عرض مشاركة واحدة
قديم 11/01/2008   #51
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي


ولكن هذا الاستقرار لا يدوم لجعفر الراوي فهو يستدرج للعمل السياسي، أو للتفلسف السياسي، ويحتد في مناقشة فكرية مع زميل له فيقتله، وهكذا ينتقل من هدوء التأمل والاستقرار إلي رعدة الثورة والاضطراب، وهكذا نجد أنفسنا ـ دون أن نقاوم أو نفكر ـ أمام نقطة منطقية قادنا إليها نجيب محفوظ، بعد أن رسم لنا الشخصية، ونمت معنا خطوة خطوة حتي أصبحنا نتوقع منها ما تفعله، وهذا هو دور المبدع الحق، إنه يجعلك تؤلف معه الرواية، وعلي الرغم من أن المبدع يقود خطانا في درب مجهول لا ندري شيئًا عما يختبئ فيه، فإنه قد يبذر بذورًا جيدة. تنمو حتي تصبح حديقة نحيا في رحابها، صحيح أنها حديقة ممتازة ممتدة، وصحيح أن نباتات المؤلف نباتات برية ليس للحدائق بها عهد، إلا أننا ـ علي الأقل ـ نستطيع (بما قدمه لنا المؤلف من مقدمات) أن نعرف منطق النمو، وهو ما يجعلنا نقع فريسة للدهشة عندما نقرأ كل صفحة من الصفحات. لقد قدم إلينا المبدع أفضل ما كان يمكنه تقديمه، وقد كنا نتوقع منه ذلك، ولكننا نقر بيننا وبين أنفسنا أننا لم يكن لدينا أدني علم علي الإطلاق بما سيقدمه إلينا، وأني لنا العلم بما هو مستكن في ضمير مبدعنا. والحقيقة هي أننا حين نهب أنفسنا للعمل الفني الذي يقدمه لنا المبدع، إنما نجيز له أن يفعل بنا ما يشاء، أي أننا وثقنا به، وعقدنا بيننا وبينه عهدًا بأن نقبل ما يقدمه إلينا، ولكن هذا بالطبع لم يتم دون مقابل أو بلا مقدمات، لقد أقنعنا المؤلف بصدقه منذ البداية، وطلب منا أن نتنازل عن مقاومتنا، وأن ننخرط في العمل، أي ألا نكون متفرجين، وأن علينا ـ بالأحري ـ أن نكون لاعبين داخل الملعب، نصنع الحدث ونشارك في تنميته، وهذا ما نجح المؤلف في تحقيقه، والرأي عندنا أن جوهر العملية الإبداعية عند نجيب محفوظ يكمن في إعجاز الإيجاز الذي أفلح تمامًا، ودون أن يضحي بشيء من طزاجة التفصيلات، في أن يحققه في روايته هذه، محافظًا علي دقة السرد، وثراء التفصيلات، ووضوح الأفكار، وتلقائية الشخصية، وعفوية المشاعر، وطلاقة الأحاسيس، وصدق الوصف، سواء للأفكار، أو للانفعالات ، وبراعة التفسير، دون اللجوء إلي نوع من التلفيق أو التبرير اللاحق لما اضطر إلي وضعه من أفكار أو أحداث في المقدمة وقد أفلح المبدع في أن يحقق ذلك بأقل قدر من الألفاظ، وبأوجز حجم من الأبنية اللغوية، حتي ليمكنك أن تعثر في سطر واحد علي معانٍ وصور وأحاسيس، كان من الممكن أن تعرض في صفحات.
ولنأخذ مثلاً (ص 71) أحد أصدقاء جعفر الراوي يصفه قائلاً:
ـ إنك شيطان في تكيفك مع العربدة، ملاك في تكيفك مع الاستقامة.
2ـ نلاحظ أن هذا القول ورد علي لسان صديق له، وهذا يعني أن سلوك جعفر الراوي يمكن رصده وهو مطروح بجلاء أمام القارئ.
2ـ نلاحظ ثانيًا أن جعفر الراوي له جانبه الذي مازال يعانق الأسطورة ويلعب مع الجن، وهو قد تكيف معه وعاشره وأحبه وأخلص له (زوجته الأولي الغجرية مثلاً).
3ـ لجعفر الراوي كذلك جانبه النوراني، الاستقامة والاستقرار والحب الهادئ الرصين (الزوجة الثانية).
4ـ أن جعفر الراوي لديه القدرة علي التكيف مع الأوضاع المتباينة.
5ـ أن قدرته علي التكيف قدرة عبقرية، تصل إلي قدرات الشياطين والملائكة.
ويمكننا أن نستخرج من هذا السطر عددًا غير قليل من الدلالات التي توضح لنا قدرة نجيب محفوظ الفذة علي الإيجاز دون إخلال بالمعني، بل قدرته علي الإيجاز القادر علي الإيحاء بأكثر من معني، كالشمس تدركها صغيرة ولكنها تبث الأشعة المضيئة عبر ملايين الأميال وفي كل اتجاه.
خاتمة:
بعد هذه الجولة القصيرة، والنموذج الموجز الذي حاولنا به أن نقترب من عالم نجيب محفوظ، يمكن أن نصل ـ دون مبالغة ـ إلي استخلاص نتيجة محورية وأساسية، مؤداها أن أبرز خصائص العملية الإبداعية عند نجيب محفوظ هي تمتعه بقدرة متفوقة علي الأصالة (أي الإبداع في سياق الجديد الموجز غير المكرر والملائم لطبيعة السياق ومنطقه). (Guilford,1979:Barron,1968) وهو يقوم بذلك في إيجاز إلي حد الإعجاز، بحيث لا تجد كلمة زائدة عما يقتضيه المقام، ولا تعثر علي موضع كان يحتاج إلي مزيد من التفصيل، وهو ما يمكن أن ينظر إليه النقاد بوصفه إحكامًا للعمل الأدبي، وهندسة للبناء الفني، أو ما يحلو لبعضهم أن يطلق عليه اسم روعة المعمار الفني في روايات نجيب محفوظ، وليست تهمنا الأسماء أو العناوين أو اللافتات أو التعميمات.. إلخ، ولكننا نهتم في الأساس بالقدرة علي الإبداع، كما يمارسه المبدع في أحد أعماله الفنية، وكما يفرزه في سياق ما ينجزه من إبداعات، بحيث يجيء العمل الذي يقدمه صورة من قدرته، ودليلاً علي مدي براعته وتمرسه وسيطرته علي أدواته الإبداعية، ومعبراً عن «الأساس النفسي الفعال. Psychic Functional constitution الذي قاد خطي المبدع وهو يعمل وحرس تلك الخطي في الاتجاه المناسب، وحافظ عليها من الضياع والتبدد في منافذ غير مطلوبة أو مرغوبة وهو الأمر الذي حافظ علي وحدة العمل وجماليات المنتج ومنطقية البناء وسلاسة وتواؤم العلاقات بين مختلف مفردات العمل الإبداعي:



شُذَّ، شُذَّ بكل قواك عن القاعدة
لا تضع نجمتين على لفظة واحدة
وضع الهامشيّ إلى جانب الجوهريّ
لتكتمل النشوة الصاعدة
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.04405 seconds with 11 queries