الموضوع: قصة الأسورة ...
عرض مشاركة واحدة
قديم 29/12/2008   #2
شب و شيخ الشباب المحارب العتيق
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ المحارب العتيق
المحارب العتيق is offline
 
نورنا ب:
Nov 2007
المطرح:
جرح الياسمين
مشاركات:
3,677

افتراضي قصة الأسورة 2


قصة الأسورة 2 .. أم محمد ( فريال ) 1986.....ترويها لكم مايا


" في ذلك المساء تذكرت السوق وفي السوق كان هناك زحام وضجيج وبشر وقطيع خراف .
و يومها اشتروها لقصر قائد الجيش . وكم حمدت الإله حداد يومها . "

صوت الراديو من غرفة نوم جيرانهم " بيت بوظو " ........عل العين موليتين ....و ستعش مولية .
غرفة نومها ....ذلك الظلام الذي يهدده ضوء الشمس المخترق للأباجور الأخضر المكسور المغلق وراء باب البلكون المغلق . وستارة شبه شفافة بلون بني .......ذلك الظلام الذي لون كل شئ في الغرفة بلون بني ...لون حتى الهواء .....لونها هي ....جالسة على فراشها ، في يدها مسبحة حباتها دقيقة خشبية ، تسعة وتسعين حبة ....و بين يديها قرآنها " يا أيها الذين آمنوا " ....و ذبابة زرقاء تطن وتطن حولها منفوخة كأن فيها ألف بيضة .....و صوت سميرة توفيق....و تحاول ألا تسمع وأن تقرأ .
التراب على السقف . منذ متى ؟
ألا تكفي كل تلك الدموع يا الله .
منديلها الأبيض ....تفركه بين أصابعها .
البارحة حلمت...حلمت أنها في تجلس مقرفصة وسط أرض ديار بيت أهلها . وسمعت في حلمها صوت الماء في البحرة ......و بطيخة في وسط البحرة ، وعندما نظرت حولها في الحلم رأت شجرة مشمش وأكدنيا ونارنج ، وفي قمة شجرة النارنج كان هناك نارنجة وحيدة صفراء مجعدة تتدلى من غصن . حلمت أنها تتذوق الرز بحليب ، وتشم رائحة الليمون ، وأن سطح الماء في البحرة كان مغطى بالياسمين وبضع من أوراق شجرة الليمون وفلة . حلمت أنها تتأمل قنطرة الليوان ، والزخارف على حجرها .....الكثير من المخمسات . وداخل الليوان ، على ديوان مغطى بقماشة دماسكو خضراء ، جلس أبوها وأمها يتأملانها مقرفصة وسط أرض الديار .
في الحلم ، كان فوقها سماء ، وكانت تحاول أن تتبرز ، وكانت تضغط وتضغط . تحبس نفسها ثم تضغط أقوى . وألم فظيع ، كأن ألف شئ داخلها يتمزق ، ألم كأنه ألمها يوم ولدت نجلاء ( الولادة الأقسى ) . وتضغط .
و في الحلم رأتها تقترب منها . عارية كما رأتها ذلك اليوم . متألمة . بقايا . وفي الحلم عانقتها ، وجلسا القرفصاء معا ، وبكتا . ثم استيقظت على صوت آذان الصبح .
ما زال صوت سميرة توفيق. كانت تقرأ الآيات وتشرد ، ويحملها الحزن .
" صدق الله العظيم "
قامت من على سريرها . ثوب نومها الطويل العريض السماوي ، كلون عينيها . فتحت خزانتها . ومن داخل درج في الخزانة أخرجت صندوق خشب ، لونه بين الأسود والبني ، على سطحه وردة رسمت بقطع صدف فضية ينعكس عليها الضوء ليعطيها طيف عشرة ألوان . فتحت الصندوق ، ومدت أصابعها داخله . فيه أشياء وأشياء . قصة قصيرة كتبتها يوما نجلاء ، وقصيدة شعر كتبتها نيرمين وآخرى كتبتها نهاد ، خصلة شعر أشقر من خصل شعر ناهد ، وصور وصور وصور ، وقبعة قماشية بيضاء مخرمة ، لها رائحة زيت قشر البرتقال ، أعتادت أن تضعها فوق رأس محمد قبل أن يذهب مع أبيه إلى الجامع . قبلت القبعة .
منذ متى كبر رأسه ؟ منذ متى صغرت القبعة ؟
البارحة ، تركت أوراق الملفوف المسلوقة الصفراء ، وصحن اللحم النئ والرز المجهز لحشو الملفوف . تركت أصواتهن يتناقشن ، تركت خطوط التلفون التي لا " تعلق " ، تركت التلفزيون والمذيع الذي لا يذيع الخبر . ودخلت غرفتها . ترتدي نفس ثوب النوم السماوي ، وفي يدها المنديل الأبيض المعطر بزيت الورد . أغلقت باب حجرتها . جلست على حافة سريرها . لم تكن تريد البكاء . ولكنها بكت ، وصوت التلفزيون في الخارج "ما يطلبه المشاهدون". وهي غاضبة من الله ، ولا تستطيع تحمل المزيد ، تريد أن يعود محمد .

قبة سماوية فوق أرض ديار بيت أهلها في القنوات . القمر في ليال باردة دون سحب . وصباحات الثلج . الأولى دم ، والثانية سم ، والثالثة " كول ولا تهتم " ، وتركض ، وتتذوق الثلج من فوق حافة البحرة ، وتتزحلق وتقع ، وأمها تصرخ وتأمرها أن تعود إلى القاعة ، وكأس من عصير التوت الشامي ، تتركه على الأرض ، وتراقب حبات الثلج الناعمة تسقط حوله وفيه ، وتنتظر أن يملأه الثلج قبل أن تأكله . وعصفور دوري بردان يختبئ في شجرة الأكدنيا ، وقطهم الأشقر يموء ، وأمها تحلف أيمان أنها لن تدعه يدخل .

يزداد الحزن أحيانا ، فيتحول كل نفس من أنفاسنا لبكاء . كل نفس يصبح شهقة رعب من شئ أقسى . وتتحمل . وتتساءل ، ما الحكمة ؟
في طفولتها ، ظنت أن كل مصائبها عقاب ، وأن كل شئ يحدث عدل من الله . وأن كل الأشياء مفهومة ومنطقية .
ألف مرة صرخت بها أمها األا تلعب بزجاجة ماء الزهر .........ألف مرة صفعت مؤخرتها "شحاطة" أمها......ألف ألف صرخة حذرتها من شرب ماء الزهر ......هذا سم ، إن شربته ستموتي .
و في تلك الليلة .
أبوها وزوج خالتها . وأرجيلة ، عليها كتلة من تبغ عجمي أصفر مسود ، وفوق الكتلة جمرة تلمع بلون أحمر يشع مع لون المغرب مع كل نفس يسحبه أبوها . بنات خالتها سبعة ، كلهن يرتدين نفس الفستان الأحمر، نفس التفصيلة ، نفس القماش ، ويختلف المقاس باختلاف العمر والحجم . كلهن يلدغن بالراء . وفي المطبخ لا تسمع من كلامهن إلا غين ، وتسمع صوت معلقة خشب تحرك الكراوية التي تغلي في قدر النحاس . وأخوها توفيق بقمطته البيضاء ، وعينيه المغمضتين ، ويديه المقبوضتين ، والجميع يقبل رأسه وقدمه ويتلو في أذنه آية .
وزجاجة ماء الزهر في " النملية " تمد لسانها كالشياطين .
عمرها خمسة سنوات . وفيها كل غضب وغيرة الخمس سنوات . غضب وغيرة شيطان لم يعرف بعد الخوف .
و توفيق وحده صغيرا فوق فراش أبويها . أصغر من حجم قطة . وهي صغيرة تجلس قربه ، في يدها ملعقة صغيرة وفنجان قهوة كحلي مملوء بماء الزهر . وتسقيه ماء الزهر بالملعقة .
كان يبصقه بالبداية ، ثم مل البصق ، وأخذ ماء الزهر يبلل لسانه وحلقه ومريءه ومعدته .
و بعد أسبوع ، أصابته حمى . ومات .
ظلت سنوات تظن أنها قتلت توفيق ، لسنوات كرهت أمها وماء الزهر . لسنوات سكنتها صورة أمها باللون الأسود ، وشفاهه الزرقاء .....و عقلها ، في ذلك الركن البعيد الأسود من عقلها ، ذلك الركن الذي عادة لا يدري عنه أحد . في ذلك الركن كان يسكن سرها وألم في قلبها .
عشرة مرات شربت فنجانا من ماء الزهر لتموت مثله ، ولكنها لم تمت . طعمه المر ، ولا تموت . كل ما كانت تشعر به هو ألم في صدرها ، ورائحة حقل ورد لا تغادر أنفها ، ولا تموت .
عندما أخبرتها يوما أمها بينما كانت تعلمها طبخ الرز بحليب ، وبكل بساطة ، أن ماء الزهر لا يسمم . تحول سر الإثم داخلها إلى شئ غير ذي معنى . وأصبحت الحمى التي أصابت أخاها مجرد حمى . وأصبحت مصائبها التي كانت تظنها لعنة من الله ، لغزا ، حكمة من الله ، لا تفهمها . وما زالت لا تفهمها .

صباح الجمعة . وخارج غرفتها صوت حركة نجلاء على البلكون .
سنة قد مرت ، وهي ما زلت تتحرك .
برد آذار لا يهمها ، المهم أن تعيش الياسمينة .
لم ترها تبكي منذ وصلت ، كأن لا وقت لديها تضيعه بالبكاء . في أيام الجمعة ، تربط شعرها بمطاطة ، وترمم ذاكرتها. كانت تريد أن يعود البيت إلى نفس الصورة التي كان عليها قبل عشرة أعوام ، الصورة التي كان عليها قبل أن تسافر... ..دهنت الحيطان لتعود بيضاء ، وأعادت تعليق لوحة آية الكرسي فوق الديوان الكبير في الصالون . وخلعت أبواب خزن المطبخ الخشبية ، وأعادت تركيب أبوابا حديدية مخرمة لها نفس شكل ولون الأبواب القديمة . أعادت وضع الفرشة القديمة فوق سريرها . وفعلت الكثير لتعيد الحياة إلى الياسمينة ، غيرت التربة ، أضافت سماد ، حملتها إلى داخل البيت في الليالي الباردة ، قرأت كتبا علمية عن النباتات ، لتتعلم علميا كيف تعود الياسمينة لتعيش .

كان عمرها سبعة عشر .
أسابيع طويلة مرت وهي تشعر بهذه الغصة في قلبها قبل أن تقرر أمها أن تأخذها إلى العطار.
كان هناك مطر . تمشي مع أمها في سوق الحميدية . وصوت حبات المطر فوق السقف كصوت عفاريت تطرق وتطرق . ومشتا . دخلتا إلى دكان أقمشة ريثما يتوقف ويخف المطر .قماش برتقالي ، وقماش سماوي ، وأمها بملاءتها السوداء ، صارمة كأنها تحاول اختيار قدرها وليس قطعة قماش .
و توقف المطر .
تتذكر رائحة التوابل ، ربما ألف نوع وأكثر ، يمتزجون في رائحة واحدة . ثم وصلتا إلى دكانه .
أبوه كالعفريت ، طربوشه ، شرواله ، وذقنه البيضاء ، وحدبته . أما هو ، طويل جدا ، نحيف جدا ، شاربين بالكاد يرسمان خطا فوق شفتيه ، وينظر إليها ، وهي تبتسم حتى تكاد تضحك .
لف لهما أربعة أنواع أعشاب ونوع من الزهر لتغليهم وتشرب مغليهم كل يوم على الريق . والشاب النحيف يبتسم لها . وهي احبته . وابتعدتا . تأكل حبة مشمش مجففة ، وطعم حلو حامض واخز يصدم لسانها بلذة . وتراه يلحقهما، وتلتفت ، وتبتسم له ، وتنظر إلى شاربيه .
كل صباح شربت مغلي الأعشاب ، على الريق ، وطعمه مر ، ورائحته كرائحة فأر ميت . وبعد أسبوع راح الألم ، وبعد عشرة أيام زارتهم أمه وأخته لتخطبانها .
ليلة العرس .....يوم ضمها ، وشعر عنقها بقلبه ينبض ، وخلع ملابسه ، وعظامه بارزة لا يغطيها لحم ، وتقرص خده ، وتسحب شعرة من شاربه ، وتقبل فروة رأسه ، و" الشطي مطي " يمتط بين أسنانها وأسنانه ، ورأسه في حضنها ، وتضحك سعيدة ......و تحبه وتحبه وتحبه . منذ تلك الليلة عرفت أنه سيكون أكثر من زوج ، عرفت أنه سيكون ابنها . كانت تحبه كأنها ولدته .

مات دون أن يخبرها سر تركيبة أعشاب غصة القلب . والغصة عادت لقلبها منذ مات ، ولا تعرف لها دواء .
تشعر بقلبها يعتصر لدقائق ، وتتذكره .

الحب ؟
ذلك الشئ الذي يستعمرنا ويحولنا . ذلك الشئ الذي يخلق لنا مهمة مقدسة نموت لأجلها . تلك الكذبة .
يوم الجلاء . الكل سعيد ، وهما ، وبعد ثلاثة أشهر من زواجهما ما زال الجميع يناديها بالعروس ، والعدس يغلي.....كانت أول مرة تطبخ له " ستي زبقي " ....و عاد ، وقبلها ، سعيد ككل الناس ، وخارج باب البيت تسمع هتاف وأحيانا رصاصة . يحمل كيس ، وفي داخل الكيس زجاجة ، وفي الزجاجة سائل شفاف . خمر . وقبلها ، وجلس وأكل وشرب ، ورائحة اليانسون تقتلها ، تحاول ألا تنظر إليه وألا تنظر إلى الكأس والزجاجة . وشرب مرة أخرى ، وثالثة ورابعة . وعندما سكر قام وقبلها ، أحست بالحرام يقتحم جسمها ، ولكنها عادت لتحبه كولدها عندما وضع رأسه على حجرها وبكى .
و مع الأيام اعتادت كلما رأته يشرب أن تغلق عليه الباب ، وأن تجلس قريبة منه منتظرة دموعه ، منتظرة أن تحبه أكثر .
أكان الحب ذلك الذي جعلها تتحمل ولادة خمسة أولاد ؟ أكان الحب ذلك الذي جعلها تتحمله وهو يمسك كتابا ويخبرها عن التاريخ وعلي بك الكبير وقناة السويس ودلسيبس والأمة العربية ، ويقرأ لها أشعار المتنبي ، وامرؤ القيس ، أبي سلمى ، ومجنون ليلى ، ويتحدث عن السياسة ، والفساد . تتذكره عندما حبس نفسه في البيت رافضا الخروج خارجه حتى لا يرتدي " البرنيطة " عوضا عن طربوشه ، كما أمر الحناوي . ثم عندما كان يعود إليها ليلا ويهمس في أذنها عن أخبار الاعتقالات ، وماذا يحدث في المعتقلات ، وهي تخاف .
الوحدة . الناس تتحدث . جمال عبد الناصر . والمطر انقطع عن البلد . وولدت محمد . بعد خمس بنات .

تريد أن تقوم من عن سريرها . تريد أن تتحرك ركبتيها دون ألم . تريد أن تخرس الموسيقى الأجنبية التي تأتي من نافذتها . تريد . تريد . تريد . تريد أن يتوقف نزيف البكاء داخلها وأن يطير الحزن وأن تنسى .
تنسى نهلة . تنسى أبا عبد الكريم . تنسى نجلا . تنسى قلقها البارحة .
تنسى صورته قبل أن يموت ، يجلس بين يديها كما جلس دائما . زوجها وحبيبها وصغيرها . عيناه ....نظرة عجوز ونظرة طفل . ألم . وذراعه مقطوعة . وبناته يمسحون جسده بزيت الزيتون . ثم يبكي . أخبرها أنه لا يخاف الموت ، ولكنه لا يعرف كيف يعيش بعيدا عنها .
نظرت إلى صورته . باللون الأبيض والأسود . يبتسم . وقبلته .
شمت المنديل في يدها . منديلها الأبيض .
كانت لا تستطيع تغير خروق ابنتها دون المنديل المبلل برائحة الورد فوق أنفها . ومع الأيام أدمنت رائحة الورد . وأدمنت حمل المنديل .
لقد مسحت جسدها في ذلك اليوم بمنديل أبيض كهذا المنديل .
عندما تقدم لهم ليخطب نهلة ، صرخت عاليا " مستحيل " ، ثم تتذكر ابنتها تلبس الثوب الأبيض .عروس . شعرها بني كقطة شامية . وعلى خدها خال . وعلى شفاهها حمرة . وبشرتها بيضاء بيضاء بيضاء ، حتى تكاد أن تكون شفافة ، وتكاد أن ترى من خلالها حبا . وهو يجلس إلى جوارها . عريسا . وفارق عشرين سنة . والبشرة البيضاء . وخداه الحمراوان . وعيناه الزرقاوتان . ويداه العريضتان ، وتفوح من يديه رائحة موت ، ورائحة جلد السياط التي هوت على أجساد الناس . رائحة الشعر الذي حرقته تيارات الكهرباء . رائحة الاسمنت الذي أمر بصبه فوق مصبات وضع داخلها شباب أكبرهم بالعشرين . كيف كان لها ألا تبكي ؟ كيف لا تبكي وهي تجلس وتنظر إلى ابنتها مستعدة أن تغتصب .
أيام الوحدة انحبس المطر ، ثم عاد المطر . أيام الوحدة سمعت به " مدحت رسول " وبعد الوحدة تزوج ابنتها . أمثاله تراهم دائما ، لأن الجميع يحتاج خدماتهم . وهو كان جيدا .

ذلك الحلم . ألف مرة حلمت أنها في غرفة دون أثاث ، ولمبة حمراء معلقة بسلك عاري تتدلى من السقف ، ورغم اللمبة كان هناك ظلام ، ورجال كثيرون حولها ، عشرة وأكثر من عشرة . يرتدون بدلات رمادية ، وفوق شفاههم شوارب غليظة ، وفي أقدامهم شحاطات بلاستيكية رمادية ، وأقدامهم غليظة ، وفي أيديهم أحزمة . وهذه الأحزمة تنهال عليها ، وتستيقظ ، ولثوان تبقى في عقلها ذاكرة ألم اللحم المتفزر .
سكتت الموسيقى . آذان الظهر . يوم الجمعة .
الله أكبر ...... الله أكبر
فردت ركبتيها ووقفت . وصوت طقة خافت أتى من عظامها . وصداع عنيف في رأسها.
خرجت إلى غرفة الجلوس ومشت إلى غرفته . وألم وصداع . بيتها . تتذكر حماتها التي " بركت " لخمس سنوات ، وسلفها الذي سرق ورث زوجها عن أبيه .و البارحة . ومونتي كارلو تذيع الخبر . ثم يسمعون الخبر بال ب ب س . أما القناة السورية فكانت تعرض ماريا ديب تقرأ الرسائل والاهداءات .
إنفجار....باص...سيارة.....شاحنة ....براد....ساحة العباسيين.....بناء الروس . جميع البنات بخير . ولكن أين محمد ؟
و مضى الليل . أين محمد ؟ وقررت أن تشرب سم وتموت إن مات محمد .
إخوان.....عراقيون....أردنيون... ..لبنانيون....لا يهم . قررت أن تموت لو مات محمد .
البارحة .في غرفتها جلست وحدها ، تحادث الله ، وكالعادة لا يجيبها . في غرفتها جلست . تبكي . تتخيل دخانا ودما ونساء يصرخن ورجال شرطة وجيش ونعالا سوداء واسفلتا وأشلاء . يدا . ساقا . وأنينا . وتتخيل جثة ابنها وسط الأنين . والغصة في قلبها تمزقها . لا تريد أن تتخيل . وصداع .

الضوء يدخل حجر البيت . الضوء يدخل مرة أخرى بعد ليلة صعبة . الضوء دخل كل مرة .
عندما ماتت نهلة ، فتحت صندوق الخشب وحرقت كل شئ فيه يذكرها بها . حرقت خصلة شعرها وحرقت صورها . حرقت كل شئ كان يخصها . حرقت عودها ، والأغاني التي كانت تكتب . حرقت علبة دخانها المخملية الزهرية . وضعت كل شئ بطنجرة النحاس الكبيرة ، وصبت فوقه قليلا من زيت الكاز . ووقفت تنظر إلى النار . حمراء . ودخان أسود . أرادت أن تنسى . تمنت لو تحرق مدحت رسول . تمنت لو ماتت جوليا ومات كنان . تمنت لو تموت هي حتى يتوقف الألم . والدخان يحرق عينيها . وتمنت أن تنسى .
و دخل الضوء كل صباح . ومر كثير من الصباحات . ودخل كثير من الضوء . ولم تنس .
أبو عبد الكريم . والقلق . وزوجها . والموت . ألف رمح . وعلى جسدها آثار الطعن . إبر الأنسولين خلفت جلدا قاسيا على ذراعها اليمنى وذراعها اليسرى وفوق بطنها . وكل شئ حولها يجعلها تتذكر . ونجلاء مهووسة باسترجاع الذاكرة .
كيف نتكلم مع الله ؟ كيف نقضي ساعات نتكلم مع شئ نؤمن بوجوده دون أن نراه ؟ كيف نصدق أنه سيخلصنا من عذابنا رغم أنه لم يخلصنا يوما ؟ كيف نحبه كل هذا الحب رغم كل القسوة في عمرنا ، ورغم كل الحزن ، ورغم كل الحقد والغضب الساكن فينا . معجزة الله الكبرى أننا ما زلنا مؤمنين . ونحبه . كثيرا .
أحيانا تقف قليلا ، تحاول أن تتذكر . ألم الولادة كان حلوا . ولكن ألم الأولاد بعد الولادة مرا مرا .

فتحت باب غرفته . ورائحة كريهة . رائحة دخان ، ورائحة واخزة كالقئ . نائم فوق سريره ، فوق الشرشف الكحلي. رأسه يتدلى معلقا . ظهره عار وأخمص قدميه سوداوان ، وقرب رأسه باكيت إيبلا . وعلى الأرض ، فوق السجادة البيج ، أعقاب سجائر .
دخلت الغرفة والمنديل فوق أنفها . دخلتها بحزم وهدوء كما ضوء الشمس . شدت اللحاف من تحت ساقيه وغطته . أعادت رأسه إلى فوق الوسادة . وحملت "سطلا " سماويا امتلأ ربعه بقئ بني فيه قطع بندورة وقطع لحم مشوي أسود .
عاد البارحة الساعة الرابعة صباحا سكرانا . وكانت سعيدة جدا لأنه عاد .
قبلته . قبلته . قبلته . لأنه عاد ولم يمت .
الضجيج في الخارج . صوت "طرطيرة" وصوت باص وصوت أطفال يلعبون كرة القدم وجارة تصرخ . مشت تحمل السطل لترمي القئ ، والمنديل يضغط على أنفها وتشم رائحة الورد .
تريد أن تتوضأ وتصلي وتشكر الله وتناجيه ، فقد اشتاقت .
قال لها يوما " أنت أقوى من حبي . قوتك تمنعني أن أحبك أكثر . ولكن قوتك هي من تجعلنا وتجعلني أستمر "
وقع السطل من يدها . ارتخت ساقها اليمنى ، ووقعت .
كان صوت ارتطام رأسها أعلى من صرخة ألمها . وصوت استغاثتها مبحوحا أجشا خافتا . مجرد صوت . لم يستطع لسانها أن يشكل منه كلمة .
و أصابعها ما زالت تقبض على المنديل . والقئ بلل البلاط . ورأسها فوق البلاط . ورائحة القئ في أنفها وطعمه في حلقها . وفوق رأسها إيشارب أبيض ، وانسلت خارجه خصلة شعر بيضاء نسيت أن تلمسها الصبغة . وطنين في أذنيها . وصوت أولاد الحارة يلعبون كرة القدم . وصوت محمد يقفز خارج سريره ، وخطواته الثقيلة ، ويصرخ . ثم حملها ، وارتفعت كريشة . وسقط منها المنديل .
قال لها مليون مرة أنه يحبها . ولكنها لم تخبره ولا مرة كم تحبه . مات دون أن يعرف كم تحبه . مات دون أن يعرف أنها أحبته وهو سكران . أحبته وهو مريض . أحبته وهو يموت . أحبته قويا . أحبته ضعيفا . أحبته رغم خيانته لها . أحبته يوم هجرته عشيقته فعاد إلى حضنها ليبكي .

_____________________

" في الليل . في قصر القائد . كان هناك دائما شعلات نار معلقة على جدران الحجر . وكان هناك دائما نور . وكان هناك دائما عسكر ونساء . وفي قصر القائد كانوا في كل يوم يفرحون لولادة ويحزنون لوفاة . "

يتبع

الفهيم بيريح

لك تاري الحمار لو شو ماسلموه بيصدق حالو وبدك تناديلو سيد حمار
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.30721 seconds with 11 queries