عرض مشاركة واحدة
قديم 23/08/2008   #11
شب و شيخ الشباب achelious
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ achelious
achelious is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
المطرح:
الغدّ
مشاركات:
2,008

افتراضي


هذا هو قدَر السيتونية. لقد كانت هذه الشابَّة التي أعطتها أمها نصائحها التي تظنُّها غير ضرورية، تشعر في الواقع بأنها مختلفة، اختلافاً لا يُحدّ نهائياً، عن رفيقاتها من جنسها. شيء لا يصدَّق، لكنه صحيح: كانت الورود لا تعني لها شيئاً. وكانت سيتونيتنا تشعر، شعوراً عارماً، بأنها مدفوعة لتغيير هذه المشاعر الوراثية والحارَّة، التي تشعر بها السيتونيات نحو أجمل الورود المعطَّرة، منذ الأزمنة السحيقة، إلى اختيارات باردة وخشنة. كانت السيتونية قد اكتشفت باكراً جداً ميولها، ورأت، في مبادرةٍ أولية، أن تكاشف أمها بالأمر. لكنها فيما بعد، ومثلما يحدث دائماً في هذه الحالة، شعرت بالذعر من صعوبة اعترافٍ كهذا، وفي الوقت ذاته ومع شكِّها بالعلاج الأمومي، عدلت عن ذلك. وحاولت جاهدة ولثقتها بقدراتها الشخصية، إصلاح نفسها بنفسها. وهكذا حاولت متنقِّلة من وردةٍ إلى وردة، تحت عيني أمها العطوف، الحصول مع الرضى على هذه الرغبات التي كانت فطرتها ترفض إعطاءها لها. جهد ضائع. فما أن كانت تدخل بين الأوراق حتى تتوقَّف سريعاً، وكأنها مشلولة، وليس فقط غير مبالية، بل صراحةً، عرضة لنفورٍ لا يقاوم. وكان هذا اللَّحم الناعم يبدو لها مغموساً بشهوةٍ لزجة وعسليَّة، والروائح كعفونات مختلطة، والبياض كظلٍّ نجسٍ وفاحش. وكانت تحلم، وهي لا تزال جامدة ومشمئزَّة، بالملفوف الأخضر الطازج والشهي. فالملفوف لا يتزيَّن بألوان البطاقات البريدية المزيَّفة، ولا يتعطَّر بعطر البتشولي(3) المقزِّز والمريب، ولا يعرض بمحاباة هذه العذوبة المغثية. وقلب الملفوف مثير للشهية، يلتوي وهو يتعرَّج بين التِلَع(4)، ورائحته رائحة العشب والندى الصحيِّ، ولونه أخضر زاهٍ. كانت السيتونية تلعن في قلبها، الطبيعة التي جعلتها مختلفة عن ممثِّلات جنسها الأخريات؛ أو بالأحرى ما جعل جميع السيتونيات الأخريات مختلفات عنها. أخيراً، وعندما وجدت أن إرادتها لا تساعدها على النجاح في شيء، وأنها حاولت جاهدة إرغام نفسها كثيراً ولم تستطع حب الورود، قررت ألا تقاوم ميولها أبداً، بل أن تستسلم لها صراحةً. كانت تفكر أحياناً، محاولة تبرئة نفسها بطريقة مغالطة، وإنامة ضميرها تقول: "وفضلاً عن ذلك، ما هو الملفوف؟ إنه وردة خضراء... إذاً، لماذا لا أحبُّ الملفوف...؟"‏
بعد كل ما قيل، من السَّهل تصوُّر ملاحظات السيتونية الشابة، حول ورقة شجرة الزعرور، حيث تركتها الأم لتطير نحو وردة شهواتها. ولكي نسلّط الضوء على مأساة هذه النّفْس، سنروي بعضاً منها: "شيء حزين أن نُخْلق مختلفين عن الجمهور. لا نعرف لماذا، ولا نعرف كيف يصبح الفرق، فجأة، دونيةً، خطيئةً، وجريمة. ومع ذلك، لا يوجد بين الجمهور وبيني سوى علاقة عدد. مصادفة كون السيتونيات، في غالبيتهن العظمى يحببن الورود؛ من الجيد إذاً، أن نحب الورود. نهج جميل في التفكير. أنا، مثلاً، أحب الملفوف ولا شيء آخر سوى الملفوف. إنني مكونَّة على هذا النحو، ولا أستطيع أن أتغيّر."‏
ومن غير المجدي، من جهةٍ أخرى، نقل أفكار السيتونية التعيسة كاملةً. يكفي القول، كي نبتّ في أمر تفكيرها الطويل إنها طارت نحو شجرة الزعرور، وبعد عدة جولات استكشافية، ذهبت لتحط على ورقة أكبر ملفوفة موجودة، لونها أخضر-مزرق، منتفخة، ومليئة بالضلوع والتجاعيد. وكي لا تلفت الأنظار إليها، تظاهرت بأنها حطّت على الخضرة لترتاح. وبالتالي، اتخذت وضعاً متراخياً؛ فجلست على جنبها وأسندت رأسها على قائمتها. وكان نعم الرأي، لأن سيتونيتين طائشتين مفعمتين بالحيوية، ظهرتا بعد برهة، وأخذتا ترفرفان حولها. ثم صاحتا ثملتين: "ألن تأتي؟ إننا ذاهبتان إلى الورود." ولحسن الحظ أنهما لم تهتَّما في عجلتهما بمراقبة رد السيتونية على دعوتهما. ................وبعد أن ألقت السيتونية نظرة خاطفة حولها، ولحظت عدم ظهور أي سيتونية في الأفق، تظاهرت بأنها تعثَّرت بضلعٍ من أضلع ورقة الملفوف، وتركت نفسها تتدحرج باتجاه قلب الخضرة. وخلال ثانية واحدة، وبعد أن أحدثت فتحةً بضرباتٍ تشنُّجية في الورقة السمينة والغشائية، اختفت داخل قلبها المجعَّد.‏
وماذا نقول أكثر من ذلك؟ هل علينا أن نتوقَّف عند وصف الهيجان الذي فتحت به السيتونية طريقاً لها داخل الملفوفة، وقد أصبحت حرة أخيراً في إطلاق غرائزها المكبوتة، وقد انتشت بالنتانة النباتية التي كانت تفوح من قلب النبتة الشحيم، وكيف وصلت إلى قلب الأوراق البارد واللَّزج؟ وكيف بقيت طوال النهار في الداخل، خائرة القوى، وأمضت فيه نهار سكرٍ وعربدةٍ حقيقيين؟ ....... وعند المساء، انسحبت السيتونية، على مضض، بالممر الذي حفرته في قلب الملفوفة، كما هو مقرَّر، وطارت نحو شجرة الزعرور، إلى المكان الذي حدَّدته أمها لموعدهما. فوجدتها منحنية، تنظر حولها، قلقة لأنها لم ترها تظهر. سألت الأم الشجاعة ابنتها سريعاً كيف سارت الأمور خلال النهار؛ فردت السيتونية صراحة، بأن كل شيء تمَّ على أحسن ما يرام: فالورود متوفِّرة بكثرة. وتفحَّصت الأم وجه ابنتها؛ لكنها اطمأنّت تماماً لملاحظتها بأنه صافٍ وبريء مثلما هو دائماً. قالت لها عندئذٍ: "تصوَّري بأن فضيحة قد تفجّرت... لقد شوهدت سيتونية تدخل تحت أوراق، أكاد لا أجرؤ على أن أكرِّر الكلمة، ملفوفة." وزايدت الابنة قائلة: "يا للهول"؛ لكن سرعة دقات قلبها بدأت تشتد، وأضافت: "ومن كانت؟" أجابت الأم: "لم يستطيعوا تبيُّنها. شاهدوها تدخل تحت الأوراق، وهي تخبِّئ رأسها فيها... لكن، تبعاً لأغمدتها يُظَنُّ أنها فتيّة. شقيّة هي الأم التي جعلها حظها العاثر تلد بنتاً كتلك. وأعترف لكِ بأنني لو كنت أعلم أن لابنتي ميولاً مماثلة، لمتُّ من الألم." وردّت البنت قائلة: "إنكِ على حق. إنها أشياء يرفض العقل حتى تصوّرها." فقالت الأم: "هيا بنا." وطارت السيتونيتان في فتور الغسق، نحو حدائق أخرى، وهما تثرثران.‏


ترجمة: وفاء شوكت
______________________________________________
" عن الفرنسية"‏
(1)- سيتونيه (حشرة تشبه الزيز، من مغمدات الأجنحة).‏
(2)- هَنَة (ما يرميه الصيادون من صغار السمك).‏
(3)- بتشولي (عشب عَطِر).‏
(4)- تلعة ج تِلَع (ما علا من الأرض).‏
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.03823 seconds with 11 queries