عرض مشاركة واحدة
قديم 04/05/2008   #189
شب و شيخ الشباب mnhoos
شبه عضو
-- اخ حرٍك --
 
الصورة الرمزية لـ mnhoos
mnhoos is offline
 
نورنا ب:
Sep 2006
مشاركات:
50

إرسال خطاب MSN إلى mnhoos
افتراضي


-زياد شاعر الأغنية:
أنطلق هنا من فرضية تقول:إن ثمة علاقة بين نوعين مختلفين من الوعي:"وعي العالم"-واختصاراً أسميه "الوعي"- والوعي الفني.
"الوعي" أعني به رؤية الفرد للواقع وللتاريخ وينبثق عنه بصورة حتمية(شعورية أو لا شعورية) فعل موجه للمستقبل(يمكن أن نسميه "برنامجاً" قد يضيق إلى حدود الشخص وقد يتسع ليتحول إلى فعل يستهدف التأثير في مجمل التركيبة الاجتماعية).
و"الوعي الفني" أعني به التصور العام للفرد لما ينبغي أن يكون عليه العمل الفني(المنتمي إلى فن محدد).
ولو نظرنا إلى نوعي الوعي من الزاوية السيكولوجية لرأينا أن كليهما ناتج عن تعود –مستبطن- على نظام محدد للأشياء، فالوعي الاجتماعي ناتج عن استبطان للبنية الاجتماعية الموجودة والوعي الفني ناتج عن استبطان بنية نوع محدد من الفن على الأقل.
والوعي الاجتماعي العادي هو وعي الفرد الذي يعد النظام الاجتماعي القائم أمراً بديهياً لا يخطر له ببال أن يحاول تغييره (في الأسس وإلا فكل فرد له انتقاد على بعض الظواهر الاجتماعية ورغبة في تغييرها).
وكذلك فإن الوعي الفني العادي هو الوعي الذي يعد قواعد الفن السائد أمراً بديهياً لا يتغير (خذ مثلاً الوعي الفني في حالة الشعر العربي في مطلع هذا القرن الذي أخذ العصر العباسي كمثل أعلى للشعر كما هو في نفس الوقت "الشعر الصحيح" ببساطة)
المناقشة العامة لمسألة العلاقة بين نوعي الوعي لا يطرحها هذا المقال مهمة له وسأكتفي هنا بدراسة مثال ملموس على هذه العلاقة هو مثال شعر الأغنية عند زياد الرحباني.
وزياد الرحباني،كفرد، مثال على الإنسان الحائز على "وعي اجتماعي نقدي" وهو بالتناقض مع "الوعي الاجتماعي العادي" لا يرى في النظام الاجتماعي القائم أمراً بديهياً وهو يرى إمكانية تغيير هذا النظام جذرياً- أي تغيير أسسه (أرجو أن لا يفهم القارئ من هذا العرض أن كاتب هذه السطور يؤيد كل "وعي اجتماعي نقدي" إذ كثيراً ما أثبت المجتمع أنه على حق وأن "الثوريين" على باطل وخصوصاً في المجتمع العربي!).
وإذا أخذنا فن شعر الأغنية كمثال فإننا نرى بوضوح فاقع أن لزياد وعياً فنياً نقدياً لا يقل في وضوحه عن وعيه الاجتماعي النقدي.
كان الأخوان رحباني، في زمنهما، خارجين أيضاً عن مألوف شعر الأغنية الذي كان سائداً حين بدأا التأليف والتلحين ويكفي للتأكد من ذلك مقارنة قاموس الأغنية الرحبانية مع قاموس الأغنية العربية السائدة في زمانهما (مثلاً في مصر) وبالتوازي مع هذا الجديد في شعر الأغنية كان ثمة تجديد في الموسيقى. وأخيراً أود إثارة انتباه القارئ إلى نقطة أراها مهمة وهي أن هذه الأغنية الجديدة تبناها جمهور محدد تميز أيضاً في وعيه الاجتماعي (والسياسي) عن الوعي الاجتماعي السائد.
إن الأغنية الرحبانية كانت الأغنية المفضلة عند المثقف العربي الحديث (لا عند المثقف التقليدي ولا عند ابن الشارع العادي!).
وحين بدأ زياد نشاطه الفني- متوازياً مع انحيازه الفكري- السياسي فإنه كان- ربما- أكثر شخص معني بتحديد "موقف فني" من الأغنية الرحبانية.
منذ البداية "تحلّف"- بالحاء المهملة وتشديد اللام- لهذا الاتجاه الفني (يقال في تعبيرنا الشعبي "تحلف له" أي أضمر له الشر وانتظر فيه فرصة) أنظر مثلاً "أغنية عاطفية" زيادية من أوائل أغانيه تصلح بحق أن تدعى من منظور الأغنية الرحبانية "أغنية مضادة":
"عاهدير البوسطة
كانت نقلتنا
من ضيعة حملايا
على ضيعة تنورين
تذكرتك يا عليا
وتذكرت عيونك
يخرب بيت عيونك
يا عليا شو حلوين !"
ومع "يخرب بيت عيونك" يقطع زياد قطعاً عنيفاً مع قاموس الأغنية الرحبانية الذي سنسميه الآن (أو نصفه) بأوّل ما يخطر على البال وسيأتيك مزيد من التعليق على هذه النقطة بعد قليل:
هذا القاموس (الرحباني) "رهيف"، "شفاف"، "رومنسي" أما القاموس "الزيادي"الجديد فهو "فظ"، "مبتذل" فظاظة مقصودة "قصداً وعمداً" وابتذال واع مخطط له.
ولا تقل الموسيقى "فظاظة" عن الكلمات، إيقاعات صاخبة وتوزيع موسيقي يذكرك بالموسيقى العسكرية واسمع مثلاً هذه "الأغنية العاطفية المضادة":
"1- أنا اللي عليك مشتاق
مش غيري مشتاق ليك
وإذا رجعت من عشاق
وعشقتيني شو عليك
2- طول عمرك نشطة وحركة
وبتحبي رقصة دبكة
بدي إتعلم دبكة
تا أشبك دييّ بديك
3- وقفني حاجز دركي
قلي شو الإسم البركة
يا ويلي مللا لبكة
إسمي نسيته بعينيك"
لا "مش غيري مشتاق ليك" ولا "نشطة وحركة" ولا "شو الإسم البركة" تنتمي إلى قاموس الأغنية العاطفية الرحبانية المعتاد وليس هذا فحسب، إن هذه التعابير هي هرطقة وفظاظة وابتذال من منظور هذه الأغنية.
"اسمي نسيته بعينيك" هو بالأصل تعبير ينتمي إلى المدرسة الرومنسية المذكورة غير أن كل السياق الذي أدى إليه يجعل منه محاكاة ساخرة لهذا التعبير.
ومن هنا نرى أن زيادا ًوضع نصب عينيه تحطيم هذه المدرسة بتشويه قاموسها وتعابيرها وموسيقاها و"تهزيئها".
ولو أردنا معرفة من أين جاءت هذه الأغنية لوجب ان ننظر إلى النصوص الأصلية التي يريد الابن المتمرد للرحابنة تمزيقها برسم "كاريكاتور" لها.
ونقترح على القارئ بعض الشعر الغنائي الرحباني للمقارنة:
عن "ثيمة" الاسم واختفائه على سبيل المثال:
"بكتب إسمك يا حبيبي عالحور العتيق
بتكتب إسمي يا حبيبي عا رمل الطريق
بكرة بتشتي الدني
عالقصص المجرحة
بيبقى إسمك يا حبيبي
وإسمي بينمحى"
في النص الرحباني ثمة علاقة مع الطبيعة (لا مع ظواهر بعيدة عن أن "تصلح" لأغنية مثل "الحاجز الدركي").
الحور العتيق، رمل الطريق. هذه هي المواضيع التي يتعامل معها العشاق الرحبانيون واسمع إن شئت:
"القمر بيضوي عالناس والتاس بيتقاتلوا
عا مزارع الأرض الناس عا حجار بيتقاتلوا
نحنا ما عنا حجر
لا مزارع ولا ثمر
أنت وأنا يا حبيبي
بيكفينا ضو القمر"
بينما يصعد عشاق الرحابنة من الأرض إلى السماء يعيدهم "الابن العاق" إلى الأرض. في أغنية من بداياته يذكر بالشروط المادية، الشروط التي لا يشترطها الرحابنة لنجاح الحب (هذه الأغنية خالية على كل حال من فظاظات الأغاني اللاحقة في إنتاج زياد):
" حالة تعبانة يا ليلى
خطبة ما فيش
إنت غنية يا ليلى ونحنا دراويش"
إذا كنت وصفت القاموس الرحباني "بالرهافة" (في جملة أوصاف مماثلة تذكر عادة في هذا السياق) وكنت وصفت القاموس الزيادي بجملة من الأوصاف مثل "الفظاظة" وقد أزيد عليها "قلة الأدب" (وهي "تجديف" ضد قواعد السلوك اللفظي وغير اللفظي الاجتماعية) بل التجديف الديني أيضاً (مثل: "عايفة الله وسماك") فيجب تذكر نسبية "الجمال" و"القبح". إن الشعر الأشقر لم يكن عند العرب جميلاً فيما مضى (وأنا أعلم أن القارئ لن يصدق ذلك لهذا أدعوه إلى العودة إلى قصائد الغزل العربي القديم وليحاول أن يجد قصيدة واحدة تتغزل بالشعر الأشقر، وإنه لواجد قدر ما يريد من غزل بالشعر الأسود الفاحم مثل:
" الوجه مثل الصبح مبيض
والشعر مثل الليل مسود"
ولا يظن أحد أنه لم يكن لدينا نساء شقر فقد كان لدينا من الجواري المختطفات من بلاد الشمال ولا سيما السلافيات "الصقالبة" الكثير).
وفي موضوعنا هذا أذكر مقابلة مع "عاصي الرحباني" ليس لدي الآن في برلين نصها مع الأسف قال فيها إن الكلمات التي بدأ الرحابنة استخدامها في الأغاني مثل "الصخر" و"الوعر" و"الشوك" لاقت استهجاناً من شعراء ذلك العصر لأنها لم تكن كلمات "جميلة" أو "شاعرية". هذه الكلمات ستصبح عند الرحابنة وعند جمهورهم من المثقفين العرب الحديثين كلمات "جميلة" "رهيفة" "شاعرية" بذاتها! وهذه الكلمات بالذات هي التي سيتمرد عليها زياد وهو في هذا التمرد يقدم لنا مثالاً على العلاقة بين "الوعي الاجتماعي النقدي" و"الوعي الفني النقدي".
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.07241 seconds with 11 queries