الموضوع: أسبوع وكاتب ...
عرض مشاركة واحدة
قديم 31/08/2007   #502
شب و شيخ الشباب وائل 76
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ وائل 76
وائل 76 is offline
 
نورنا ب:
Jul 2006
المطرح:
Gaza Palestine
مشاركات:
2,210

افتراضي رسالة من الأعماق " قصة قصيرة "


رسالة من الأعماق ..



كان لا بد لها قبل أن تخلد إلى النوم في ذلك المساء أن تسجل في دفتر مذكراتها ما جرى معها عصر ذلك اليوم .. لم تنتظر لتستجمع كل أفكارها بل تركت براعتها ترتب الكلمات كما تشاء، فكتبت :


رن جرس الهاتف فجأة في غمرة انشغالي بأعمال كثيرة متداخلة، جاءني عبر سماعة الهاتف صوت جارتنا أم يوسف على غير ما عهدته سابقا ..
- مساء الخير يا ابنتي .. هل يمكنك أن تأتي إليّ لبضعة دقائق ؟؟
- بكل تأكيد يا أم يوسف .. و لكن طمئنيني .. هل هناك خطب ما ؟!
- لا و لكنني بحاجة ماسة إليك قليلاً .. و الله يا بنتي لو كانت صحتي تساعدني لأتيتك بنفسي ..
- لا عليك، سآتي في الحال ..
لم أترك لنفسي فرصة للتكهن حول ما يمكن أن تريده جارتنا و أسرعت إلى بيتها دون تردد ..
لم تخف قسمات وجهها ملامح الترقب الشديد حين قابلتني .. و قبل أن أسألها عن مرادها أخذتني إلى الغرفة التي كانت ليوسف، و ناولتني قلم و ورقة من على مكتبه و قالت ..
- سيزوره المحامي غداً .. أريد أن تكتبي له رسالة على لساني .. لأنني إذا أرسلتها شفهية عن طريق المحامي لا أضمن أن تصله كما أريدها ..
تملكتني حيرة شديدة في تلك اللحظات و رغبة أشد بالبكاء .. أحسست بكل ذرة في كياني تقطر شفقة عليها ..
قلت لنفسي .. ربما لا تعلم بأن يوسف لا يزال في زنازين التحقيق .. و ربما أخفوا عنها أنه ما زال تحت وطأة التعذيب حتى لا تتدهور صحتها أكثر ..
قدرتُ بأنه لا يحبذ أن تصل رسالة من الأهل إلى ابنهم و هو في قسم التحقيق حتى لا يستسلم لمشاعره و يضعف .. فكيف إذا كانت الرسالة من أمه المريضة التي يعلم الجميع مقدار حبه لها و خوفها الدائم عليه ..
فالسجين يكون ظامئاً لأي شيء يصله بالعالم الخارجي تماماً كظمئه لنور الشمس أو نسمة الهواء ..
و يوسف بالذات يجب أن يظل صامداً .. لأجل أخوة آخرين له و لأجل كل الأشياء التي ضحى من أجلها ..
لم أدر ماذا أفعل .. هل أقنعها بالعدول عن الأمر .. أم أطلب من المحامي خلسة بأن لا يوصل الرسالة ليوسف و يكتفي ببضع كلمات يطمئنه من خلالها عن أمه ..
و خطر لي أن أقول لها :
- لكن المحامي سيخضع للتفتيش دون شك، و كما تعلمين فهم لا يسمحون بإدخال الرسائل ..
لكنها قالت ..
- سيجد الطريقة المناسبة لإدخالها .. عندما سجن يوسف في المرة السابقة كنت أهرّب له في كل زيارة صور الشهداء التي كان يطلبها و لم يمسكوها معي أبداً ..
لم أجد مفراً أمام إلحاحها و إصرارها الشديد .. أمسكت بالقلم و انتظرت أن تملي عليّ ما تريد ..
قالت : تعرفين يا ابنتي .. لا أجيد الكلام كثيراً .. و لكن المهم أن تصله رسالة من أمه .. اكتبي يا ابنتي :
بسم الله الرحمن الرحيم
ولدي الحبيب يوسف :
كلنا بخير و لا تقلق علينا .. اصمد أيها البطل و لا تعترف أبداً مهما فعلوا .. لترفع رأس أمك بين الناس .. الله يرضى عليك يا حبيبي ..
توقف الدم في عروق يدي فجأة حين لامس القلم هذه الكلمات .. رفعت رأسي لأبحر عميقاً في عيني هذه المرأة .. لأستل بعضاً من ملامح هذا الإصرار و ألملم ما وزعته هذه الكلمات من عزيمة تهتز لها الجبال العاتية ..
أحسست بثقل يتسرب إلى ساعدي و يهوي بكفي إلى مكان سحيق .. تملكتني حالة من الشعور بالضعف .. بالعجز أمام هذه الكلمات و تلك العينين الصارمتين اللتين كنت أشفق عليهما قبل لحظات ..
أيمكن أن يكون في العالم أناس مثل هؤلاء .. أيمكن أن يكون للتضحية معنى أكبر من هذا ؟!
أيّ أمهات أنتن يا نساء وطني .. الآن فقط أدركت السر الذي يجعل يوسف يقهر سجانيه دائماً دون أن يفلحوا في انتزاع كلمة واحدة منه ..
أفقت من دهشتي على صوتها تقول ..
- لا أعرف ماذا يمكن أن أضيف .. اكتبي له أية كلمات أخرى تساعده على البقاء قويا ..
- أين أجد كلمات أعظم من هذه و أبلغ في التعبير .. صدقيني هو لا يحتاج غيرها لأنها صادرة من أعماق أمه التي أنجبته و أرضعته مع الحليب هذه المعاني العظيمة ..
أجلت بصري في أرجاء الغرفة .. وقعت عيناي فجأة على بضعة أبيات ( من قصيدة لا تصالح ) على الجدار المقابل خطّها يوسف بيده و بالأحمر القاني :
لا تصالح !
و لو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك،
ثم أثبت جوهرتين مكانهما ..
أترى ؟
هي أشياء لا تشترى ..
.
.
.

لا تصالح على الدم .. حتى بدم !
لا تصالح و لو قيل رأس برأس
أكل الرؤوس سواء ؟
و هل تتساوى يد .. سيفها كان لك
بيد سيفها أثكلك ؟؟
قرأتها عدة مرات و كأنني أسمع بها للمرة الأولى .. أضفتها إلى كلمات الرسالة بخط كبير كذلك المنقوش على الجدار .. فقد خيّل لي بأن يوسف لا بد أن يكون قد خطها بدمه على جدران زنزانته هناك .. كما قد فعل الذي قيلت على لسانه هذه القصيدة ..
أخذت أم يوسف الرسالة و ضمتها إلى صدرها و تنهدت عميقاً قبل أن ترش عليها بضع قطرات من قارورة عطر كانت على جانب المكتب ..
و عادت قسماتها تشع بملامح الاطمئنان و السكينة .. أما أنا فقد تركت لدموعي أن تسيل غزيرة عندما أمسكت يدها و قبّلتها بعمق ..
ثم قلت لها و أنا أستعد للمغادرة : اطمئني .. سيصمد يوسف و سيظل ثابتاً .. لان من يملك أماً مثلك لا يمكن أن يتسلل إلى نفسه الوهن .. و سيخرج منتصراً على جلاديه كعادته دائما ..

* لمى خاطر

إن تراب العالم لا يغمض عيني جمجمة تبحث عن وطن!

19 / 6 / 2007
 
 
Page generated in 0.06643 seconds with 11 queries