الموضوع: رسائل مُبعثرة
عرض مشاركة واحدة
قديم 26/10/2009   #2
شب و شيخ الشباب قرصان الأدرياتيك
عضو
-- زعيـــــــم --
 
الصورة الرمزية لـ قرصان الأدرياتيك
قرصان الأدرياتيك is offline
 
نورنا ب:
Jan 2008
مشاركات:
1,446

افتراضي يا صاحبي العزيز...


يا صاحبي العزيز ورفيقَ روحي الضّائع

سلامٌ عاطرٌ عليكَ، ودعوة بالبقاءِ في روضِ السّعادة، وبعد

هي الرّسالة الأولى التي أخطُّها إليك بعد أن تبادلنا القليلَ في الأيّام الماضية على صفحاتنا غير المحسوسة، وإذ أكتبُ إليكَ هذه الكلمات، يملؤني الأملُ بأنّها ستكون بوّابةً لتواصل حقيقيٍّ أعمق وأمثل!

بالأمسِ التقينا في شهبائك الباكية، فأبهجتَ نفسي بلقياكَ برغمِ ما ارتسمَ على محيّاكَ من حزنٍ وألمٍ عميقين راحا ينهشانِ من روحِك وأنت لا تدري، أوَ كنتَ تدري ولم تقلْ شيئاً؟! رأيتُك في ذاك المساء كعصفورٍ صغيرٍ حزين يلهجُ بين القضبان بذكرى ماضٍ في أحضان الحقول وبين الأشجارِ والأزهار وبرفقة الأطيار. كنتُ أحدّثُك فتجيبني من بئرٍ لا قرارَ لها، وبالكاد كانت الكلمات تبلغ مسمعي، فقد طبعتني بطبعِكَ وجعلتني جزءاً من حالِك أيّاً كان ذلك الحال! هل كنتَ معي، أم في مكانٍ آخر؟!

أدركتُ أنّك بعيدٌ عنّي كلَّ البعد، وآلمني أن أدركَ ذلك، فملأني الأملُ ودفعني إلى الاقترابِ منكَ شيئاً فشيئاً... أردتُ أن أشهدَك عن قربٍ... لكنّك رأيتني أفعلُ ذلك فهربتَ تعدو كأنّك غمامة صيفٍ بلا ثمار تجرّها الرّياح حيثُ لا تدري! فكنتُ كلّما اقتربتُ منك خطوةً ابتعدتَ خطوتين مختبئاً عنّي خلفَ أسوار بنيتَها من صوّان ألمِكَ، حينها شعرتُ بأنّك لا تقوى حتّى على البوحِ بما تكنّه نفسُك في عتمةِ عتماتِها... وكانت الكلمات القليلة التي أخرجتَها من فمِك -رغماً عنكَ وخجلاً- من صخرٍ أصمٍّ أعمى.

كنتُ في الحقيقةِ مثلَك ولهذا لم أقوَ على فكِّ عقدة الصّمتِ إلا بتلك الكليمات التي تبادلناها، وحالي كانَ حالَك شكلاً وقلباً، فلم يأتِ الكلامُ في معناه كما اشتهتْهُ روحانا، فضاعَ لقاءُ الأمسِ بينَ عَبَراتِك ودموعِك التي رأيتُها في صدرِكَ، ولكأنَّ مَعيْنَها في عينيكَ ناضبٌ لا ينبضُ بالدّمع بعد اليوم. كانت الغصّة المتعلّقة بشفتيك تكلّلك بالسّكينة، وهذا ما دفعني مراراً وتكراراً إلى البكاء، لكنّي لم أفعلْ وقلتُ لكَ حينَها: صعبٌ عليَّ البكاءُ أمام أنظارِ الآخرين! هل تذكر قولي بعد كلِّ تلك الشّهور؟! أكرهُ يا صديقي ضعفي وأخفيه في قعرِ ذاتي، هذا هو الإنسانُ على حقيقته فتيلةٌ مدخّنة تأبى الانطفاء ولا تقوى على الاشتعال، وقصبةٌ مرضوضةٌ لم تنكسرْ بعد.

إنَّ براثنَ الوَسَنِ في هذه اللحظات تنغرزُ في جسدي، وأنيابُه بحدّتها تطوي جفنيَّ؛ لكنَّ حبَّ الكتابةِ إليك يدفعُه بعيداً عنّي، ويوقظ فيَّ ملكاتي، ويطردُ كلَّ شياطين النّوم والرّقاد. وها أنا أحلّقُ على متنِ ذات الجناحين بعيداً عنكَ وعن مستقرّكَ، والعزلةُ تتركني حرّاً دون رقيب.

في هذا اليوم يا صديقي، أعني يوم الكتابة إليك، ولدتني أمّي، ووضعتني بين كفّي الحياة كأنّها تخلقني من جديد. وذكرى المولد تغصبك على عدِّ الأيّام والشّهور والسّنين، كما ترغمك على العودة إلى محطّاتها الكثيرة، وأخصّ منها بالذّكر تلك الأليمة التي تترك في النّفسِ أثراً لا يُمّحى! كانَ حسناً أن نلتقيَ ليلةً قُبيل ذكرى مولدي، وكانَ حسناً أيضاً أن نبكي معاً دونَ دموع مثلَ سماء القحط اللعين وسحابات الصّيف العابرة. إنَّ الكآبة التي حلّقتْ بالأمسِ فوقَ رأسينا فأنستنا العالمَ وكلَّ ما أحاطَ بنا، لم تحرمْني الرّجاءَ، فكانَ في قلبي خاتمة اللقاء. والبسمةُ الدّامعة التي التقيتني بها أحلتُها أملاً غمرَني فاعتمرتْ نفسي بالإيمانِ بكِ وبقدرتِك على الغلبة، فكنتُ حينَ ودّعتُك على أملِ لقاءٍ قريبٍ لمّا يحدث بعد، أرجو بكَ مثلَ رجائي بالخير الأعمّ.

عليكَ في مشرّفتك القادمة أن تستفيضَ في الحديث عن الكتاب الذي بين يديك، أريدُ أن تشاطرني أفكارَك: ما أعجبَك وما لم يعجبْكَ، ما طبعكَ بعمقِه، وما مرَّ عليكَ دون سلام.

أدعو اللهَ في ختامِ كتابي إليك أن يجمعني بكَ عمّا قريب، تكونُ حينها رافلاً بكلِّ غبطة وسلام وفرح ووئام.

صديقُك


(كُتبتْ منذ أكثر من ستّة شهور ثُمَّ لم تُرسلْ إلى صاحبِها).

Mors ultima ratio
.
www.tuesillevir.blogspot.com
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.04296 seconds with 11 queries