عرض مشاركة واحدة
قديم 10/08/2008   #1
شب و شيخ الشباب achelious
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ achelious
achelious is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
المطرح:
الغدّ
مشاركات:
2,008

افتراضي متفرقات...ألبرتو مورافيا


الجنون

تستطيع المرأة أن تعرف خلال حياتها رجالاً كثيرين، لكنها لن تعرف إلا أباً واحداً وربما لهذا السبب اعتبرتُ الرجلَ الذي كنت أدعوه من كل قلبي رجلَ حياتي، في نهاية الأمر، أباً لي. نعم إنه أب جدير بهذا الاسم بدلاً من الأب غير الجدير والذي أدين له بوجودي في هذا العالم، وأفضّل أن أدعوه "بابا" وقد استطاع أن يجعلني أعيش حياتي كلها كطفولة مستمرة تفيض إحساساً بالأمان والسلام، هذا ماكان يُشكّل الأساس الحقيقي والصادق لزواجنا. لايهمني إن كان يكبرني بحوالي ثلاثين عاماً وأني مثقفة (أحمل إجازة في العلوم، وأجريت ذات مرة بحثاً في الجامعة، كمدّرسة) وهو رجل مال، أقل مني ثقافة وغائص في المال حتى رقبته. إن مايهمني هو أني أحسُّ بنفسي قادرة على أن أكون في المقدمة خلال وجودي كله معه. ذلك أنه، بالإضافة إلى الحب الجسدي الذي نعيشه والذي يدوم فإننا نعيش أيضاً الحبَّ الأبوي والحبَّ البنوي اللذين يدومان، بطبيعتهما، إلى الأبد.‏

بعد عامين من العلاقة السرية (يجب أن أقول "المتخفية"، فقد كان مضطراً إلى التخفي عندما كان يريد أن يراني لأن له زوجةً وأولاداً) قررت ذات مرة أن أقوم بشراء بعض الحاجات في الحي الغريب الذي نسكنه. ولدى خروجي من أحد المخازن لاحظت على مقربة مني امرأة بالغة الأناقة، طويلة القامة، جميلة الخلق، سمراء من الجنس الهجين كما يبدو، كانت واقفة إلى جانب الرصيف كما لو أنها تنتظر أحداً ما أوشيئاً ما. بالكاد تنبهتُ لوجودها، حين ظهرت سيارة أعرفها كل المعرفة وكان رجل -بابا يقودها. توقفَتْ. فُتح الباب وصعدت المرأة وانطلقت السيارة من جديد. ألقت المرأة بذراعيها حول عنق رجل حياتي لتقبّله على شحمة أذنه ثم اختفيا من حياتي.‏


هرعتُ إلى البيت وجلستُ في غرفتي. نظرت حولي وفجأة، أحسست بماذا أقول؟ نعم أحسست برغبة ضاغطة في أن أرمي كل مايوجد حولي وأن أرمي -لاتخافوا من الكلمة- العالم بأسره. هذا الأثاث وهذه الكتب جميعاً وهذه الطنافس وهذه السجاجيد. داهمتني رغبة في أن أتقيأها كلها، في أن أنظر إليها بالاشمئزاز نفسه وبالدهشة نفسها التي ننظر بها إلى كومة من المواد المتعددة الألواث التي تخرجها معدة مريضة. كان ذلك في إحدى الأمسيات الشتوية وبقيت غارقة في تأمل حياتي التي تقيأتها للتو حتى خيّم الظلام تماماً.‏


تلمساً، ذهبت إلى غرفتي. تداعيت على سريري ورحت أفكر في الطريقة التي يجب أن أسلكها من الآن فصاعداً في معاملة عشيقي. واجهت حلولاً متعددة ولم يناسبني أي منها. بالتأكيد يجب أن أغادر حتى يغادرني هذا الشعور بالاشمئزاز ولكن أين أذهب؟‏
قلت لنفسي بتفكير منطقي تماماً: "ليس المهم مغادرة مكان والاستقرار في مكان آخر، بل المهم مغادرة الأماكن كلها" مباشرة، وبلا تردد، أشعلت مصباح القراءة، سكبت قليلاً من الماء في كوب ثم ابتلعت كل مااحتواه أنبوب الحبوب المنوّمة: حبتين، حبتين... في أعماقي، لم تخامرني أبداً فكرة موتي بل فكرة موت إحساساتي وذكائي، لئلا أعود قادرة على التفكير في أي شيء ولا على رؤية أي شيء لاسيما صورة سيارة تبتعد، يقودها عشيقي -بابا وتلك المرأة، سارقة الحب، تكلمه بحنان في أذنه. سقطت في ثقب أسود، خرجت منه بعد اثنتي عشر ساعة إذا وجدت نفسي نائمة في إحدى غرف المستشفى هو الذي نقلني إليه، فعندما لم يرني في الموعد الذي حدده لي في ذاك اليوم اشتمَّ رائحة مصيبة حدثت. عندما صحوت، وجدت نفسي في مشفى لايعالج إلا الاضطرابات العقلية الخفيفة، ولم يكن مصحة عقلية. لم يظنُ "بابا" سابقاً أني أصبحت مجنونة لكنه أدخلني إلى هذا المشفى لأن الطبيب الذي يديره صديق له.‏


هل عرف عشيقي أني حاولت الانتحار بسببه؟ هذا ما لم أعرفه أبداً. أما كونه ارتاب في شيءٍ ما فهذا أمر غير مستبعد لأني لمست، طيلة السنوات التي تلت الحادث، في موقفه إزائي ضيقاً وحافزاً للشعور بالذنب من محبين معاً.‏


مكثت في المشفى مايقرب من أسبوع ورجوت طبيبي أن يُفهم بابا -عشيقي أني مازلت تحت تأثير الصدمة، صدمة محاولة للانتحار فاشلة وأني أُفضّل -الآن على الأقل- ألاّ أقابل أحداً. كانت الأيام السبعة التي أمضيتها وحيدةً مفيدةً لي. لقد توصلت أخيراً إلى معرفة الطريق التي يجب أن أسلكها مع الرجل الذي خانني، لن أقطع صلتي به ولن أواصلها، بل "سأعلقّها".‏


لاأريد، بالطبع، أن أجعله يملّني، بل أريد منه أن يواصل اهتمامه بي ولو كان ذلك بلا طائل. قد يظن أحدكم أني تخيلت طريقة للانتقام ناعمة وقاسية. لا، لاشيء من هذا القبيل. في الواقع كنت أريد أن أستمر في رؤيته لأني مازلت أحبه وبما أن حبي قد أطيحَ به لذا لم أعد أريد أن أراه ثانية. إذاً بين هاتين الرغبتين المتناقضتين: المرض العقلي الذي يمكن أن يشفى منه والذي يمكنه أيضاً ألا يشفى منه والذي، إذا لم يُشْفَ منه المرء، فإنه يقطع كل علاقة له مع الآخرين.‏


إن مرضي العقلي هذا يؤدي بشكل رائع المهمة التي حددتُها له: يجب عليه أن "يعلّق" علاقتنا.‏


ولسبب آخر كانت إقامتي في هذا المشفى بالغة الفائدة. فبعد أن راقبت المرضى الذين يعالجهم توصلت إلى تحديد الصفات الخاصة بالمرض المتخيَّل الذي قررت بدءاً من هذه اللحظة أن أكون مصابة به بصورة دائمة. لقد اخترت شكلاً خفيفاً من أشكاله لكنه عنيد. وربما لايمكن الشفاء منه -إنه مرض الكآبة الانحطاطي الذي يكون مصحوباً في أطواره الأولى بهلوسات عديدة ومتنوعة. عليَّ إذاً أن أكون حزينة وواهنة وكارهة للبشر. وعليَّ في الوقت نفسه أن أسمع وأرى أشياء غير موجودة ولايمكن أن يكون لها وجود.‏


بعد عدة أيام من عودتي إلى البيت اتصلت ببابا سابقاً وشرحت له ما أحسُّ به. قلت له إني أكلمه وأنا قابعة في الظلام الدامس، وحيدة، وحيدة تماماً. وفي الوقت نفسه أحسُّ بأن رجلاً يسكن معي في البيت وأني أسمعه يمشي في الغرفة المجاورة ويفتح الأبواب ويغلقها ويدندن بصوت خافت. أبدى بابا سابقاً الكثير من الاستغراب ثم سألني: ألستِ تخافين من هذه الأصوات الغريبة؟ لا، لا، إني لا أخاف. إني أسمعها وهذا كل مافي الأمر. ألا تودّين أن آتي لرؤيتك حالاً؟ لا، لا، فوجوده يوقف هلوساتي، لا. لم أكن أطيق رؤيته، لم أكن أطيق رؤية أحد. ولكن متى نلتقي؟ قريباً، قريباً جداً. عندما أُشفى، بعد شهر مثلاً. لقد أقنعه صوتي الصادق المشوب ببحة حزن حقيقي. وبعد أن جعلني أقسم بأني أحبه، وهذا قسم صحيح لأني حقاً مازلت أحبه، غادرني بعد أن تواعدنا على الالتقاء على الهاتف مرة في الأسبوع على الأقل.‏


عندما أقسمت له أني أحبه لم أجانب الحقيقة. أما فيما يخص هلوساتي فقد كذبت. وعن وجود رجل في بيتي فقد كان صحيحاً كل الصحة، فقد كنت شابة جميلة ولم أشكُ من قلة العاشقين. ولدى خروجي من المشفى ذهبت مباشرة لتصيُّد أقلهم قبحاً. كان طالباً يدعى مانليو، وبعد وقت قصير مارسنا الحب. لم أكن أحب هذا المانليو، بل كنت أحب مموِّلي، لم أكن أريد الانتقام، لم أكن أريد شيئاً محدداً. فقط تابعتْ الحياة مسيرتها مع زيادة هذا الخيال الذي بسببه كنت أنفي لعشيقي سابقاً أنها تتابع مسيرتها. على العموم، كان مرضي العقلي ينتصب بيننا كلوح من الزجاج الذي يسمح لنا أن نرى الآخرين ولايسمح لهم برؤيتنا. أنا أرى مموِّلي وحبه لي بينما هو لايراني ولا يرى مانليو الواقف خلفي منتظراً بفارغ الصبر انتهاء المكالمة.‏
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.04122 seconds with 11 queries