ـ يستطيع " S" أن يتذكّر لوح كبير مليء بالكلمات و المعادلات الغير منظّمة و ليس لها تسلسل منطقي ، بعد النظر إليه للحظات . و يستطيع استحضار محتويات هذا اللوح إلى ذاكرته في أي وقت يشاء ، حتى بعد سنوات عديدة ، دون أي خطأ .( لكن إذا حصل خطأ ما في استحضار رقم أو حرف معيّن من بين محتويات اللوح ، يكون السبب في أن ذلك الرقم أو الحرف لم يكن مكتوباً بشكل واضح ، أو يمكن أن يكون "S" قد سمع صوتاً مزعجاً ، أو كان أحدهم يتكلّم في الوقت الذي يقوم بعملية حفظ محتويات اللوح ) . فتوصّل لوريا إلى أن أي خطأ في استعادة عنصر معيّن إلى الذاكرة يعود إلى أسباب إدراكية ، ليس لخلل ما في القدرة على التذكّر .
ـ أما الأمريكي "كيم بيك" ، فيستطيع استحضار 7.600 كتاب إلى ذاكرته ، و يعرف جميع أرقام و رموز صناديق البريد في الولايات المتحدة ، و أسماء جميع الطرق الرئيسية المؤدية إلى كل ولاية أو مدينة ، و يستطيع أن يحدّد أي يوم من الأسبوع من أي تاريخ رقمي يعرض عليه ، ( أي إذا سألوه ما هو اسم اليوم الذي يصادف في تاريخ 2\5\1205م ، فيكون الجواب الأربعاء ! ) .
ـ يمكن أن تتجلّى عملية الذاكرة كظاهرة غير عادية على استرجاع المعلومات الغابرة ، لكن نراها أحياناً مجرّد عملية استحضار معلومات محدودة القدرات . هذا الوضع المحيّر يدعونا للتفكير أحياناً ، خاصة و أننا قد لمسنا هذا التناقض الكبير خلال التعامل مع ذاكرتنا . فنحن نستطيع مثلاً أن نتذكّر أحداث و تجارب عشناها أيام طفولتنا ، لكننا نجد أنفسنا أحياناً غير قادرين على تذكّر أين وضعنا علاقة المفاتيح منذ ساعة أو دقائق من الزمن ... و هذا يدفعنا إلى التساؤل :
" ما هي آلية عمل الذاكرة ؟ " و السؤال الأهم هو : " أين توجد الذاكرة ؟ "
هذه الظواهر المذكورة و غيرها الكثير ، سوف تبقى غامضة تماماً بالنسبة للمنهج العلمي السائد ، حتى يأتي الوقت و تظهر الأبحاث شيء جديد و يساعدنا على اكتشاف المزيد عن خفايا عقل الإنسان و طريقة عمله .
و في النهاية لا يسعنا سوى مشاركة ألرياضياتي و الفيزيائي "هينري بوانسير" في تساؤلاته التي وردت في إحدى مقالاته "الإبداع ألرياضياتي" 1948م ، حيث تساءل:
كيف تجري العمليات الحسابية ؟
أي نوع من الدماغ هو ذلك الذي يجمع و يشكّل و يؤلّف افتراضات و اقتراحات و أنظمة حسابية مختلفة الأشكال و الأوزان ؟
كيف يمكن مقارنة المجريات الفكرية في دماغ عالم الهندسة و الجبريات ، بتلك المجريات التي في دماغ الموسيقار و الشاعر و الرسّام ، و حتى لاعب الشطرنج ؟
ما هي العناصر الأساسية التي تكوّن الإبداع ألرياضياتي ؟ هل هي البديهة و الحدس ؟ أو حاسّة دقيقة للمكان و الزمان ؟ أو ذاكرة قويّة ؟ أو موهبة هائلة في متابعة تسلسلات منطقيّة متعاقبة ؟ أو أنها قدرة كبيرة على التركيز ؟
".... الحقيقة التي يجب أن تفاجئنا هي أن هناك أشخاص لا يفهمون الرياضيّات .!
إذا كانت الرياضيات تتعامل فقط مع قواعد منطقية و مقبولة من قبل جميع العقول ، كما أن براهينها ترتكز على مبادئ شائعة بين الجميع و لا أحد ينكرها سوى المجانين ، كيف إذاً نفسّر حقيقة أن معظم الناس لا يستجيبون لها أو يستوعبونها ؟ .
الحقيقة الغامضة الأخرى هي أن ليس كل إنسان يستطيع أن يبدع أو يخترع . يمكن لنا أن نتفهّم حقيقة عدم قدرة البعض على الاسترجاع إلى ذاكرته شرح معيّن بعد أن يفهمه ، لكن حقيقة أن ليس كل إنسان يستطيع استيعاب المنطق ألرياضياتي رغم الشرح
المتكرّر ، هي فعلاً ظاهرة غامضة و مفاجئة لكل من يفكّر بالأمر ! ..... أما من جهتي شخصيّاً ، فذاكرتي ليست سيّئة ، لكنها لا تجعلني لاعب شطرنج جيّد . و بنفس الوقت ، فذاكرتي لا تخيّبني عندما أخوض في مسألة رياضية صعبة ، بينما لاعب الشطرنج يضيع حين يخوض في المسألة ذاتها ! . فما تفسير ذلك ؟ .
..... إن المعادلة الرياضية ليست مجرّد ترتيب بسيط من القيم الرقمية و القياسات و الرموز . فقياساتها متموضعة بترتيب منطقي محدّد ، و هذا الترتيب المحدّد الذي تشكله العناصر الرقمية هو أهم من العناصر ذاتها .
لكنني مجرّد أن نظرت إلى هذا الاصطفاف الرقمي المحدّد (معادلة معيّنة) ،أستطيع أن أدرك معناها من اللمحة الأولى و أتفاعل معها دون أن أدخل في تفاصيل عناصرها ، و لا أعتقد أن للذاكرة دور في هذه العملية ، فليس هناك وقت كافي للاستعانة بها ، و لا بدّ من أن السبب يعود إلى " حدس" معيّن ، إنه شعور داخلي غامض يصعب وصفه ، إنه شعور بأنني أعرف . جميعنا نعلم أن هذا الشعور أو هذا الحدس الغامض لا يملكه كل إنسان .
ـ يمكن للبعض أن يكونوا مجرّدين من هذا "الحدس" أو هذا الشعور الغامض ، و لا يملكون "ذاكرة" قوية أو قدرة " تركيز"جيدة ، لذلك لا يستطيعون استيعاب الرياضيات المعقّدة ، و هم الاكثرية .
ـ بينما هناك آخرون يملكون هذا "الحدس" لكن بدرجة قليلة , و يتمتّعون بقدرة كبيرة على "التذكر" و "التركيز" ، فيحفظون التفاصيل الحسابية عن ظهر قلب ، يستطيعون أن يفهموا الرياضيات ، و أحياناً يطبقونها عملياّ ، لكنهم لا يستطيعون الإبداع أو الاختراع.
ـ و أخيراً هناك أشخاص ، يملكون ذلك "الحدس" بدرجة عالية ، أما قدرة "الذاكرة" و "التركيز" فهي دون المتوسط ، لكنهم يفهمون الرياضيات جيداً ، و يبدعون فيها ، و حتى يخترعون ! .
ـ هذا ينطبق مع كافة المسالك الفكرية و الفنية التي تتطلّب الإبداع ، كالموسيقى و الكتابة و الشعر و الرسم و غيرها ، فجميعها تشترط وجود ذلك الشعور الغريب الذي يسمونه "الحدس".
ما هو ذلك الحدس ؟ ... ما هو مصدره ؟ ... لماذا لا يتجلّى عند الجميع ؟.
لقد طرح العالم "بوانسير" هذه التساؤلات في أواخر القرن التاسع عشر ، لكن "المنهج العلمي السائد" لم يوفر الإجابات حتى هذه اللّحظة .
إذا قمنا بالتعمّق قليلاً في مفهوم العقل ،سوف نخرج مسلّمين بحقيقة واضحة فحواها أن الإنسان لا يستطيع النجاح بالخوض في معترك الحياة بالاستعانة فقط بالعقل الذي يعرّفه المنهج العلمي السائد .
اسألوا البحارة الذين يجوبون البحار و المحيطات ، و متسلقي الجبال ، و الرياضيين ، و المستكشفين ، و المخترعين ، و المقاتلين في ساحات المعارك ، و حتى العاشقين ، و غيرهم ....
جميعهم أجمعوا على أنه هناك لحظات معيّنة (غالباً في الأوقات الحرجة) ، يقوم فيها الفرد بأفعال أو تصرّفات أوتوماتيكية خارجة عن تفكيره الواعي ، أو يتلفّظ في أحاديثه بكلمات أو يخرج بأفكار ، بشكل بديهي لاشعوري . و جميع هذه التصرفات أو الأفكار خارجة عن متناول العقل العادي .و كأن الفرد ، في تلك اللحظات بالذات ، قد انفصل عن العقل العادي و دخل إلى رحاب عقل خفي آخر ، مجهول المصدر و الهوية . فيستلم هذا العقل الآخر زمام الأمور دون أي تدخّل إرادي من الشخص ، فيرشده إلى برّ الأمان ، أو يلهمه بالفكرة المناسبة أو الحل المناسب لمشكلة معيّنة ، المهم أن النتيجة تكون دائماً لصالحه