عرض مشاركة واحدة
قديم 29/11/2009   #4
شب و شيخ الشباب ayhamm26
عضو
-- زعيـــــــم --
 
الصورة الرمزية لـ ayhamm26
ayhamm26 is offline
 
نورنا ب:
Oct 2007
مشاركات:
1,200

افتراضي


والحق يقال، إنني لم أصدق أياً من القصص المخيفة للجرائم والسرقات في غزال حتى زرت مدرسة البنين فيها، هنا انبرى الأساتذة وعلى رأسهم موجه المدرسة للحديث عن الأمن المفقود، لا يستطيع أي أستاذ أن يؤنب أي تلميذ مهما فعل، بل إن أحد التلاميذ صعد إلى سطح المدرسة وراح يتبول على زملائه، ولم يستطع أحد أن يفعل معه شيئاً وتكررت هذه الحالة مرات عدة، والسبب كما يقول الموجه يعود إلى سلسلة من التجارب المريرة، إذ سبق أن تعرضت مدرسة للضرب في قلب صفها لأنها أنبت تلميذاً، ولم يستطع أحد أن يفعل لها شيئاً، وأكثر من ذلك، أحرق بعض السكان شرطياً عندما كان يُبَلِّغُ أحدهم للالتحاق بخدمة العلم، وبطريقة أقل ما يقال فيه إنها وحشية، إذ رموه أرضاً وصاروا يتحزرون بماذا يحرقونه، بالمازوت أم البنزين، وطبعاً مازال الشرطي يتعالج حتى اليوم، ولم يفعل أحد شيئاً للجناة.
فجأة، اشتعلت الحماسة بالموجه، وصاح بزملائه المدرسين: البارحة... البارحة ألم تروا ما حدث؟ صَمَتَ الجميع، وأشار إلى خارج سور المدرسة قائلاً: هناك، وقعت حادثة يشيب لها شعر الرأس، لا يمكنني أن أرويها (بسبب وجود مدرسات) فبادرت إلى سؤاله: اغتصاب؟ أجابني: نعم.
عندما استفسرت من الأساتذة عن سبب عدم لجوئهم إلى الشرطة، أجابوني بأن قائد المنطقة يأتي كالغضنفر، لكنه سرعان ما يهدأ ويغدو في غاية الوداعة، كأن اقترابه من موقع الحادثة يُسَكِّنُ من غضبه ويشيع السلام في روحه، وهكذا تمضي الجرائم مرسخة وراءها قانوناً خاصاً للخوف.
المفارقة كانت مع مدير المدرسة، إذ أعلن منذ البدء أنه لا يستطيع إعطاء أية معلومة عن الطلاب دون موافقة مدير تربية الريف الخطية، مع أن المعلومات التي طلبناها تتلخص بسؤال التلاميذ إن كانوا يعملون خارج المدرسة، ومقدار دخلهم، وبدوره مدير التربية طلب موافقة الوزارة، ولما استفسرت عن سبب عدم طرح هذه المشاكل، أجاب الأساتذة: الجميع يعرف بها، لكن لا أحد لديه حل.
وجه المفارقة أن المدير يخاف من المديرية والوزارة ويستصعب الخروج عن توجيهاتهما في أمر بسيط جداً، وفي الوقت ذاته يستسهل أن يستبيحه طلابه هو وطاقم تدريسه، وتساءلت في سري: ماذا لو تبول ذلك الطالب عليه ذات يوم؟ هل سينتفض ليثبت أنه مدير كما ينبغي له أن يفعل؟ أم سيطلب تغيير اسم الوزارة ليغدو وزارة التعليم بدل التربية؟
في مدرسة غزال للبنات، المؤلفة من ثلاثة بيوت مُسْتَأْجَرَة، يحبسون الصف الأول في باحة صغيرة لا تتجاوز العشرين متراً مربعاً، وبقية الصفوف تقضي فرصتها فوق مزبلة قريبة من المدرسة. هناك صادفت الآنسة نور، خريجة الجامعة الأمريكية، وطلبت منها أن تسأل طالباتها في الصف الرابع الأسئلة ذاتها، فأكدت لي أنهن صغيرات ومن المستحيل أن يعملن، وبعد إلحاح وافقت على التجربة، وعادت إلي مصدومة لاكتشافها أن نصف الفتيات تقريباً يعملن، بعضهن في الكوي وأخريات في ورشات خياطة ومعامل جرابات وزجاج، الآنسة الأخرى في الصف، الثالث عادت بثلاثة أسماء فقط، وحذرت زميلتها أن ما تقوم به هو خرق للتعليمات قد يستوجب المسؤولية.
كان تفسير اختلاف النسبة بين الصفين سهلاً للغاية، فنور سألت طالباتها إن كن يعملن أو يعرفن أخرى تعمل، وبدأ سيل الوشايات بين التلميذات، أما المدرِّسة الأخرى فطرحت الأسئلة من باب رفع العتب.
على أية حال، روت لي نور عن طفلة في الصف السادس أقدمت على قتل والدها طعناً بالسكين، وأعادت على مسامعي أسطوانة تهديد المدرسات وتعرض إحداهن للضرب في صفها... مضيفة أنها لولا الطمع بالتثبيت لما جاءت إلى مثل هذه المنطقة.
الأمن المفقود في غزال يتجاوز بكثير ما ذكرناه سابقاً، ففي أول أيام العيد نشبت معركة بين النَّوَر، استخدمت فيها أسلحة رشّاشة ومسدسات حربية، وأكد أكثر من شاهد عيان أن من بينها رشاش بي كي سي، وأكثر من ذلك تعرضت أكثر من سبع بيوت للسرقة خلال العيد، وتحداني أستاذ مدرسة أن أمشي في غزال مساءً 500م إذا كان يوجد في جيبي خمسة آلاف ليرة، مضيفاً أنني في هذه الحالة سأجد موس كبّاس على رقبتي. وأمام أحاديثهم عن تعرض المدرسة للسرقة مرات وعن امكانية تعرضهم لجميع أنواع الإعتداءات في دولتهم المستقلة، الواقعة تحت الإنتداب السوري، شعرت أن من الطبيعي أن أتجاهل مسألة التعليم، ولو كنت مكانهم لما بقيت يوماً واحداً في تلك المدرسة.
رئيس المخفر شطر حديثه إلى قسمين، الأول شبه رسمي، فهو يقوم بواجبه على أكمل وجه، ولديه خلال العام أكثر من ثلاثة آلاف ضبط، لكن ماذا يفعل إذا كان هناك من لا يبلغ ولا يشتكي عندما يتعرض لاعتداء؟ ماذا يفعل لأولئك الذين يخشون الانتقام؟ وماذا يفعل أيضاً إذا كان يقبض على الجناة اليوم ويطلق القضاء سراحهم غداً ليصادفهم يتجولون في الشوارع كأن شيئاً لم يكن؟

الشقّ الثاني من حديثه، كان شبه ودي، فمن كثرة المشاكل، لا يستطيع أن يتبع الأساليب المتطورة في التحقيق، ويضطر غالباً إلى استخدام العنف لانتزاع الاعترافات من المشبوهين، وحتى لو لم يعترف المشبوه بالجريمة أو الجناية موضوع التحقيق، فيمكن أن يعترف بأخرى ارتكبها، وهكذا يمكن من ضربة واحدة أن يكتشف عدة سرقات، سبق أن حقق فيها وكشف من خلالها سرقات أخرى.
فجأة، سألته: وماذا لو اعترف بريء لا يستطيع تحمُّل الضرب والإهانة؟
انحرف الحديث نحو علم الأدلة الجنائية الذي لا يعرف عنه شيئاً، وأوغلنا بعيداً في الحديث عن ثقافة القانون التي ما زال البحث عنها مستمراً، وتَفَاصَحْتُ مستخدماً عبارة سلة مشكلات غزال المترابطة، بدءً من الخدمات وانتهاءً بالأمن والجريمة، ووجدت نفسي أخرج شيئاً فشيئاً إلى عالم آخر، مع شخص أَلِفَ العيش في عالمين.
فاتني هنا أن أذكر إجابته حول النزاع المسلح في أول أيام العيد، أخبرني أنه أَوْقَفَ ستة أشخاص وصودرت الأسلحة (عبارة عن بنادق صيد وفوارغ مسدس خلّبي) وحُجِزَتْ السيارة وأُحيل المتهمون إلى القضاء، وبالطبع لم أستطع حل التناقض في نوعية الأسلحة المذكورة في الضبط وتلك التي رآها الشهود، وعندما سألت أحد الأساتذة الذي يسكن قريباً من موقع المعركة عن ذلك، سكت واكتفى بهز رأسه.
رئيس بلدية سبينة استغرب أن يزوره ثلاثة صحفيين في أسبوع واحد، كأن مشكلات 40 ألف كائن فقاري يكفيها مدير منطقة ورئيس مخفر وبلدية نشيطة ومدير مدرسة كحد السيف، وفوقهم جميعاً إله الفقر السنغالي.
واستغرب أكثر عندما سألته عن عدد المنشآت غير المرخّصة في غزال، لاسيما مكابس البلوك، قائلاً هل هذه المنشآت هي المشكلة؟
لا، ليست هي المشكلة بالتحديد، لكن ماذا يوجد في غزال ليس مشكلة؟ أحدهم قال لي لو كنت رئيس بلدية لاستقلت، ولما تحملت وزر كل هذه المشكلات.
الناس في غزال هم القذرون، بحسب رئيس البلدية، لأنهم ليسوا مستقرين، رَاقِبْ جرار القمامة، عندما يمر لا أحد يلحظه، وبعد مروره الجميع يخرجون قمامتهم. ولهذا ترى تجمّعات القمامة على مسافات قصيرة من بعضها البعض، إضافة إلى أن هناك سيارات من خارج المنطقة تفرِّغ حمولتها هنا.
ولم يفت رئيس البلدية أن يُذَكِّر بأن المشاريع قبله كانت نائمة وهو من أيقظها لكن المشكلة في الناس، فعندما يُزَفِّت حارة يتدخلون، وكل واحد يريد أن يُسيّر المشروع على كيفه. والطريف هنا أنه لايوجد زفت في غزال، ولاحتى مشاريع تزفيت، ويبدو أن الناس يختلفون على افتراضات، كل واحد منهم يقول لجاره: إذا فكر رئيس البلدية بتزفيت الطريق، فعليه أولاً أن يفعل كذا وكذا...!!!
عندما سألته عن مشكلة المياه، أجابني ببرود: لماذا يشترون الماء من الجرارات؟ صحيح يا أهل غزال، لماذا تفعلون ذلك؟ البلدية بنت لكم خزّاناً ومدّت شبكة مياه إلى منازلكم، وأنتم تتحامقون وتشترون الماء من الجرارات؟! هل ذهب الفقر بعقولكم؟!
على مدى عشرين يوماً من التجوال في تلك المنطقة، كنت أفكر بأن التحولات التي نعيشها قدر لا مفرّ منه، ولم يكن موضوعي هو الفقر، بل عمل الأطفال الذي سأفرد له تحقيقاً خاصاً، لكن ما ليس بِقَدَرٍ، وما ليس محتوماً، هو أن تكون أسرتان فقط من أصل خمسين أسرة خاضعتين للضمان الصحي، هو أن يكون الطريق إلى معمل إسفنج العطّار معبّداً لمسافة 4كم، بينما مئات المنازل على امتداد ثلاثة كيلو مترات غير معبّدة، ولا يستطيع أطفالها الذهاب إلى المدرسة في الأيام الماطرة، هو أن يحضر المخفر والبلدية وغيرهما إذا أنزل أحدهم سيارة بلوك أمام منزله، في حين يغيبون عندما يحتاج الناس إليهم، ما ليس بقدر هو أن يصل أطفال ذلك الحي إلى الصف السادس وهم لايعرفون جدول الضرب، وما ليس بقدر هو أن يسيطر الخوف والرعب على أهالي منطقة يتفاخر مسؤولو دولتها بالأمن والاستقرار فيها.
لكن ما يمكن أن يكون قدراً هو أن يتحول أبو صياح، أحد حفظة القرآن في غزال، إلى سكِّير وعربيد، وما يمكن أن يغدو قدراً قادماً هو أن يتحول الحشاشون والمجرمون إلى دعاة تقوى، فإله الفقر السنغالي على كل شيء قدير.
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.06254 seconds with 11 queries