عرض مشاركة واحدة
قديم 11/10/2009   #3
شب و شيخ الشباب Nasserm
عضو
-- زعيـــــــم --
 
الصورة الرمزية لـ Nasserm
Nasserm is offline
 
نورنا ب:
Aug 2009
المطرح:
نقطة زرقاء باهتة
مشاركات:
998

افتراضي


إن كان الكون يضح بالحياة فستنتهي الحيوات الكونية المنفصلة عن بعضها إلى كائن مطلق موحد في المستقبل البعيد.
إن اللغز في تجسيد الحياة بأفراد
معزولين منفصلين يتمثل كل منهم الكون على انفراد، أو بشكل مكافئ يخلق كلمنهم كونه الخاص، هو عجز المادة عن التكتل في بنى غير منتهية تتحول إلى متصلات تليق بالعودة إلى المعنى.
نجد علة ذلك فيما تمليه نواميس الفيزياء
خاصة مبدأ باولي الذي ينص مثلاً على استحالة تجمع الكترونين متماثلين عندنفس النقطة من عالم المكان والزمان.
من هنا كان لا بد للحياة من أن ترسم
سمة خارقة تعرفها وتترجم إلى مقدرة غير محدودة للحياة على إيجاد مأوى لها في كل الظروف ومهما كانت الاشتراطات.
تتلاءم الحياة إذن مع كل ما يحيط بها
متناغمة مع كل المتغيرات.

تذهب النظريات الفيزيائية الأكثر تقدماً إلى أن
مآل كل الجسيمات المادية بما فيها الجسيمات البالغة الاستقرار كالبروتونات والالكترونات هو التحلل والاندثار، باختصار سيتحول الكون إلى طاقة في مستقبل موغل في البعد.
إن كانت الحياة قادرة على التكيف فعليها عندئذ أن
تتحول بما يسمح لها أن تنبث في تلك الطاقة. ولما كان بمقدور الطاقة بعكس المادة، أن تتكتل وتتجمع دون حدود أو قيود سيتحقق إذ ذاك كائن طاقي واسع واحد يملأ الكون من أقصاه إلى أقصاه ويجمع كل خبرات الحيوات والحضارات التي شهدها الكون عبر تاريخه.
إن غاية الكائن
المطلق التالي لن تفصح عن نفسها على خلفية الهشاشة والمستنقعية الاجتماعية اللتين تستقطبان الجموع البشرية.
وحدهم الأنبياء يستطيعون رفد ذلك الكائن
المستقبلي في لحظة الآن الجبرانية بما يتدفق من أفئدتهم الطيبة وما يترتب على عذاباتهم العظيمة.

ذلكم هو سطر من الرسالة الجبرانية قد خط وفض، وما زلنا في مطلع الرسالة الجبرانية في مستهلها، هي رسالة جبرانية، لكن لا علاقة لها البتة بجبران الشخص، إنها تنتسب إلى التوق الجبراني لتحقيق خلود المعنى، لفك إسار المعنى من قيود الزمان والمكان، لاختزال المعنى إلى كل المعاني ولإسقاط مجموع المعاني على كل معنى.

وها هنا يتفجر التساؤل مرة أخرى:
إن اختفى وجهي
وافتقدت أناي فهل يتحطم حلمي؟

إن كنا في مطلع الرسالة فيجب ألا نخط سطراً
منها ونمحو.
إن الرسالة الجبرانية هي الإرادة الطيبة للذاكرة الكونية،
إنها واجب حل الهم الوجودي بمسح كل وجود ممكن وكل وجود غير ممكن.
فهناك في
آن مغاير يسعى الغرباء إلى التوحد مع الرسالة الجبرانية، والآن هنا ينبري المشاركون غير المكاشفين لدفع إسهاماتهم غير المألوفة إلى تلك الرسالة.

إنها أمنية النبي أي يحترق وأن يمضي من ذاكرة الزمان إلى فراغ الأزمان حيث تتلاقى المعاني بعد أن تتجرد من أفكارها.
تبقى الفكرة بفعل العطالة
والعطالة هي نذير الموت. إن المعنى هو وعاء الفكرة ومفسرها.
إن المعنى
بهذا المعنى متحرر من كل قيد.

تحقق الفكرة ذاتها بجنوحها إلى الديمومة
ويتأجج الوجود المعنوي بالمقدرة الفائقة للمعنى على ألا يوجد بينما يكون موجوداً.

وبعد أن اختفى وجهي وافتقدت أناي فهل يتحطم حلمي؟
قليلاً ترونني
ولا ترونني، وقليلاً لا يرونني ويرونني حيث التماسات المتسامية لتأليف المعاني وتوحيدها وإطلاقها باعتبارها المطلق: الناي فكرة والعزف فكرة، أنين الناي هوالمعنى:
أعطني الناي وغن ... فالغنا عزم النفوس
وأنين الناي يبقى ... بعد أنتفنىالشموس
نجد في الموسيقى معنى منفصلاً أتت على ذكره الرسالة الجبرانية:
أعطني الناي وغن ... فالغنا سر الخلود
وأنين الناي يبقى ... بعد أن يفنى الوجود
في عقيدتي أن من يبعد الموسيقى عن قلبه تقصيه الحياة عن قلبها، في ملتي أن أقرب الناس إلى قلب الحياة هم الموسيقيون الذين ولدوا وفي أرواحهم نغمة من الملاء الأعلى وفي حناجرهم وعلى أصابعهم بهاء من غبار النجوم.
وفي اعتقادي
أن أولى الناس بالشفقة هم الذين يعيشون أمام الشمس وآذانهم وصدورهم موصودة دون الألحان والأنغام.
والموسيقى لغة روحية عامة رغم ما في مظاهرها من
السطحية من مخالفة متباينة إلا أن الأذن المهذبة موسيقياً تستوعب وتفهم ما يقوله الصيني بمزماره الفرد مثلما تفقه ما يقوله الألماني بمجموع آلاته.

إننا نخطئ إذ نشتق المعنى من البنية الإعرابية للرموز الأبجدية التي نتناقل الأفكار بموجبها.
تكتب الموسيقى بدورها على خلفية أبجدية خاصة، لكنها، أي
الموسيقى تتجاوز تجاوزاً جبرانياً أية إمكانية لاستجرار المعنى من الجمل المخطوطة، إنها تحث كل منا على خلق معنى خاص به يستحيل استشفافه من قبل الآخر.
بهذا المعنى وهذا المعنى فقط تعتبر الموسيقى خاصة والفنون عامة
أوسع من كل الأطروحات الأخرى التي تأخذ باللب البشري الجمعي. الفن يطير بنفسه إلى جوهر الحياة المجرد، إن الفن بالنسبة لي أبعد من الأشياء التي نراها ونسمعها.
إذا كان العلم سلماً ترفع الإنسان إلى ما وراء الكواكب،
فأنت أيها الفن العزم يبني ويبقي درجات تلك السلم.
أعطني الناي وغن ... فالغنا خير العلوم
وأنين الناي يبقى ... بعد أن تطفا النجوم
إن الباحث عن المعنى ليسأل عن الموقع، أوليست الفكرة بنت موقعها، فهنا مجرة وشمس تطوف حول مركزها، وعلى صخرة صغيرة في حيز من الفضاء الشمس يتتوالد وتتكاثر الأفكار متلاطمة متضادة، تزعم كل فكرة أنها البداية بقدر ما هي النهاية غير آبهة بالمعنى الذي لا وجود لها دونه، إن الفكرة لتذهب إلى حد إسقاط المعنى.
من هنا كانت محدودية الجغرافية في هذا السياق هي زمان ومكان
صاحب الفكرة.

يذهب الفيزيائيون المتقدمون مذهباً مخالفاً، الزمان والمكان
وفق هؤلاء هما نمطان من أنماط الإلهام الذي لا ينفصل عن الإدراك. الزمان والمكان هما زمان ومكان الآخر، فلا زمان ولا مكان للراصد.
وفق المصطلحات
الجبرانية لا زمان ولا مكان لي.

لقد تنبأ جبران بالمفاهيم الفيزيائية
المعاصرة قبل طرحها بعقود طويلة.
ليس الفضاء فضاء بين الأرض والشمس لمن
ينظر إليه من نوافذ المجرة، لو لم تكن المجرة في أعماقي فكيف كان يمكن أن أراها أو أعرفها.
إن ما يترنم ويتأمل فيك لا زال قاطناً ضمن حدود تلك
اللحظة الأولى التي نثرت الكواكب في الفضاء.
الغبار الكوني، إنه موطن
النفس التي سعادتها في الغبار الذهبي الذي تنثره النجوم على سطح الأرض.
إن
كان الزمان والمكان زمان ومكان الآخر فلن يجد الساعي إلى المعنى ضالته الزمانية المكانية لدى الآخر.

أنا غريب في هذا العالم، أنا غريب وقد جبت
مشارق الأرض ومغاربها فلم أجد مسقط رأسي ولا لقيت من يعرفني ولا من يسمعبي، أنا غريب في هذا العالم، أنا غريب وليس في الوجود من يعرف كلمة من لغة نفسي، سأبقى غريباً حتى تخطفني المنايا وتحملني إلى وطني، فلولا رغبة نقية اختلجت في قلب أم طاهرة لكنتُ جردتُ نفسي من أقمطتي وهربت راجعاً إلى الفضاء، إلى حيث المعنى، إلى حيث لا أدري وأدري، إلى حيث الجود بالمعنى في البدء والختام، إلى أعمق أعماقي حيث الظلمة الكونية الدامسة والصمت النجومي السرمدي وسأعود.

ومع جبران دائماً، ننشد ترانيم المعنى الأزلية نغني قصيدة الليل الكوني السرمدي الباطن المحجوب في الظاهر:

يا ليل العشاق والشعراء والمنشدين
يا ليل الأشباح والأرواح والأخيلة
يا ليل الشوق والصبابة والتذكار
أيها الجبار الواقف بين أقزام غيوم المغرب وعرائس الفجر
المتقلد سيف الرهبة
المتوج بالقمر
المتشح بثوب السكوت
الناظر بألف عين إلى أعماق الحياة
المصغي بألف إذن إلى أنة الموت والعدم
أنت ظلام يرينا أنوار السماء.
والنهار نور يغمرنا بظلمة الأرض
أنت أمل يفتح بصائرنا أمام هيبة
اللانهاية. والنهار غرور يوقفنا كالعميان في عالم المقايسس والكمية.

بين طيات أثوابك الزرقاء يسكب المحبون أنفاسهم
وعلى قدميك المغلقتين بقطر
الندى يهرق المستوحشون قطرات دموعهم
وفي راحتيك المعطرتين بطيب الأودية
يضيع الغرباء تنهدات شوقهم وحنينهم
فأنت نديم المحبين وأنيس المستوحدين
ورفيق الغرباء والمستوحشين.
في ظلالك تدب عواطف الشعراء
وعلى منكبيك تستفيق قلوب الأنبياء
وبين ثنايا
ضفائرك ترتعش قرائح المفكرين
فأنت ملقن الشعراء والموحي إلى الأنبياء
والموعز إلى المفكرين والمتأملين.

لقد صحبتك أيها الليل حتى صرت شبيهاً بك
وألفتك حتى تمازجت ميولي بميولك
وأحببتك حتى تحول وجداني إلى صور مصغرة لوجودك
ففي نفسي المظلمة كواكب
ملتمعة ينثرها الوجد عند المساء وتلتقطها الهواجس في الصباح
وفي قلبي
الرقيق قمر يسعى تارة في فضاء متلبد بالغيوم وطوراً في خلاء مفعم بمواكب الأحلام
وفي روحي الساهرة سكينة تبيح بمفاعيلها سرائر المحبين وترجع
خلاياها صدى صلوات المتعبدين، وحول رأسي غلاف من السحر تمزقه حشرجة المنازعين ثم تخيطه أغاني المتشببين.

أنا مثلك أيها الليل، وهل يحاسبني الناس مفاخراً إذا ما تشبهت بك وهم إذا تفاخروا يتشبهون بالنار.
أنا مثلك وكلانا متهم بما ليس فيه.
أنا مثلك بميولي وأحلامي وخلقي وأخلاقي.
أنا مثلك وإن لم يتوجني المساء بغيومهالذهبية.
أنا مثلك وإن لم يرصع الصباح أذياليبأشعته الوردية.
أنا مثلك وإن لم أكن ممنطقاً بالمجرة.
أنا مثلك، أنا ليل مسترسل منبسط هادئ مضطرب وليس لظلمتي بدء ولا لأعماقي نهاية.



ربما كان عدم الاتفاق أقصر مسافة بين فكرين. (جبران النبي)
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.08462 seconds with 11 queries