الموضوع: هيفاء بيطار
عرض مشاركة واحدة
قديم 14/12/2007   #39
شب و شيخ الشباب Moonlights
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ Moonlights
Moonlights is offline
 
نورنا ب:
Nov 2007
المطرح:
فوق جبل بعييييييد
مشاركات:
263

افتراضي الساقطة / هيفاء بيطار


الساقطة


بعد أكثر من ثلاثين عامً, تتجسد أمامها صورة والدها مسجى في التابوت ببذلته السوداء الأنيقة وقد تصالبت يداه فوق صدره, لقطة يستحيل أن تمحى من ذاكرتها, بل إنها تشعر أن هذه الصورة تتبلور أكثر كلما تقادم الزمن عليها, تنبش هذه الصورة من أعماق ذاكرتها لتحس بدفء وعزاء عجز الأحياء كلهم عن توصيله إليها. إنها تعي تماماً كيف ارتبط القرنفل بالموت, فين اقتربت من التابوت متحدية أمها لتطبع قبلة أخيرة على وجه أحب إنسان إلى قلبها,أحست أن القرنفل يذيع رائحة الموت, استندت بمرفقيها على حافة التابوت وتدلى جذعها النحيل قليلاً ليطبع أعظم قبلة حب على جبين الأب الذي لم يعد بإمكانها أبداً أن تناديه بابا.
صدمتها برودة الجثة, شهقت ألماً وهي تتلقى الصفعة الأولى من يد الموت المثلجة, وأبعدتها النسوة الغارقات في السواد جانباً, وأمرتها أمها أن تلتزم غرفة النوم مع أخيها وأختها اللذين يصغرانها, أذعنت للأوامر وهي تشعر أنها آلة تنفذ ما يطلب منها كان أخوها في الخامسة وأختها في الثالثة, جلست وسطهما وأطعمتهما بعينين تطفحان بالحزن كيف يأكلان بشهية, كانت في العاشرة من عمرها تتلقى بصبر صفعة الحياة الأولى, وحين طلبت منها أختها أن تحكي لها حكاية علاء الدين وحبيبته ست البدور داخل السبع بحور استجمعت قواها وبدأت تحكي بصوتٍ مرتعشٍ, أخذ يتشقق أكثر فأكثر, حتى اختفى متحولاً إلى حين كانت تقول, طار طار, كانت تتخيل أن والدها يطير مبتعداً وليس علاء الدين ويستمر في طيرانه حتى يصل إلى خط المدى حيث يتعانق البحر مع السماء, كانت تعتبر هذا الخط نهاية العالم وتسأل والدها وهي ترنو بافتتان إلى ذلك العناق الشفّاف : بابا أليس هذا الخط آخر الدنيا؟ يضحك والدها وهو يداعب جديلتها الطويلة ويقول: لا يا حنان العالم كبير, كبير.
بكى أخوها حين قالوا له إن البابا صار ملاكاً في السماء, وفي أوقات متباعدة حين يباغته شوقه الطفولي لأبيه, كان يقول: أريد أن أصبح ملاكاً, لكن المدرسة أنسته البابا, أما الصغيرة فصارت لا تنفصل عن حنان, أحست أنها تتحول لأم مذ كانت في العاشرة, كانت تطعم أختها, وتحممها, تحكي لها قصصاً, وتخيط لدميتها ثياباً, الأرملة الشابة كانت في عالم آخر, غافلة عن أولادها, يرعبها المستقبل الأسود الذي ينتظرها وأطفالها بعد أن فقدوا معيلهم, كان التعويض الذي دفعته الشركة للمتوفى لا يكفي لشراء الخبز لأسرته, كيف عليها أن تدبر أمرها؟
وبعد فترة وجيزة تزوجت رجلاً في الستين معتل الصحة, الصفقة صريحة, تهدي له شبابها وسنيها السبع والعشرين, مقابل أن يعيلها وأطفالها.
الحزن أكسب الأم القسوة, لا يمكن لحنان أن تنسى ذلك اليوم الذي خاطبتها أمها بخشونة دون أن تنظر إليها قائلة: سوف أتزوج عمو كمال يا حنان.
شهقت الطفلة, وقالت بسذاجة: عمو كمال صديق جدي!
زجرتها أمها قائلة: اسكتي, سيكون بمثابة والدك وعليك طاعته ومحبته.
في تلك الليلة امتصت الوسادة دموع الطفلة دموع الطفلة التي رددت حتى هدّها الإعياء وأغفت: لن يكون بمثابة والدي أبداً.
كان "عمو كمال " رجلاً طيباً محباً, وكريماً, يملك مطعماً شعبياً يدر عليه ربحاً معقولاً, وكان متيماً بزوجته الشابة التي تفشل غالباً في إخفاء قرفها منه رغم الجهود الجبارة التي تبذلها للتقرب منه, ذات يوم سمعت حنان أمها تهمس للجارة: المحبة من الله, لا أطيقه, الله يلعن الفقر الذي أجبرني على الزواج منه, تنهدت ثم تابعت: من حسن الحظ أن السكري أفقده شيئاً فشيئاً رجولته, وسكتت الأم حين لمحت حنان.
في ذلك الزمن, لم تكن حنان تعرف ماهية العلاقة الزوجية, لكنها كانت تتعاطف مع عمو كمال الطيب, الذي أحب أولاد زوجته كما لو كانوا أطفاله, وكانت تحس بألم من قسوة أمها وجفائها مع الزوج اللطيف, لم تكن تعرف أن نار الأهواء تغلي في صدر الزوجة الشابة وأنها منقوعة في يأسها بلا عزاء, كان حدسها الطفولي يدلها كيف أن جو البيت مشحون بالتوتر إلى أن حدث الانفجار بمجرد تفصيل تافه.
كانت ليلة عاصفة من ليالي كانون حين دخلت الجارة تحمل الكستناء لتشويها على المدفأة, وتقضي السهرة مع الزوجين الكئيبين, الحسناء التي تحرقها أهواؤها, والعجوز المريض المتيم جباً والذي ينتظر الفتات, كانت حنان تنتحي زاويتها المفضلة وتدرس للشهادة الإعدادية, حين ذكرت الجارة عرضاً, إن ابن أخ زوجها رحمه الله, تعرض لحادث سيارة ونقل إلى المشفى, ولم تكد الجارة تكمل كلامها حتى انتفضت الزوجة العاشقة وقد شحبت وتسارعت أنفاسها وأعلنت بتهور أنها ستزوره حالاً, لم تبالِ بنظرات الزوج والجارة والابنة المنطوية على نفسها خلف نار المدفأة التي لا تعادل نار حب أمها للشاب الذي يصغرها بأعوام.
لم يكن بإمكانها أن تفهم أبداً موقف أمها هذا, إلا بعد مرور أربعين عاماً على وقوعه, إنها الآن امرأة في الثالثة والخمسين, في الواقع لم تكن تهتم إن كان الشخص يستحق حبها, كانت تتدفق محبة مع كل من حولها دون أن تنتظر مقابلاً, حتى النباتات تعاملت معها بحب, إنها الآن في خريف العمر تفهم الذي اعتمل في قلب أمها منذ أربعين عاماً ليقذفها من بيتها الآمن إلى غرفة في مستشفى تضم شاباً تحبه حتى النخاع, لا يمكن للإنسان أن يفهم الحب إلا حين يتأرجح قلبه بالحب.
مرت سنوات حياتها أمامها كشريط باهت مشوش, مات الكهل الطيب, وتزوج عشيق أمها من صبية تصغره بسنوات, انكفأت الأم العاشقة تداوي جرحها وتلعن حظها العاثر, معتمدة على ابنتها البكر في تحمل مسؤولية إخوتها, تفاقمت كآبة الأم, حتى اضطرت حنان لاستشارة طبيب نفساني, يومها كانت حنان قد حصلت على الشهادة الثانوية والتحقت بمدرسة لإعداد المعلمات للمرحلة الابتدائية, لم يعد مورد المطعم الشعبي يكفي لإعالتهم, وخصوصاً بعد أن استولى أخوة العجوز على معظم مدخول المطعم, كان على حنان أن تعمل بنشاط النحل وجَلَدْ النمل لتعيل أسرتها.
تخرجت معلّمة بدرجة امتياز وأغرقت نفسها بالدروس الخصوصية, كانت تلهث لتواكب طلبات الأسرة, أدوية أمها النفسية الغالية, مصروف أخيها الذي لا يرضى أن يلبس رفاقه أفضل منه وأختها التي تريد جهازاً يليق بعريس المستقبل.
استحالت حنان إلى أنثى من لطف وحنان, زوجت أختها بعد أن قدمت لها حصيلة ما ادخرته طوال أربه سنوات من الدروس الخصوصية, الأخت اعتبرت أن قدرها أن تأخذ, وقدر حنان أن تعطي, المحزن أن حنان آمنت بهذه الحقيقة أكثر من أختها, ماتت الأم في مستنقع كآبتها بعد أن عجز الطبيب النفساني عن علاجها, وتزوج الأخ المدلل من فتاة مريضة بالغيرة, كانت تتشاجر مع زوجها كل يوم و تتهمه بأنه يغازل السيدات اللاتي يصفف لهن شعورهن, كان على حنان أن تمتص شجار الزوجين كل مرة, لكن الزوجة العنيدة أصرت أن يعمل زوجها في مهنة أخرى لا تتطلب احتكاكاً بالسيدات, وأخذ ينتقل بين مهنٍ كثيرة يتركها بعد فترة وجيزة معتمداً على أخته المكوكية التي تضع تحت تصرفه كل قرش تدخله.
كانت حنان تعرف كم هي دميمة, ولم تؤلمها هذه الحقيقة لأنها لا تملك الوقت لتشعر أنها أنثى, إنها تهدس بأولاد أخيها الثلاثة, الذين تناديهم ماما, كانت أمهم التي لم تلدهم وكانوا ينامون في غرفتها ليتركا والديهما في عشهما الزوجي, كانت تسهر على مرضهم ودراستهم وتحيك لهم الكنزات الجميلة,
ولم تخجل طوال عشرين عاماً من العيش المشترك مع أخيها وأسرته من الاعتراف بأنها حالياً لا يوجد في حقيبتها أكثر من خمس ليرات.
زجت نفسها في ديون كثيرة للحصول على المال, لشراء التلفاز الملون أولاً, ثم الغسالة الأوتامتيكية لزوجة أخيها, ثم براد جديد بدل البراد القديم, ثم أقساط غرفة النوم للأولاد, آمنت أنهم جميعاً من مسؤوليتها ولم تلم أخاها يوماً على نزقه وأنانيته كونه لا يثبت على مهنة معيّنة, فمن بلاّط إلى نجّار إلى دهّان ... تلك المهنة التي استقر عليها أخيراً لكنه لا يمارسها إلا بمزاج, وحدها الدورة الشهرية كانت تذكرها أنها أنثى, وأحياناً يتناهى إلى سمعها صوت عناق وشهقات من غرفة أخيها فتحس أنها تنكمش وتتكور كحلزون داخل قوقعته تحكم الغطاء حول نفسها وتدفن جسدها في الفراش مستنجدة بالنوم.
كل يوم مر بحياتها كانت تفرغ ذاتها كلياً لمن حولها, صديقاتها في العمل فهمنها بأنها الإنسانة التي لا تطلب شيئاً لنفسها, وكن يقصدنها ويرهقنها بمشاكلهن فتصغي إليهن وتخفف أحزانهن وخيباتهن العاطفية, لم تعرف كيف تحولت من مراهقة إلى امرأة في الثالثة والخمسين.
عاشت عمرها على إنكار الذات, وآمنت أنها تحب أن تكون الحائط المتين الذي تستند إليه الأسرة, تذكر ذلك المساء حين عاد أخوها يغلي من الغضب بسبب غلاء الزيت, وعدم تمكنه من شراء مؤونة السنة منه, لم يغمض لها جفن, ومع شفافية الفجر الأول سحقت كرامتها وقررت طلب سلفه من طالباتها الثريات لشراء الزيت, ولم يحن العصر حتى كانت تحمل بنفسها خمسة عشر كيلو غراماً من الزيت ومن أجود الأنواع وهي تبتسم لأخيها, لم يكلّف نفسه أن يسمعها كلمة شكر واحدة, ولا أن يرد على ابتسامتها بابتسامة, لكنها لم تشك بطيبة أخيها الذي يعتبر هذا واجب العانس الدميمة.
يومها نامت والابتسامة ترفرف حول وجهها, وحين أهدت إليها إحدى طالباتها الثريات غطاء من الصوف رائع, لم تتردد لحظة في تقديمه لزوجة أخيها بمناسبة عيد الأم, قبلته الأخرى وكأنه حقها, وكم قاومت حنان وخزة الألم حين سمعت زوجة أخيها تهمس لزوجها قائلة: وماذا ستفعل أختك بهذا الحرام الرائع, وهي عانس ولم تدخل دنيا.
كانت سعادة حنان أن يستدفئ بها الآخرون, لم تفكر يوماً بتدليل نفسها, تعاملت مع ذاتها كعدوّة, تجاوزت نفسها ولم تقدم سوى الضروري, وحين احتاجت للاستعانة بنظارة للقريب للقراءة, اختارت أرخص إطار للعدسات, بينما قدمت لابن أخيها ثلاثة أرباع راتبها لأنه يريد أن يتباهى بإطار عدساته! كانت سعيدة للغاية وهي ترى فرحته الأنانية.
ذات يوم قالت لها صديقتها: إنهم يمتصونك, ولن تجدي الخير منهم.
ضحكت وشعت الطيبة من وجهها المحفور بتجاعيد خطها التعب والسهر طوال سنوات, قالت: إنهم مساكين يحتاجون لمن يساعدهم.
-يالك من بلهاء كيف ترضين أن تتنازلي عن حصّتك من بيت أهلك لأخيك؟
نظرت إلى الصديقة بذهول وقالت: لِمَ لا, أخي صاحب عائلة لديه ثلاثة شبان, كيف سيضمن مستقبلهم؟
-لكن أختك المتزوجة لم تتنازل عن حصّتها, برغم أن زوجها ثري؟
-إنها حرّة.
-وأنت, ألا تحتاجين لضمانة لشيخوختك, إذا مرضت لن يكفيك راتبك التقاعدي ثمن دواء, هل تتخيلين أن زوجة أخيك وأولادها سيعتنون بك؟
-أتخيل ذلك, لقد كنت معطاءة معهم لذا..
-يالك من مغفّلة, ألا تعرفين المثل: خيراً لا تعمل, شراً لا تلقى.

We ask the Syrian government to stop banning Akhawia and all Syrian sites

القمر بيضوّي عالناس
والناس بيتقاتلوا .
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.06303 seconds with 11 queries