عرض مشاركة واحدة
قديم 02/10/2009   #5
صبيّة و ست الصبايا جلنارالغالية
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ جلنارالغالية
جلنارالغالية is offline
 
نورنا ب:
Aug 2009
المطرح:
تحت شجرة ياسمين
مشاركات:
109

إرسال خطاب MSN إلى جلنارالغالية إرسال خطاب Yahoo إلى جلنارالغالية بعات رسالي عبر Skype™ ل  جلنارالغالية
افتراضي بين الجنون والعظمة


نعم إن فلوبير لم يكتب أكثر من خمس أو ست روايات في حين أن كتابنا العباقرة يتحفوننا كل عام أو حتى كل شهر برواية أو ديوان شعري أو كتاب فكري، الخ.. لماذا كل هذا الاستعجال يا أخوان؟ لماذا تحرقون الطبخة قبل أن تنضج؟ فلوبير كان حريصا على ألا يصدر شيئاً قبل أن يستنفد طاقته كلها فيه. يقول في إحدى رسائله إلى عشيقته لويز كوليه:"لقد داخت رأسي وجف حلقي من كثرة ما بحثت عن جملة واحدة. لقد قلبتها على عشرات الوجود ونجرتها وحفرتها، ثم ندبت وشتمت حتى توصلت أخيراً اليها... إنها رائعة، أعترف بذلك. ولكنها لم تولد دون مخاض وعذاب".
هناك خاصية أخرى يتميز بها العباقرة هي: حب الوحدة والعزلة والاستقلالية الشخصية. يكتب أحدهم: لقد قالوا عن العبقري بأنه يشبه المجنون. بمعنى أنه يولد ويموت وحيداً. انه شخص بارد، فاقد الحساسية لا علاقة له بالعواطف العائلية والتقاليد الاجتماعية. ولكن هذه مبالغة بالطبع. والواقع أن العباقرة يحبون العزلة من أجل التفرغ لإبداعهم وإنتاجهم، فلا تستطيع أن تبدع وأنت في زحمة الشارع أو في وسط البشر، ومن المعروف أن العلاقات العامة والاستقبالات والحفلات تأخذ وقتاً كثيراً ولا تسمح للمفكر بأن يتفرغ لنفسه وأفكاره وتأملاته. ولذلك اشتهر المفكرون بحب الوحدة والحرص عليها.
نضرب عليهم مثلاً شهيراً ديكارت الذي غادر بلاده فرنسا هرباً من المتطفلين والثرثارين الذين كانوا يلاحقونه باستمرار. وكان يشعر بسعادة كبيرة إذ يسكن في حي لا أحد يعرفه فيه، ويمشي في الشارع ولا أحد ينتبه إليه. فالشهرة أيضاً مزعجة وينبغي أن يحمي الإنسان نفسه منها. إن العبقري يتميز بالهامشية والعصيان وعدم الخضوع للتقاليد والأعراف السائدة مثله في ذلك مثل المجنون، ولكن الفرق الوحيد بينه وبين المجنون هو أنه لا ينتهكها بشكل مجاني أو مبتذل أو غير واع. يضاف إلى ذلك أن للعباقرة عاداتهم التي يلتزمون بها وتصبح جزءاً لا يتجزأ منهم.
قلنا سابقاً بأن بلزاك كان يسهر في الليل وينام في النهار. وهكذا كتب معظم مؤلفاته إن لم يكن كلها. وهذه الطريقة في الحياة تعتبر جنوناً بالنسبة للإنسان العادي. فالطبيعي أن تفعل العكس أي أن تنام في الليل وتشتغل في النهار. ولكن العبقري ليس إنساناً طبيعياً . إنه مهووس بمشروعه إلى درجة المرض ومستعد لأن يضحي بكل شيء من أجله. وقد لاحظنا من خلال قراءة سير العباقرة أن معظمهم لا ينجبون الأطفال ولا يكرسون وقتهم لتربية عائلة. فمؤلفاتهم هي أطفالهم، وهم حريصون عليها مثل حرص الرجل العادي على طفله. فديكارت لم يتزوج، وكذلك الأمر بالنسبة لكانط، وسبينوزا، ونيتشه، وسارتر، وميشيل فوكو،الخ.. بالطبع فهناك استثناءات (هيجل مثلاً ). ولكن عموماً فإن العبقري يكرس حياته لشيء واحد فقط: هو إنتاجه وإبداعه.
يضاف إلى ذلك أن عادات العباقرة عجيبة وغريبة وتختلف عن عادات البشر. فمثلاً ينسون أحياناً أن يأكلوا ويشربوا في فترات الابداع، وينسحبوا من الحياة اليومية كلياً لكي يضعوا إنتاجهم مثلما تنسحب المرأة الحامل لكي تضع طفلها. وهكذا عاش مارسيل بروست ومات عام 1922 ضمن ظروف بائسة في غرفة حقيرة لا تحتوي إلا على سرير وكرسي وثلاث طاولات ! وأما " فرانز كافكا " فكان أكثر شذوذاً وغرابة أطوار. كان يفرض على نفسه عادات صحية عجيبة خوفاً من المرض. وكان هوسه اليومي هذا على علاقة بهوسه الابداعي. كان يفرض على نفسه مثلاً الاستحمام بالماء البارد جداً والمثلج، ويمتنع عن تناول الكثير من الأطعمة اللذيذة ويعاقب جسده معاقبة صارمة. وكل ذلك بسبب العصاب الهوسي الذي يلاحقه والذي أدى إلى تفتح عبقريته على الرغم من كل شي ء. وهنا نلمس لمس اليد نقطة التواصل بين العصاب النفسي، وبين العبقرية. يضاف إلى ذلك أن العباقرة متطرفون في عاداتهم على عكس الناس العاديين أو المتوازنين. فمثلاً كان فولتير يشرب خمسين فنجان قهوة في اليوم ! وقل الأمر ذاته عن فلوبير وبلزاك. وذلك لأن القهوة تنبه الأعصاب وتجعلها متحفزة للابداع. وأما بودلير فقد تجاوزها إلى ما هو أخطر: شرب الكحول بشكل مسرف وتعاطي المخدرات. وقد دفعت صحتهم ثمن ذلك غالياً... ولكن في سبيل الابداع كل شيء رخيص.
والآن ماذا عن القلق؟ في الواقع أن العباقرة شخصيات قلقة حساسة إلى درجة المرض والتطرف الأقصى. ولو سمعنا كل حكاياتهم وقصصهم العجيبة الغريبة لحمدنا الله على أننا لسنا عباقرة ! لنضرب على ذلك مثلاً شوبنهاور. فقد كان مصابا بجنون العظمة وعقدة الاضطهاد في آن معاً. وكان يعتقد بأنه ملاحق باستمرار دون أن يلاحقه أحد.. ولم يكن أحد يستطيع أن ينزع من رأسه تلك الفكرة التي تقول بأن هناك مؤامرة كونية تحاك ضده من أجل خنق عبقريته أو القضاء على إبداعه الفلسفي. ألا يقترب ذلك من الجنون؟ أين تقع الحدود الفاصلة بين العقل والجنون؟ فمنذ عام ( 1814) أي عندما كان في السادسة والعشرين من عمره راح يقارن نفسه بالمسيح ويعتبر أنه مبعوث لهداية البشر على طريق الحقيقة. يقول:"يحصل لي ما حصل ليسوع الناصري عندما أيقظ حوارييه أو أتباعه النائمين. أنا رجل الحقيقة الوحيد في هذا العالم". ولكن جنون العظمة هذا تحول فيما بعد إلى عكسه، أي إلى عقدة الاضطهاد ثم أصبح مسكوناً بهاجس القلق الأقصى والمرعب إلى درجة أنه كان يرفض أن يسكن في الطابق الثاني أو الثالث من البناية خشية أن يحصل حريق فيها فلا يستطيع القفز أو الهرب قبل فوات الأوان ! فكان يحمل مسدساً معه باستمرار ويضع يده عليه مستنفراً ما إن يسمع ضجة خفيفة أو هبة ريح في الخارج باعتبار أن هناك دائماً أشخاصاً قادمين لاغتياله.. يضاف إلى ذلك أنه كان يكتب أفكاره للوهلة الأولى باللغات الإغريقية واللاتينية بل وحتى السنسكريتية ويخبئها بين صفحات كتبه كي لا يقع عليها أحدهم ويسرقها منه ! فقد كان يعتقد كما قلنا أنهم سيسرقونها منه وينسبونها إلى أنفسهم. وكان يحقد على معاصره هيجل حقداً شديداً لأنه نجح ولمع، في حين أنه هو بقي مجهولاً طيلة حياته كلها تقريباً. وكل هذا لم يمنع من أن يكون أحد كبار فلاسفة العصور الحديثة.
وإذاً ينبغي أن ننزع من أذهاننا تلك الصورة المثالية والأسطورية عن العبقري. فهو رجل عادي، بل وأقل من عادي في بعض تصرفاته إنه تافه جداً أحياناً. وربما كان هدف العبقري الدائم هو أن يصبح رجلاً عادياً كبقية البشر. ولكن بما أنه لايستطيع التوصل إلى ذلك فإنه يلجأ إلى الخلق والإبداع من أجل الحفاظ على توازنه. فإذا ما نجح في ذلك قال الناس عنه بأنا عبقري، وإذا ما فشل قالوا إنه مجنون. وهنا يكمن الفرق بين العبقرية والجنون.
لنتحدث الآن عن جان جاك روسو الذي يعتبر في الغرب نبي العصور الحديثة. أليس هو القائل: لو أردت أن أكون نبياً من كان سيمنعني؟! فقد كان مصابا بعقدة الاضطهاد أيضاً. وكان يعتقد أن هناك مؤامرة جهنمية تحاك ضده في كل مكان، وخصوصاً في الفترة الثانية من حياته. وكان يشك حتى بأصدقائه من أمثال ديادرو وهيوم وفولتير.. بل ويقال بأنه غير سكنه أكثر من مرة خوفاً من ملاحقة وهمية. وعندما سمع أحد الجيران بأن روسو هو الذي يسكن في الغرفة المجاورة له لم يكن يصدق. وقال: سأتعرف الآن على أكبر شخص في العالم ولكن روسو صده مباشرة متوهماً بأنه جاسوس ! فانكسر الرجل وحزن حزناً شديداً لأنه كان فقط يريد السلام عليه.. بالطبع فإن روسو لم يكن فقط ذلك، وإنما كان أيضاً إنساناً رحيماً شفوقاً يمتلئ بالعاطفة والحنان والمحبة للجنس البشري كله. ولكنه كان معقداً نفسياً لأسباب خاصة بحياته والمصاعب التي لاقاها والحسد الكبير الذي أثاره حوله بسبب عبقريته وشهرته الأسطورية. فالشهرة ليست خيراً كلها، وإنما تسبب متاعب كبيرة، بل ومخاطر جسيمة لأصحابها، وويل لمن يشتهر بدون إذن الناس ! لكأنه يسرق منهم شيئاً أو يعتدي عليهم.. ولكن قلق العباقرة يمكن أن يصل أحياناً إلى درجة الانهيار الكامل: أي الجنون الحقيقي. وهذا ما حصل للموسيقار روبيرت شومان الذي قال لأصدقائه عام 1854: " أريد أن أدخل المصح المقلي. لقد انتهيت. أنا لم أعد مسؤولاً عن تصرفاتي أرجوكم اسجنوني...".
وأما الشاعر جيرار دونرفال فقال لهم: " أخشى أن يضعوني في بيت العقلاء (أي في المصح العقلي ) والناس في الخارج كلهم مجانين !..." وأما أندريه بريتون الذي لم يكن مجنوناً إلا على الطريقة السوريالية فقد احتج على سجن العباقرة في المصحات العقلية وقال: إن كل هذا السجن تعسفي. لا أفهم كيف يحرمون شخصاً ما من حريته. لقد سجنوا ساد وسجنوا نيتشه، وسجنوا بودلير.." وكان يمكن أن يضيف: كونراد، وموباسان، وهولدرلين، وهمنجواي، وفان كوخ، وألتوسير وغيرهم.. هذا القلق النفسي الرهيب الذي كان يعاني منه معظم الكتاب يتجلى أيضاً لدى بيير كامو. فقد صرح لأحد أصدقائه المقربين أكثر من مرة بأنه يشعر بأن الخواء الداخلي يكتسحه كلياً، وأنه ملي ء باليأس القاتل ولا يستبعد أن يلجأ للانتحار لحمل لمشكلته.. والواقع أنه مات في حادث سيارة على طريق " ليون - باريس"، فهل كان ذلك انتحاراً واعيا أم لا؟ على أي حال لقد أنقذه الحادث من الانتحار. ونلاحظ أن الإحباط واليأس الكامل يتجليان في كتابه المعروف " أسطورة سيزيف ". وهو كتاب جميل ويستحق أن يقرأ من أجل تبيان فراغ الحداثة وهشاشة الوجود. ( لا أعرف فيما إذا كان قد ترجم إلى العربية أم لا ).
لنتحدث الآن عن بودلير .. فقد مات أبوه وهو صغير. وكان متعلقاً بأمه إلى درجة المرض. ولكن الكارثة حصلت عندما تزوجت أمه من الجنرال "أوبيك" بعد فترة قصيرة فقط من موت والده وهذا ما سبب له حزناً عميقاً لم يقم منه طيلة حياته كلها. فقد اعتبر أنهم سرقوا أمه منه، وأنها خانته، ولم يعد يستطيع أن يتخيل أنها مع رجل آخر… يا للخيانة ! ويا للغدر! في الواقع أن بودلير كان يعاني من عقدة أوديب التي اكتشفها فرويد، وبلورها لأول مرة. وقد فكر بالانتحار أكثر من مرة، بل وقام بمحاولة انتحار فاشلة عندما ضرب صدره بالسيف. يقول لأحدهم معبراً عن يأسه الداخلي وتقززه من الحياة : أسوف أقتل نفسي غير آسف عل الحياة . سوف انتحر لأني لم أعد قادراً على الحياة. لقد تعبت من النوم والاستيقاظ كل يوم. يا لها من عادة مملة رتيبة. أريد أن أنام مرة واحدة وإلى الأبد. سوف أنتحر لأني أصبحت عالة على الآخرين، لأني أشكل خطراً حتى على نفسي . سوف أنتحر لأني أعتقد بأني خالد ومليء باللا أمل"(9).

مـا أجـمـل أن يـبـكـي الإنـسـان والـبـسـمـة عـلـى شـفـتـيـه وأن يـضـحـك
والـدمـعـه فـي عـيـنـيـه
فـي لـحـظـة تـشـعُـر أنـك شـخـصٌ فـي هـذا الـعـالـم بـيـنـمـا يـوجـد
شـخـص فـي الـعـالـم يـشـعُـر أنـك الـعـالـم بـأسـره
اهواك بلا امل...
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.06333 seconds with 11 queries