إنها مكتفية مادياً ولكن دون الوصول إلى حدود التخمة التي تخمد عادة جذوة الأحلام والطموحات العريضة.
هذا الوضع المميز يتيح لأبناء هذه الطبقة الانخراط في الشأن العام, ويغذي فيهم دوافع قوية كي يتصدوا لانشغالات وقضايا كبرى.. ولهذا تمتدح الطبقة الوسطى على الدوام, فهي الحامل التقليدي لمشاريع النهضة والتنوير والتنمية, وهي حاضنة الثقافة, ليس بوصفها مستهلكاً وحسب, بل لأنها المنتج الأساسي لها..
ولهذا أيضاً فقد استدعى اضمحلال الطبقة الوسطى (أو زوالها حسب البعض) هذا القدر من التفجع والرثاء..
يشبّه جلال أمين, الاقتصادي المصري المعروف, ما حدث للطبقة الوسطى في مصر, بما حدث للقطارات هناك, فقد زحفت أعداد كبيرة من ركاب الدرجة الثالثة إلى الدرجة الثانية, (فاكتظت هذه الثانية بهم حتى أصبحت لا تختلف فيما تقدمه لركابها من وسائل الراحة, ولكن ركاب الدرجة الثانية لم يعودوا قادرين علي تحمل نفقات وسائل أفضل للراحة, فقنعوا بما هم فيه, تسرب بعضهم إلى الدرجة الأولى فاحتلوا مقاعدها فانخفض أيضاً مستوى الراحة فيها... كأن القطار كله قد أصبح درجة واحدة وإن وجدت هيئة السكك الحديدية ضرورة للتظاهر بأن هناك درجات ثلاثاً أو طبقات ثلاثاً).
ربما ينسحب هذا التوصيف على ما حدث في سورية, إذ ضاقت الفجوة بين الطبقتين الوسطى والدنيا, سواء في الدخل وأسلوب العيش, أو في مستوى التعليم, أو في أماكن السكن, أو في السلع المستخدمة..
وإذا كان من المبالغة القول إن الطبقة الوسطى قد زالت واختفت تماماً, فمن الموضوعية القول أنها فقدت الكثير من ملامحها وسماتها المميزة, أو وحسب تعبير جلال أمين مرة أخرى لقد ضاعت وسط الزحام.
غير أن هذا قد صار شأناً قديماً نسبياً أشبع تحليلاً ونقاشاً وسجالاً, فما الذي يبيح طرح التساؤلات حوله مجدداً? ربما لأننا نخوض تحولاً اقتصادياً كبيراً قد يستتبع تحولات اجتماعية وثقافية جذرية. ستختلط (الأوراق), على الأرجح, ليعاد فرزها من جديد.. فأين الطبقة الوسطى السورية من كل ذلك? هل نحن أمام (ضياع وشيك لما تبقى من هذه الطبقة) كما يقول البعض? أم أننا سنشهد (ولادة طبقة وسطى جديدة) كما يقول آخرون?
الثورة