الموضوع: هيفاء بيطار
عرض مشاركة واحدة
قديم 15/12/2007   #43
شب و شيخ الشباب Moonlights
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ Moonlights
Moonlights is offline
 
نورنا ب:
Nov 2007
المطرح:
فوق جبل بعييييييد
مشاركات:
263

افتراضي حب على حافة الحياة / هيفاء بيطار


حب على حافة الحياة


لم يعد يملك سوى ذلك الصمت النابض يواجه به الأيام التي تتراكم فوقه, ولم يكن عمره الذي قارب التسعين يشعره أنه يحتضر, كان يعرف أن غيابها يعني الموت, فهي نبضة الحياة, فليفتح نفسه للألم طالما لم يعد من أمل بلقياها, وليترك نفسه مذعناً لوجع الذكريات وليسمح لدموعه أن تسير في أنفاق وجهه المغضن بتجاعيد الطيبة, من يعيد له عطرها, ابتسامتها, صوتها وهي تدندن أغانيها, دندنتها وهي تحكي له ظلم الناس لها, من يعيد للشيخ حبيبته, لم يصدقوه حين قال لهم إن القلب لا يشيخ وأنه قدُّر له أن يحب وهو على أعتاب التسعين؟كان زاهداً في الدنيا, أسير وحدته القاسية حين التقاها في قفر وحدته المثالي للتأملات واستعادة الذكريات, كان يشعر بذل الشيخوخة ويمازح نفسه ساخراً: كل شيء فيك مرقع يا عدنان, أسنانك الاصطناعية, عيناك اللتان زرعت فيهما عدستين, وفي أذنك اليمنى سماعة بدّلوا لك مفصل الورك حين سقطت وكسرته, ما أنت سوى حطام رجل وهؤلاء قساة القلوب أولادك وأحفادك ينتظرون وفاتك, لا يمكنك أن تخدع نفسك وأنت تقرأ وجوههم وابتسامات النفاق التي يواجهونك بها, وقد أدركت نواياهم بحدسك فامتنعت عن التنازل عن البيت الكبير وعن الكافتريا الصغيرة التي يديرها أحد أحفادك ويعطيك كسرة من الأرباح.حكمة السنين علّمتك أن تقرأ نفوس البشر, أن تطل على هاوية القسوة والأنانية في نفوسهم يا للمرارة وأنت تعترف لنفسك أنك لو تنازلت لهم عن البيت والكافتريا لطووك كما يطوون سجادة قديمة ورموك في غرفة ضيقة أشبه بالقبر مبتهلين إلى الله لتسريع موتك فما فائدة شيخ اقترب من التسعين يعيش في منزل واسع يساوي الملايين.كان يعرف أن كلاً منهم – أولاده وأحفاده – يخططون عشرات الخطط لاستثمار بيته, لا يعوقهم سوى حياته, سوى تعاقب أنفاسه ونبض قلبه الرتيب, فليمت, يسمعها تدوي في صمتهم المطبق وهم يزورونه كل يوم جمعه مدعين حبه, ومقدّمين له ولاء طاعتهم الكاذب, فليمت, يقرؤها في حدقات عيونهم الضيّقة من الغيظ لماذا تعيش كثيراً أيعقل إننا ننتظر موتك منذ عشرين عاماً ياه! لماذا لا يلبي الله صلواتنا, ألا يقولون أن الله يلبي الدعاء الصادق؟لايمكن أن ينسى ذلك الحوار الذي يقشعر له جسده كلما استعاده بذاكرته كان لا يزال تحت تأثير المخدر, خارجاً لتوه من غرفة العمليّات بعد أن بدّلوا له مفصل فخذه المكسور, كان يسمع أصوات موسيقا بعيدة تصله من فضاء قصي جميل يهيمن عليه اللون الأزرق فيبتسم ابتسامة أقرب للشرود حين صفعه صوت أليف يعرفه إلى حد الوجع صوت حفيده عدنان الذي طالما حمله ودلله ولا عبه لعبته المفضّلة بأن يركع ليترك عدنان يمتطي ظهره ويسير به طول الصالون حتى نهايته التي يسمونها جزيرة المرجان.ياه يا عدنان لم أكن اعرف أن هذه اللعبة تكشف عن سادية وقمع تبطنان روحك.أفاق من التخدير بعد أن قذفه صوت عدنان إلى عالم الصحو المرعب صوت معدني جاف وحاقد: كنا نتأمل ألا ينجو من هذه العملية كيف تحمّل جسده المهترىء ثلاث ساعات تخدير.فتح عينيه محدّقاً بالنور الذي بهره ولم يسمح له تمييز أحد اقترب منه يهوذا وقبله قائلاً: الحمد لله يا جدي قمت بالسلامة, تنحى جانباً متعمداً أن يريه أكاليل الزهر, شكره, أجبر نفسه على الاعتقاد أن ما سمعه ما هو سوى هلوسات أما الحقيقة فعدنان الذي سماه في سره يهوذا يريد بيته الكبير ليحوله إلى مطعم يعتقد انه أحق من المقربين كلهم إلى جده فهو الحفيد الأكبر والذي يحمل اسم جده, كرهت اسمي يا عدنان عدنان وزن شيطان تمنى في سريرته لو لم يصح أما كان أشرف له لو مات ما معنى حياة تتحول إلى تراكم سنوات؟ هل الانتصار الوحيد للإنسان هو أن يبقى حياً.أحضروه للعناية بعد أن فقدوا الأمل من وفاته, لسان حالهم يقول: (( تجاوز الخامسة والثمانين يبدو أن الموت نسيه )) جملة سمعها من زوجة أحد أبنائه, وقرأ صداها في عيونهم وتراكمت كلماتها فوق طبقات حزن تترسب طبقة فوق طبقة وكلها هدايا من أولاده.لم يكن يعرف أن القدر سيسخر منه لهذه الدرجة أو ربما أحبه لهذه الدرجة, لقد أحبها منذ اللحظة الأولى التي وقع فيها نظره على وجهها الجميل المغلف بالإعياء امرأة في الأربعين لكنها لا تزال شهية ونضرة في عينها حزن يزيد جاذبيتها تحاول مداراته كل لحظة, كان عليها أن تقضي عنده اثنتا عشر ساعة مل يوم تأتي صباحاً, وتتركه مساءً, تنظف البيت تطهو له طعامه الخالي من الملح والدسم تغسل ثيابه وتسليه بقراءة المجلات أو تلاعبه بالورق.ظل لأيام يتفرس بوجهها محاولاً اكتشاف قرَفها منه اشمئزازه من خدمة شيخ يقترب عمره من القرن, لكنه لم يَر بذرة اشمئزاز كانت نظرتها طافحة بالورود حتى أنها أدهشته حين أشبعت قطن بالكولونيا ومسحت رقبته و وجنتيه ويديه, ضحكت ضحكة قصيرة كأنها بررت ما قامت به بتلك الضحكة, جلست إلى جانبه وقالت له كأنها تبوح بحقيقة لنفسها أنت تحب, كريم ولطيف وإنساني.لم يشم رائحة طمع, استوقفته كلمتها الأخيرة, سألها: إنساني ماذا تقصدين؟ رفعت إليه عينين شاردتين ارتجف فمها, وغشت عينيها طبقة لزجة من الدموع, اجتهدت أن يكون صوتها صافياً دارت تشققاته وهي تقول متهربة من الجواب: سأعد القهوة.كان ممنوعاً من شرب القهوة لكنه رغب أن يشرب معها قهوة السر, هكذا أحس ولم يكذّبه إحساسه لأنها – ومن غير إنذار – تدفقت أمامه دموعاً ساخنة وكلاماً خارجاً من بهاء روحها المتألمة, باحت له بمأساتها يبدو أن عمره المديد أو إحساسها أنه على حافة القبر خفف عنها عبء قول الحقيقة سيموت ويموت اعترافها معه.حكت له قصّتها كيف كان زوج أمها يتحرش بها حين كانت في الحادية عشرة, أحست الأم فأسرعت بالتخلص منها, وزوجتها لرجل يزيدها بثلاثين عاماً عملت خادمة له ولأولاده إلى أن حاول ابنه التحرش بها فهربت من المنزل وطلبت الطلاق, وجدت نفسها مرمية في الشارع وعليها أن تعيل طفلين أنجبتهما, اضطرت بعد أشهر من التشرد والجوع أن ترجع إلى زوجها الذي صار يضربها متهماً إياها أنها هي التي أغوت ابنه معيداً على سمعها مئة مرة في اليوم: إن الشيطان امرأة.أخذت نفساً عميقاً وحبسته في صدرها قالت بعد صمت ثقيل: المهم الطفلان يجب أن يعيشا عيشة كريمة.كان سخياً في عطائه وكانت تقدر عطاءاته وكانت تقدر عطاءه لدرجة أن يقبّل يديه شاكرة, حفظت مواعيد دواء الضغط والقلب, حضّرت له حلويات خفيفة شهيّة, وعرّفته بطفليها اللذين أحبهما أكثر من أحفاده كلهم طالباً منهما أن ينادياه جدي.سرى الدفء في أيامه وعروقه وحياته, فلتكن تلك المرأة كفنه, كان يتأمل يدها وهي تمسح زجاج النافذة يتأملها بافتتان وهي خارجة من الحمّام مبلولة الشعر وهي منحنية تمسح الأرض ما أجملها, ما أقربها إلى روحه, فليعترف لنفسه بأنه يحبها وبأنها دنياه.اعترف لها ذات يوم أنها بعثته من رماده وانه كان ميتاً حقاً من دونها, شكرته وهي تدعو له بطول العمر, تمنى لو يملك الشجاعة ويطلب إليها أن تتزوجه بعد أن طلقها زوجها, سيكون الزواج بالنسبة إليه الدفء والرحمة اللذين حرم منهما, وبالنسبة إليها الاستقرار وضمان حياة كريمة لطفليها.لكنه لم يجرؤ على اتخاذ خطوة واحدة, سيقولون إنه خرف كم أحس بالقهر وهو يعي حقيقة تصلبه, لا يحق لقلب العجوز أن يحب! سحب رصيده من المصرف وقدّمه لها, قالت له بانفعال أليم: لن أقبل, لن أسمح لذل الحاجة أن يضطرني للقبول, أنت تعطيني أكثر مما استحق, هذا المال من حق أولادك.قال: بل من حق من يحبني ويعتني بعجوز مثلي دون تذمر أو قرف.استنكرت كلامه قائلة: أنت أروع رجل عرفته في حياتي لكن... سمع كلماتها رغم أنها لم تنطقها بل تركتها محبوسة في حنجرتها, ماذا لو عرف أولادك؟قال: ستأخذين المال, فأنت أحق به من أولادي..كان يحس أن حياته متعلقة بحياتها ومصيره معلق بمصيرها وحين تتركه كل مساء, يجلس مستنشقاً عبقها منتظراً طلوع شمس جديدة تزف حضورها إليه, إنه يتعبد عشقاً في محراب شيخوخته.باغتته بعد سنة من الخدمة بسؤال: أتحبني؟رفع إليها عينين مسهدتين وبرطم بكلمات غير مفهومة.قالت له وهي تضم رأسه إلى صدرها: وأنا أحبك أيضاً صدقني.تمنى لو يموت في تلك اللحظة, أية روعة أن يلفظ أنفاسه الأخيرة على صدرها الدافئ, إنه لا يتحمل الحياة بعيداً عنها, كلهم غرباء وحدها عاملته بحنان وإنسانية.الحب بعث الأمل في قلبه, لم يعد يفهم ما معنى أنه في التسعين وقد يعيش عشرة أعوام وربما عشرين وهو في جنة الحب, من قال إن الحبّ والسعادة حكر على الشباب؟فاتحها برغبته بالتواجد عنده ليل نهار, بأن يتزوجها ويسجل البيت باسمها, غض نظره وأكمل ما لابد من قوله: من حقك أن تحبي شاباً مثلك, إذا وجدت الشخص المناسب, صارحيني, سأتفهمك, ومن يدري قد أكون ميتاً وقتها, فأجنبك حرج الصراحة.كان يجب أن يعلمهم عن نيته في الزواج من حبيبته, لم يعرف أنهم سيحجرون عليه وسيتهمونه بالتخريف, طردوها, وألفوا عنها الشائعات والفضائح, هددوها بالسجن بتهمة الدعارة, سحبوه من البيت الكبير وزجوه في مشفى المجانين, الطبيب الذي عاينه مراراً تعاطف معه في البدء ثم لم يعد يقدر أن ينظر إليه, أن تلتقي عيونهما, عرف أنهم اشتروه, دفعوا له كي يكتب أنه مجنون.كان يقدّر ظروفها, تمنى لو تغامر وتزوره مرة واحدة, مرة واحدة فقط, امتنع عن الطعام راغباً بمغادرة الذل والغدر, علقوا في وريده سيروماً, تظاهر أنه قبل بإجرائهم العلاجي, انتظر أياما غارقاً في مستنقع ذكرياته, وجوه أهداها عمره وخانته, حب أتى متأخراً ليهزأ منه أم لينقذه, لا يعرف.سحب إبرة السيروم من يده, أحس بكيانه يختزل ويصير مجرد قلب ينبض بالحب, لكن بلا جدوى, محكوم عليه بنهارات تعذبه, وبمساءات تقبره فليتحرر ليطير خارج قفص الجسد, عساه يلقاها في فضاء ما.ربط حبل كيس السيروم حول عنقه, وأخذ يشد بطاقته كلها, أحس كيف تجحظ عيناه وتضطرب أنفاسه, ربط طرف الكيس بعارضة السرير المعدنية, وجر جسده بالاتجاه المعاكس, اسقط نفسه أرضاً لكي يكون الشد على رقبته أعظم, بعد لحظات رآها تدخل إليه شفافة كشفافية الفجر الأولى, مبتسمة ابتسامة أذابت آلامه كلها, انحنت بجانبه واضعة رأسه على صدرها الدافئ, مسحت جبينه المتعرق براحتها, ثم مسحت جبينه بقطعة مشبعة بالعطر, بكى فسالت دموعه بين نهديها, كانت عبراته لزجة حمراء تتدفق من عينيه بوقارٍ مذيبةً وجع الذكريات.

We ask the Syrian government to stop banning Akhawia and all Syrian sites

القمر بيضوّي عالناس
والناس بيتقاتلوا .
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.07156 seconds with 11 queries