بها قطعة الخشب التي تغطى الصندوق.. وكسر القفل وفتح الصندوق .. فوجده ممتلئا بالنقود والحلي ووجد سلسلة أمينة الذهبية ومصحفها، فارتجف قلبه وارتعد، وكان الزورق ساكنا في وسط الماء، فتناول إسماعيل المجدافين.. وأخـذ يجـدف طوال اللـيل متجها إلى بور توفيق..
أدرك وهو ينظر إلى الشواطئ البعيدة أن الصياد كان يغرر به ويتجه إلى الجنوب.
ولما بلغ شاطئ بور توفيق ترك المجدافين وحمل فى يده حقيبة أمينة وكل الجواهر والنقود التي وجدها في الصندوق ، وخرج من الزورق بعد أن دفعه برجله إلى عرض الماء ..

***

وعندما صعد إلى شارع القناة، كان الظلام لا يزال يخيم ، والمدينة ساكنة ، بعد أن توقف الضرب ووجد أمينة جالسة تحت الشجر وحدها تنتظره ، وكانت حزينة وجائعة ونعسانة ..
ولما رأته استردت روحها وجرت إليه وارتمت على صدره ..

شُذَّ، شُذَّ بكل قواك عن القاعدة
لا تضع نجمتين على لفظة واحدة
وضع الهامشيّ إلى جانب الجوهريّ
لتكتمل النشوة الصاعدة
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.12584 seconds with 11 queries