الموضوع: أسبوع وكاتب - 3
عرض مشاركة واحدة
قديم 21/08/2009   #122
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي


مرحلة المنفى والحصار والخروج من بيروت

مع بداية السبعينيات اشتد الخناق على محمود درويش، فالسلطة لم تكف عن مضايقته وملاحقته وتوقيفه واحتجازه في البيت وعن سجنه ايضا، حتى ضاقت به السبل فقرر ان يهجر هذا الوضع. ترك محمود الوطن الى منفاه الاختياري، وهناك بدأت مأساته الحقيقية، مأساة اللامكان، مأساة الرحيل، والموانئ، ومحطات القطار، والمطارات. (وطني حقيبة) كما يقول، حتى استقر في بيروت. في بيروت راح الجرح يتعمق والمعاناة راحت تتضاعف وتتثلث، والتجربة انفتحت واغتنت وتوسعت فكرا وثقافة، هناك رأى المأساة الفلسطينية عارية على حقيقتها. رأى الفقر في المخيمات، رأى حياة القهر والذل، كما شاهد المذابح والحرائق في تل الزعتر في صبرا وفي شاتيلا، ولكنه شاهد ايضا صمود الفلسطيني ونضاله وكفاحه وصبره وإصراره وايمانه بانتصار قضيته التي حمل السلاح لأجلها ولأجل عودة شعبها وتحريرها. ومثلما رأى الصمود والمذابح رأى الانكسار وعايش حالة الحصار الوحشية في بيروت، ثم شاهد خروج الفلسطينيين الفاجع منها، من منفى الى منفى والتجربة تتسع وتتعمق والهم يكبر. من هنا صارت القصيدة العادية التي الِفها محمود وبرع في نظمها في المرحلة الاولى ضيقة، وعاؤها الاستعاري ضاق عن تفاصيلها، وبنيتها صارت اكثر تعقيدا وصورها اكثر تركيبا، لذلك نراه في هذه المرحلة يميل الى المطولات ذات النفس الملحمي وتكفي الاشارة الى ثلاث مطولات من روائعه في هذه المرحلة هي: احمد الزعتر/ وقصيدة بيروت/ ومديح الظل العالي.

في هذه المرحلة تميل قصائد محمود درويش الى المسرحة والى الدرامية القصصية فالمبنى صار قصصيا، كما مالت القصائد الى كثير من التجريد والى توالد الصور بحيث صارت قراءة القصيدة هي متابعة للصور التي فيها وتفكر بعلاقات الصورة ورمزيتها (كما يقول "الياس خوري" في كتابه "دراسات في نقد الشعر" الصادر عن مؤسسة الابحاث العربية، بيروت طـ 3، 1986).

فكثرت الاستعارات الطريفة والتشبيهات المولدة والايقاع المتقافز النابع من التكرار ومن الترادف والاختلاف والتضاد. في هذه القصائد يجنح نحو التجريب غير هياب، أي الى اللحظة المتوترة دراميا داخل بنية شعرية مركبة. القصيدة في هذه المرحلة هي كثافة الشعر في تجربة كلية متماسكة والصورة تصبح هنا جزءا من كل توتري أي انها تتحول من لحظة توقف تأملية مفاجئة الى سياق بحيث تصير شبكة من السياقات تضمها وحدة بنائية تتداعى داخل حركة لولبية. القصيدة هنا هي محاولة اختصار الحركة بالصورة المتوالدة والبناء الشعري يكتفي بالتلميح والاشارات مرتكزا على عاملَي التداعي الصوري والجملة الشحنة الممتدة لتشمل بناء عالم من اللحظات المتتابعة والتي تشكل بينها وحدة داخلية.

تتميز القصيدة في هذه المرحلة بأصواتها المتعددة الجوانب والمختلفة، بحيث تختلط هذه الاصوات داخل البناء لتلح على توترها وعلى مبناها الدرامي الشعري في محاولة للوصول الى القصيدة الشبكية المعقدة التي تتجاوز الانفعال المباشر والصراخ الواضح في محاولة ايضا للابتعاد عن الموضوع كمقدمة والنظر اليه ككل متكامل.

وهذا المبنى يركز في قصائد محمود درويش على شخصية واحدة هي البطل ويقيم حوارين المباشر وغير المباشر، كما ويجلد السلطة المسيطرة ويدينها دائما وهذه السلطة هي التي تشكل الاطار الثابت في القصيدة. كما وتتميز القصائد بحالة من النبوءة، حالة يمتزج فيها الحلم بالوعي، فتصبح القصيدة سيالة دافقة لا شيء يعثرها في مسراها الحريري. كما ان اللغة ايضا في هذا البناء الجديد تتغير وتتوالد وتتآلف وتتخالف وتبارح مرجعياتها السابقة فكلمة الارض مثلا كمفردة وكإيحاء لا تعود معطى كما المرحلة السابقة ولا اطارا للحنين وللتواصل انما هنا هي تتفجر في علاقة جدلية مع عنصر ايديولوجي بحيث تصير هنا يدا ورصاصة وتفارق ثبوتها. وعنصر الزمن ايضا لا يعود مجرد اطار ساكن انما يصير قاعدة للمسار العام وجزءا اساسيا من البنية الداخلية للقصيدة.
فلنستمع الآن الى بعض المقاطع من شعر هذه المرحلة، وأبدأ بملحمة "احمد الزعتر" يقول محمود:


ليدين من حجر وزعتر
هذا النشيد.. لأحمد المنسي بين فراشتين
مضت الغيوم وشردتني
ورمت معاطفها الجبال وخبأتني
نازلا من نحلة الجرح القديم الى تفاصيل
البلاد وكانت السنة انفصال البحر عن مدن
الرماد وكنت وحدي
ثم وحدي
آه يا وحدي! وأحمد
كان اغتراب البحر بين رصاصتين
مخيما ينمو وينجب زعترا ومقاتلين
وساعدا يشتد في النسيان
ذاكرة تجيء من القطارات التي تمضي
وأرصفة بلا مستقبلين وياسمين..
....
في كل شيء كان احمد يلتقي بنقيضه
عشرين عاما كان يسأل
عشرين عاما كان يرحل
عشرين عاما لم تلده امه الا دقائق في اناء الموز
وانسحبت
يريد هوية فيصاب بالبركان
سافرت الغيوم وشردتني
ورمت معاطفها الجبال وخبأتني

هذا المقطع الذي قبسناه يشي بما تقدم يشي بالتجريد "نازلا من نحلة الجرح" "لم تلده امه الا دقائق في اناء الموز" ويشي ايضا بالبناء الدرامي المتلاحم وبالصور المتوالدة المركبة وبالترميز وما ينتج عنه. كما ان المقطع والذي بعده يزخران بالتوتر – يريد هوية فيصاب بالبركان.

شُذَّ، شُذَّ بكل قواك عن القاعدة
لا تضع نجمتين على لفظة واحدة
وضع الهامشيّ إلى جانب الجوهريّ
لتكتمل النشوة الصاعدة
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.05381 seconds with 11 queries