عرض مشاركة واحدة
قديم 11/02/2008   #5
شب و شيخ الشباب Moonlights
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ Moonlights
Moonlights is offline
 
نورنا ب:
Nov 2007
المطرح:
فوق جبل بعييييييد
مشاركات:
263

افتراضي هشـام شـرابي يـقــدم صـورة شـخـصـيـة عـن سعادة


5
كان اسلوبه في التعامل مع المسؤولين حوله قائماً على معايير موضوعية لا مكان فيها للعلاقات الشخصية. اما طريقته في التواصل الداخلي في الحزب فكانت دائماً رسمية بواسطة الرسائل الصادرة عن مكتب الزعيم حتى لو كان المعني بالامر موجوداً يومياً في المركز. كانت تلك الفترة بداية مرحلة جديدة في الحزب تقوم على اعادة النظام والادارة العقلانية التي ميّزت الحزب في الثلاثينات وتلاشت بعد غيابه اثناء فترة "الحزب القومي".
كان مشروع سعاده، في المصطلحات التي استعملها وفي البنية الفكرية التي تمثلها مجموعة كتاباته الاجتماعية والسياسية مشروعاً تحريرياً ومشروعاً تحديثياً في آن واحد. فيه رفض نظام الدولة الليبيرالية البرلمانية القائمة على الرأسمالية الامبريالية كما رفض نظام الدولة الفاشية المتطورة في تجلياتها الالمانية والايطالية، كما رفض النظام الشيوعي الروسي. عند عودته عام 1947 تحدث للمرة الاولى عن نظام اجتماعي آخر: نظام يجمع بين المادي والروحي، ما سمّاه المدرحية. نظام أقرب الى النظام الشعب Populist القائم على قيادة الفرد الممثلة لارادة الجماهير منه الى نظام الايديولوجيات المعاصرة، ولهذا النظام تاريخ طويل في حياة اميركا اللاتينية السياسي، وخاصة في الارجنتين في فترة الحرب العالمية الثانية وسنوات ما بعد الحرب.
لم يكتمل مشروع سعاده لتحرير سوريا وبناء المجتمع السوري الحديث من خلال العمل الحزبي على ارض الواقع السياسي لكنه اكتمل، في نظري، في حياته، في ما أراده لنفسه في الحياة، وفي موته. إنه لم يرم يوماً الى تسلّم السلطة التي اعتبرها مجرّد أداة، وتقبّل الموت راضياً عندما فشلت الثورة التي أعلنها مع عساف كرم ضد الحكومة اللبنانية. ليس صدفة ان يدعو هذه الثورة "الثورة القومية الاجتماعية الاولى". ففي يقينه كانت هناك ثورة (او ثورات) ستقوم في المستقبل باسمه وباسم العقيدة السورية القومية الاجتماعية. لم يهمه كثيراً أن يحدث ذلك وهو ليس على قيد الحياة.
وعلى رغم كل الصعوبات التي واجهها، وبخاصة العداء الكليّ الذي جابهه على يد الاستعمار الفرنسي والقمع والبطش على يد حكم الائتلاف الطائفي، فقد تمكّن من صياغة رؤية متكاملة لحركة تحرير وتحديث لسوريا والعالم العربي لا نظير لها في القرن العشرين: في كتاباته لا نجد رؤية كاملة للمجتمع والدولة وحسب، بل مفاهيم ومصطلحات فجّرت القوالب الفكرية التقليدية وأرست أسس وعي علماني جديد للتاريخ والمجتمع والدولة.
ما ميّز لغته، جمعه بين مفردات النهضة ومفاهيم جديدة من صنعه صيغت في جمل وعبارات يبرز فيها المعنى نقياً ساطعاً كالنقد الجديد. في هذه اللغة لا يطغى الغلاف اللغوي الخارجي على المضمون، كالذي طغى على كتابتنا العربية في القرن العشرين ولا يزال. من هنا حداثة اسلوبه الادبي المجسّد، مثلاً، في "الصراع الفكري في الادب السوري" الذي يشكل، رغم افتقاره الى الوحدة والتسلسل، اختراقاً مهماً في منهجية النقد الحضاري للفكر الأبوي الغائم المضطرب. كان يحب اللغة العربية الفصحى ويصرّ على استعمالها في تعامله اليومي مع ابنتيه الصغيرتين صفية واليسار. حاول بضع مرات أن يكلمني أنا ايضاً بالفصحى، لكنه عزف عن ذلك عندما وجدني مصرّاً على الاجابة متمتماً كل مرة باللغة العامية الفلسطينية.
6
غيّر سعاده مجرى حياتنا، حياتي وحياة افراد كثيرين من الجيل الذي انتميتُ اليه، لا بكلامه الساحر وفكره النيّر وقوة شخصيته الكاريزماتية وحسب، إنما وفي الدرجة الاولى بحيويته الخارقة وحضوره الشامل. جاء ليعلّمنا كيف نعيد صنع أنفسنا، كما أعاد صنع نفسه، بوضع المصلحة العامة فوق كل مصلحة. لكن كان ذلك في مجتمع أبوي لا يعرف الا المصلحة الذاتية الخاصة، فجسّد التناقض الكلي المميت بين النموذج الأبوي الذي جاء لإسقاطه والنموذج الحديث الذي مثّله بصراعه وحياته وموته.
بهذا كان سعاده بالفعل سابقاً لأوانه، سابقاً بالمعنى الذي رمى اليه كتاب جبران خليل جبران الصادر عام 1917 بالانكليزية بعنوان The Forerunner (أي السابق زمانه) حيث يقول جبران في مطلع الكتاب: "أنت سابق نفسك يا صاح، وما الابراج التي أقمتها في حياتك سوى أساس لذاتك الجبارة. وهذه الذات في حينها ستكون اساساً لغيرها".
والآن السؤال: لو كُتب لسعاده ان يعيش وأن يتسلم الحكم، ما النظام الذي كان حققه؟
يقول أعداء سعاده والذين لم يفهموه او لم يقرأوه او عادوه أنه كان سيقيم نظاماً ديكتاتورياً ينهض على الزعامة المنفردة والسلطة الشاملة. ربما، لكن ليس هناك ما يدعم هذا الافتراض. في نظري، الافتراض الأقرب هو توجّهه لإرساء نظام جديد في مجتمعات الهلال الخصيب قادر على تحقيق الاستقلال الوطني وبناء الدولة العلمانية الحديثة التي تكوّن قدوة ومثالاً للعالم العربي بأجمعه.
في كل الحالات إني متأكد أنه لو نجح سعاده في إرساء النظام القومي الاجتماعي الذي نادى به لما كنّا اليوم، وبعد مرور أكثر من خمسين عاماً، في الحضيض الذي نحن فيه.
كل القضايا الاجتماعية والسياسية التي واجهتها المجتمعات العربية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وفشلت في إيجاد حلول لها خلال الخمسين سنة الماضية من الاستقلال والسيادة، كان في الامكان مواجهتها والتعامل معها من خلال الرؤية القومية الاجتماعية الواضحة والنظام السياسي العقلاني الذي طرحه سعاده: وأعني بالتحديد قضايا التغيير الاجتماعي وتحديث المجتمع والدولة، وقضية تحرير المرأة، وقضية العدالة الاجتماعية والمساواة، وقضية الأمن القومي ومجابهة الاستعمار الصهيوني والامبريالية الجديدة.
إني لا أشك أن نجاح المشروع القومي الاجتماعي كان من شأنه أن يؤدي في دول الهلال الخصيب، على الاقل الى اربعة انجازات بنيوية كبرى:
1- فصل الدين عن الدولة.
2- القضاء على هيمنة القبلية والعشائرية والطائفية في المجتمع.
3- وضع أسس بنية الاقتصاد السياسي الحديث.
4- توحيد العالم العربي (الهلال الخصيب، الجزيرة والخليج، وادي النيل، المغرب) وبناء جامعة عربية فاعلة عربياً ودولياً.
والاداة لنجاح هذا المشروع، كما رآها سعاده، كانت الحزب السوري القومي الاجتماعي، الذي سخّر كل قواه الفكرية والتنظيمية في بنائه خلال السنوات التي عاشها على ارض الوطن. لم يكن الحزب بالنسبة اليه فقط الوسيلة المادية لتنفيذ برنامجه السياسي، بل ايضاً الشرط الثقافي لتحقيق التغيير النفسي والاخلاقي في الرجال والنساء في الاجيال السورية الصاعدة. لكن تركيزه على التنظيم الحزبي والملاحقة المستمرة التي تعرّض اليها على يد الحكم الفرنسي، وبعد الاستقلال على يد الحكم الوطني الطائفي، منعاه من التركيز على الانتاج الفكري والعمل التنظيري الذي بدأه بجدية في السجن عندما أنجز دراسته المبدعة "نشوء الأمم".
إن أهم النصوص التي تركها لنا سعاده كانت نتاج اجتماعات الندوة الثقافية (1948-1949) والمقالات السياسية والفكرية التي نُشرت في الصحف والمجلات وحتى الآن لم تحظَ هذه الكتابات باهتمام جدّي متكامل من الباحثين والكتاب ذوي القدرة العلمية والاختصاص الفكري في الحزب وخارجه.
أذكر اهتمامه في الاشهر الاخيرة من حياته بقضايا الاقتصاد السياسي والعدالة الاجتماعية وعزمه على رسم طريق مستقل في التنمية والاقتصاد الوطني وتحديد دور الدولة في الانتاج والتوزيع، في نظام يقوم على أسس تختلف عن الطريقة السوفياتية والطريقة الرأسمالية الغربية في آن واحد. في تلك الفترة أذكر جلسات طويلة بدا فيها كأنه يعيد النظر في الفلسفة الاشتراكية ويركز على موضوع العدالة الاجتماعية ولربما لو عاش لأدّت به الى تكوين رؤية جديدة للنظام الاقتصادي والاجتماعي للدولة القومية الاجتماعية.
7
على صعيد شخصي كان موقفه، منذ البداية، موقف الالتزام الكلّي والرفض اللامساوم، موقف من كان الموت لا يعني له شيئاً.
أتصوره الآن واقفاً قبل عبور فرقة عساف كرم الحدود اللبنانية، يرتدي قميصه الكاكي القصير الكمّ في برد المساء القارس يلقي كلمة، كما نقل اليّ، عالج فيها موضوع التعامل مع أفراد الجيش اللبناني والدرك اللبناني (بأنهم ليسوا العدو) وضرورة عدم التصدي لهم الا دفاعاً عن النفس، والتعامل مع ابناء الشعب باحترام وعدم التدخل في شؤونهم ودفع ثمن كل ما يُطلب منهم من مأكل او مشرب.
في اليوم التالي لانطلاق الثورة وفشلها أُلقي القبض عليه لدى وصوله، بحسب موعد سابق، الى قصر حسني الزعيم واقتيد أسيراً الى بيروت في سيارة فريد شهاب، مدير الامن العام اللبناني آنذاك. رأيت صوره الاخيرة في "النهار" و"الحياة" إثر وصولي الى عمان. كان يرتدي بذلته الصيفية التي يلبسها عادة في المناسبات، يقف مرفوع الرأس. كان الارهاق بادياً عليه وكانت ثيابه مجعلكة، وذقنه تحتاج الى حلاقة. يقف كأنه يتوجه الى المحكمة بكلمة لا نعرف مضمونها، اذ لم تدرج في محاضر المحكمة العسكرية ولم تُنشر في الصحف. كانت خطابه الاخير الى حزبه ووصيته الاخيرة للأمة. عند الفجر صدر حكم الاعدام الذي كان قد اتُّخذ مسبقاً. قبل الاعدام سأله الضابط عن مطلبه الاخير. يقول الكاهن الذي كان حاضراً أنه طلب فنجان قهوة، وعندما وقف أمام الكتيبة التي نفذت حكم الاعدام، رفض أن تُعصب عيناه. ثم انطلقت الرصاصات التي أنهت حياة الرجل الذي لو عاش لربما غيّر مجرى تاريخنا ومجرى التاريخ في عالمنا العربي بأسره.

We ask the Syrian government to stop banning Akhawia and all Syrian sites

القمر بيضوّي عالناس
والناس بيتقاتلوا .
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.07022 seconds with 11 queries