عرض مشاركة واحدة
قديم 19/09/2009   #9
شب و شيخ الشباب Nasserm
عضو
-- زعيـــــــم --
 
الصورة الرمزية لـ Nasserm
Nasserm is offline
 
نورنا ب:
Aug 2009
المطرح:
نقطة زرقاء باهتة
مشاركات:
998

افتراضي


7.


دخلت المتحف، بعد انتظار دام ساعة كاملة للآنسة نور التي لم تأت، توقعت أنها تحضّر مفاجأة ..تركت صديقتي في الخارج...بعد أن أوصيتها بالمزيد من الانتظار لئلا تصل نور ولا تجدنا...قلت إنني سأتفقدها في الداخل..
توجّهتُ مباشرة إلى المدخل، تحت باب قصر الحير الأموي، ومن ثم يساراً نحو الطريق الضيق إلى دورا أوروبوس ..الكنيس اليهودي الأقدم والذي يختبئ في إحدى زوايا متحف مدينة دمشق ...بكامل جدرانه ورسوماته وحتى الحصر التي كانت توضع للمصلين داخله، والمحراب الخشبي ....والمذبح....تم تفكيك كل ذلك ونقله إلى العاصمة حيث سيراه فقط سياح أجانب يدخلون ويصلون سراً دون أن يعلم أحد أنهم من يهود العالم .
ولكن في هذا الوقت من السنة لن يأتي أحد من خارج القارة السورية الموحشة، ولذلك فإن المكان سيكون خالياً تماماً...

* * *

ـ إلى أين تأخذني؟
ـ أين سآخذكِ وأنت تنامين على بعد مليمتر واحد مني..على فراش واحد.؟
ـ إبراهيم ....هل ستبقى معي إلى الأبد ؟
ـ نحن الآن لسنا في الأبد ..نحنا هنا ليندا....أمام صدرك العاري..والوهج الذي يشع من جسمكِ.... ....
ـ والنار التي تشعلني بها حين تلمسني..
ـ وصوتك المتكسر المهتز...كأوتار البزق ...
ـ و جسمك الذي يشبه ملائكة التوراة ....
ـ لا تشبهين الحور العين ..
ـ بل أشبههن ...
ـ لا ...لستِ من هذا العالم ...لا من بدايته ولا من نهايته ...
ـ من أين ..؟
ـ من عالمي

* * *

شهد القرن التاسع عشر نهضة عمرانية لبيوت اليهود في دمشق، من أشهرها قصر يوسف أفندي عنبر في حي مئذنة الشحم، وكان هو الثاني من حيث المساحة والأناقة بعد قصر العظم، وظل يعرف حتى الآن بمكتب عنبر، وكانت الدولة العثمانية وضعت يدها عليه، نظراً لعجز صاحبه عن سداد ديونه، وحوّلته إلى مدرسة ثانوية.. وقام يهود آخرون ببناء بيوت فخمة،كبيت الخواجة إسلامبولي، وبيت شمعايا، وبيت لزبونا.
أنا الآن في ذلك القرن التاسع عشر ما غيره ...ولكنْ لستُ في مكتب عنبر..بل بباب الأربعين في جبل الأربعين على ضلع قاسيون ...
قررت أنه لم يكن لدي موبايل..ولذلك فلن يزعجني أحد..لا إخاد ولا غيره ..وغيّرت القرن بأجمعه..لم يكن إخاد قد خُلق بعد لا هو و لا أبوه ولا جده ...
العثمانيون قدّسوا هذا المكان ...حيث ينفتح في داخله كهف قابيل الذي حمّله الخطيئة هو ونسله، تستقر صخرة نيزكية ...يقول لكَ خادم المقام..جرّبْ أن تحمل الصخرة...ماذا يعني أن أحمل الصخرة؟..صخرة بحجم بطيخة متوسطة الحجم ...رأس ملفوف حجري..احملها ...جرّبْ...حسناً ..ها أنا أحملها ...إنها ثقيلة جداً ...نعم ..يقول خادم المقام ..هذا لأنها تحمل خطايا البشر مذ أن هشّم بها قابيل رأس أخيه هابيل ..أنظر كيف يشهق الجبل ..هذا فمه ...ونقاط الماء التي تنهمر إنما هي دموع الجبل...وهذه آثار كفّ جبرائيل حين منع الجبل من الانقضاض على الأخ الخائن ...القاتل ..جدّنا قابيل ...
محرابٌ لإبراهيم خليل الرحمن.. ومحراب للخضر ....المتجوّل في الزمان والمكان ...فوق محاريب أربعينَ وليّ من أولياء الله الصالحين..دخلوا الكهف ولم يخرجوا منه ...هؤلاء أبدال الشام الذين قال عنهم النبي..
(إن في جبل الشام أربعين ولياً من أولياء الله الصالحين ...يحمي الله بهم الشام وتشفّع فيهم الخلائق...كلما مات واحدٌ منهم أبدلهم الله واحداً..يبقون إلى آخر الزمان ...أولئك الأبدال).

* * *

في الرابعة صباحاً من ليلة شتائية من العام 2005 ، أستيقظُ على صوت الدق على باب البيت.
إنهم شبابٌ ممن يرافقون محمد شوق نيازي ...
ـ ما الأمر ؟!
ـ الدكتور يريدك ...
ـ الآن ؟!
ـ نعم يقول إن الأمر طارئ جداً...وهناك خطورة إذا لم تحضر..
ـ هل أصابه مكروه؟
ـ لا نعرف ...إنه ينتظرك
ـ أين ؟
ـ ستعرف أستاذ..لو سمحت ارتدِ ثيابك بسرعة...نحن ننتظر ..

* * *

لم أكن أنوي انتظارهما هناك، على باب المتحف..أريد أن أستفرد به...
هنا ...لا أحد سيأتي ..ولا أحد سيقطع علينا الصورة ..
الآن ..ها قد أتى ...
سأضمه إلى صدري..وسأغرز أظافري في ظهره المشدود كلوح ثلج ..أو كصدر الغيتار ...لن يرفض ..حتى لو كان يحبّها..ولكنه الآن معي، ولن أتركه يفارقني.. هنا في دورا أوروبوس لن يفلت من رغبتي .

* * *

يفتح إخاد باباً سرياً من حديد يتمدد على أرضية الحجر في القاعة ..أول ما أسمعه هو صوت الماء.. ماءٌ يتدفق بسرعة تحت الباب السري..
أنظر في عميق الفتحة..بردى..أو ما تبقى منه تحت البيت..على عمق كبير ...
ـ من هنا أُلقيتْ قطعُ توما الكبوشي ...
ـ أنت تمزح ..!!
ـ لا ...
ـ وأنت الآن في المكان الذي صنع فيه الفطير ..فطير صهيون ...
إن المشهد كله الآن يثير اشمئزازي ..أتراجع ...
ـ ما بك ؟
ـ لماذا أنت مهتم إلى هذا الحد ؟! هل توافق على فعل كهذا ؟
ـ لا ..إطلاقاً...ولكن أردتُ أن أريك أسرار المكان ...وأردتك أن تعرف كم صنفاً نحن ...العالم اليهودي المتنوع المتعدد..كما عندكم خيبر عندهم دير ياسين و صبرا وشاتيلا وتوما الكبوشي ...أطيافٌ تتصارع.

* * *

دكتوراه في مكان ما من العالم...كي يكمل محمد شوق هندامه التبشيري...ولكن ما الذي حدث حتى يطلبني في وقت كهذا ؟!...
ما به ؟!
هل شرب شيئاً في إحدى جلساته المتسامحة ؟!
هل دخّن سيجارة بالخطأ ؟!..أو ربما هي الأركيلة التي يحبها ...ربما وضع له أحدهم شيئاً ما فيها ؟!
السيارة تعبر بي في شوارع المدينة الموحشة...حتى الأضواء تتجمد ويتجمد بخارها من برودة الطقس ...نتجه إلى مكان لا أعرفه ..وحين أسأل يقولون : لا تهتم نكاد نصل ...ولكننا لا نصل ..نحن نخرج من المدينة...يا شباب ..إلى أين نذهب؟ ..
ـ الشيخ ينتظرك على طريق حلب ...
ـ ولماذا على طريق حلب ؟
ـ هو قال ذلك ...
ـ هل هناك بيت أو أي مطعم أو ...؟
ـ سنصل أستاذ..لا ينشغل بالك ..
ونخرج ...ونصعد جبال القلمون، نقترب من أحد الجسور، لتتوقف السيارة الأميركية الصنع التي نقلوني بها ...
بعد ثوان تصل سيارة أخرى، لا تقل فخامة عن سابقتها...يقولون لي تفضل ...الشيخ ينتظرك في السيارة الثانية ..
أنزل وأتوجه إلى السيارة الثانية بخطوات بدأت تكون بطيئة وتشويقية..مادام الموقف كله هكذا .... لم لا أتصرف بطريقة بوليسية أنا أيضاً ؟!

* * *

الحصير العبراني ينطبع على ردف نور، آثاره وخطوطه... خطوط حمراء متعرجة على ساحة بيضاء وردية ...كأنه صنع على هذا المكان مثل سيجار كوبي يلفّ على فخذ فتاة كاكاو هناك...
لم يزعجنا أحد، فقط أغلقتُ الباب الخشبي واستدرت إليها، كانت تنزع الشال الملفوف على رقبتها بسرعة وتفكك أزرار قميصها الخفيف...هل انتظرت طويلاً قبل أن تختلي بي ؟..نحن لا نعرف بعضنا البعض، مجرد لقاءين سريعين قبل الآن.
هذه الفتاة لا تملك خصراً..يمكنني أن أصل إلى خاصرتها الأخرى باستدارة خفيفة من ذراعي، ثم يأتي التكوّر الخيالي بعد ذلك، ثم ينهض الفخذان والساق التي نحتت ببراعة، لن أتمكن من تعريتها تماماً هنا، ولكن الرسومات البدائية على الجدران ..قصة العبور وموسى وإبراهيم الذي يميل نحو المحراب الواطئ ...ورائحة البخور القديم ..كلّ ذلك سيأخذني منها ومن المكان...إلى صورة الرجل الذي قدّم لي تعويذة الألفية الجديدة كما قال ...على ضفة محطة سكة حديد الحجاز..في اليوم الأول من الألفية .

* * *

تحت هذه المدينة توجد مدن أخرى..قال إخاد ذلك وهو يشعل سيجارته الغريبة ..
ـ ماذا تدخّن ؟
ـ سيجرانو ..دخان أرمني ..الفيلتر أطول من السيجارة وهكذا لا أدخن كثيراً ..كنت أقول هناك مدن أخرى تحت ..
يشير إخاد إلى ما تحت الحجر الأسود الذي رصفتْ به أرضية بيته الكبير، وكان يتحدث بثقة وتوتر.
ـ أعرف أن طبقات من الحضارات موجودة تحت ...أعرف ذلك ...ولكن كيف سنصل إليها؟
ـ سنصل ...لا تقلق ..
ـ عندما حفروا نفقاً للسيارات أمام باب شرقي، قبل وصول البابا الكاثوليكي جون بول الثاني، ظهر في طريقهم برج ..
ـ نعم ولكنه برج أيوبي ..ليس قديما كفاية ...هناك ما هو أقدم ..في الأعماق ....هل تساعدني؟
ـ أساعدك كيف ؟ تريد أن تحفر ؟
ـ نعم ..أريد أن أحفر ...تحت بيت أبي ..هنا..
وأشار بإصبعه إلى الأسفل وكأنه يحدد موقعاً يعرفه جيداً .

* * *



ربما كان عدم الاتفاق أقصر مسافة بين فكرين. (جبران النبي)
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.07259 seconds with 11 queries