عرض مشاركة واحدة
قديم 12/08/2008   #16
شب و شيخ الشباب nabaga
مسجّل
-- اخ طازة --
 
الصورة الرمزية لـ nabaga
nabaga is offline
 
نورنا ب:
Aug 2008
مشاركات:
9

افتراضي الطيب صالح


الطيب الصالح
عبقرية روائية جديدة

بقلم رجاء النقاش


لم أصدق عيني وأنا ألتهم سطور هذه الرواية وأتنقل بين شخصياتها النارية العنيفة النابضة بالحياة ، وأتابع مواقفها الحارة المتفجرة ، وبناءها الفني الأصيل الجديد على الرواية العربية .. لم أتصور أنني أقرأ رواية كتبها فنان عربي شاب ، ولم أتصور أن هذه الرواية الناضجة الفذة – فكراً وفناً – هي عمله الأول . لقد أخذتني الرواية بين سطورها في دوامة من السحر الفني والفكري ، وصعدت بي إلى مرتفعات عالية من الخيـال الفني الروائي العظيم ، وأطربتني طرباً حقيقياً بما فيها من غزارة شعرية رائعة .

ولم أكد أنتهي من قـراءة الرواية ، حتى تيقنت أنني - بلا أدنى مبالغة – أمام عبقرية جديدة في ميدان الرواية العربية .. تولد كما يولد الفجر الجديد المشرق ، وكما تولد الشمس الإفريقية الصريحة الناصعة .

فمن هو هذا الفنان الشاب ، وما هي روايته ؟ .. إنه كاتب سوداني لم أسمع عنه ولم اقرأ له شيئاً قبل هذه الرواية ، واسمه الطيب الصالح . أما روايته فاسمها " موسم الهجرة إلى الشمال " ... وكل ما عرفته عن هذا الفنان الشاب أنه من مواليد 1929 ، وأنه تخرج في إحدى الجامعات الانكليزية ، ولذلك فليس أمامنا إلا أن نواجه الرواية نفسها بدون أي مقدمة عن المؤلف ، فأثمن ما لدينا عن المؤلف هو الرواية .

إن الرواية تعالج المشكلة الرئيسية التي عالجها من قبل عدد من كبار الكتاب العرب . إنها نفس المشكلة التي عبَّر عنهـا توفيق الحكيم في روايتـه " عصفور من الشـرق" وعبَّر عنها بعد ذلك يحيى حقي في روايته " قنديل أم هاشم " وعبر عنهـا الروائي اللبناني سهيـل إدريـس في روايته " الحي اللاتيني " .. وأقصد بهذه المشكلة : مشكلة الصراع بين " الشرق والغرب " وكيف تواجه الشعوب الجديدة هذه المشكلة .. كيف تعالجها وتتصرف فيها ؟ .. هل تترك هذه الشعوب ماضيها كله وتستسلم للحضارة الغربية وتذوب فيها وتقلدها تقليداً كاملاً ؟ هل تعود هذه الشعوب إلى ماضيها وترفض الحضارة الغربية وتعطيها ظهرها وتنكرها إنكاراً لا رجعة فيه ؟ هل
تتخذ موقفاً ثالثاً يختلف عن الموقفين السابقين ... وما هو هذا الموقف الجديد ؟... تلك هي المشكلة التي تعالجها رواية الطيب الصالح .

وقبل أن نتعرض لمناقشة الرواية ، وما تقدمه إلينا فكرياً وفنياً ، لابد لنا أن نلاحظ ملاحظة أولية ، فهذه الملاحظة بالذات تفسر لنا ما في الرواية من عنف ليس موجوداً في الروايات السابقة التي تناولت نفس الموضوع ، فمشكلة الشرق والغرب كما ظهرت في الروايات السابقة لا ترتبط بتجربة مريرة مثل تلك التي يعبر عنها الطيب صالح ، ذلك أن الشرقي عند هذا الفنان الشاب هو شرقي إفريقي " أسود اللون " ومشكلة البشرة السوداء هذه تعطي للتجربة الإنسانية عمقاً وعنفاً ، بل وتمزجها بنوع خاص من المرارة . إن توفيق الحكيم أو يحيى حقي أو سهيل إدريس أو غيرهم من الادباء الذين عبَّروا عن مشكلة الصراع بين الشرق والغرب ، كانوا جميعاً من آسيا وشمال إفريقيا . وهذا معناه ببساطة أن مشكلة اللون لم تكن عندهم عنصراً من العناصر المشتركة في الصراع الكبير . ولكن ها هو الطيب صالح يصور هذه المشكلة ويعبَّر عنها من خلال إنسان إفريقي ذي بشرة سوداء ، يذهب إلى لندن ويصطدم بالحضارة الغربية اصطداماً عنيفاً مدوياً من نوع غريب . وعنصر اللون هنا له أهميته الكبرى ، فالبشرة السوداء أكثر من غيرها هي التي انصب عليها غضب الغربيين وحقدهم المرير ، وهي التي تفنن الغرب في تجريحها إنسانياً قبل أن يكون هذا التجريح سياسياً أو اقتصادياً أو ثقافياً . إن الإنسان الأسود قد عاش قروناً من التعذيب والإهانة على يد الغرب ، وتركت هذه القرون في النفس الإفريقية جروحاً لا تندمل بسهولة . ومن هنا كانت حرارة المأساة كما رسمها الطيب صالح في روايته الفذة . إنه يصوّر صدام أقدار متضادة إلى أقصى حدود التضاد . فمصطفى سعيد بطل الرواية ، لا ينتقل من السيدة زينب إلى لندن ، أو من السيدة إلى باريس ، أو من بيروت إلى باريس ، كما تجد في الروايات العربية التي صورت نفس المشكلة . إن هذا البطل الروائي الجديد ينتقل من قلب إفريقيا السوداء إلى لندن . والحوادث الرئيسية في الرواية تجري في أوائل هذا القرن حيث كانت إفريقيا تغوص في ظلم وظلام لا حد لهما . على أن هذا كله لا يعني أن رواية " موسم الهجرة إلى الشمال " قد ركزت تركيزاً حاداً على مشكلة اللون ... على العكس تماماً نجد أن الطيب صالح يمس هذه المشكلة برقة وخفة ورشاقة ، وهو يمسها من بعيد جداً ، حتى لا نكاد نلتقي بها إلا بين السطور . ولكن هذا العنصر اللوني مع ذلك يفسر لنا عنف الرواية وحدتها بصورة لا تجدها في أي رواية عربية أخرى عالجـت نفس الموضوع .. إن الجرح الإنساني الذي ينزف في هذه الرواية العظيمة هو اكثر عمقاً من أي جرح آخر ... إنه جرح الإنسان الإفريقي الأسود .
وأول ما يلفت النظر بعد ذلك في هذه الرواية ، هو ما يمكن أن نسميه بالموقف الحضاري للكاتب الفنان ، ولا يستطيع أن يصل إلى هذا الموقف إلا فنان ذو عقل كبير وقلب كبير ، لأن صغار الفنانين ليس لهم موقف حضاري على الإطلاق .. ورواية "الطيب" تعكس موقفاً محدداً واضحاً ، لقد سافر مصطفي سعيد بطل الرواية إلى لندن ، ووصـل هناك إلى أعلى درجات العلم ، وأصبح دكتوراً لامعاً في الاقتصاد ، وإن كانت ثقافته قد امتدت واتسعت حتى شملت كثيراً من ألوان الأدب والفن والفلسفة وأصبح مصطفى سعيد مدرساً في إحدى جامعات انكلترا ومؤلفاً مرموقاً . ولكنه في حياته الخاصة ارتبط بعلاقات وثيقة مع أربع فتيات انكليزيات ، وانتهت هذه العلاقات جميعاً نهايات حادة دامية . وهي نهايات تشبه طبيعة مصطفى سعيد نفسه ، وتشبه عواطفه الساخنة ومزاجه الحاد كالسكين .

إن هذا البطل الروائي الوافـد من إفريقيا ، يتعثر في أزمات حادة مريرة ، ولا حل له في آخر الأمر كما تقول رواية الطيب صالح إلا بأن يعود إلى قرية في قلب السودان ، ليشتري بضعة أفدنة هناك ، ويعمل فيها بنفسه ويتزوج بنتاً من بنات القرية السودانية ، ويواصل حياته الجديدة بطريقة منتجة هادئة ، لم يعرفها من قبل في انكلترا حيث عاش هناك حياة عاصفة مؤلمة .
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.04280 seconds with 11 queries