عرض مشاركة واحدة
قديم 09/05/2009   #32
صبيّة و ست الصبايا Nay
عضو
-- زعيـــــــم --
 
الصورة الرمزية لـ Nay
Nay is offline
 
نورنا ب:
Sep 2007
المطرح:
هون مو بعيد كتير
مشاركات:
1,334

افتراضي


موقف..!!


مرت السنون.

مرّ شبابي. مرّت المدينة عبر جسدي.

سحابٌ يغطي بقعة واسعة من حياتي الماضية. وها أنا خرجتُ الآن طافحاً بالإهانات.

لحست إبهامي. فركته بثيابي، فربما تُمحى البصمات، ربما تغيب.

هل خرجتُ؟! هل حقّاً خرجتُ؟!!

وإذا كنتُ خرجتُ فأين أنا الآن ؟!

ترصدني الأضواء الشاردة، وتقطعني خطا السيارات السريعة.

شتمني الرصيف، وسخر مني اسفلت الطريق اللزج.

لمن هذه المدينة؟! لمن كل الكلمات؟!

أتراوغ الذاكرة؟!! أم أنّها تنسى؟!

على كل حالٍ ليست لي. هذه المدينة ليست لي، ولم تكن قط لي.

تأخرت حتى عرفتُ.

أمسح دموعي العالقة بين جفنيّ، وسنين بعيدة بُعد الأمكنة التي تقطعني.

عمّ كنت أبحث؟! لا أعرف. لكني وجدت نفسي في حماية موقف باص، أعانق أعمدته، تلثمني البرودة القديمة، فأتوهج من جديد، وتمر قوافلي الجائعة، فتراني مُساقاً في سيارة رمادية لأتهجى الوجع في الدهاليز الصفراء المقيّحة.

ثم أُربط على جدار عربة كاللحم المسلوخ، وروحي تُلاحقني تائهةً في أزقة الدّوار.

وقفتُ في أرض المحكمة أمام القاضي، لا أتنفّس، فقذفني بالثمانية، أتجرعها سنة بعد سنة وجيلاً بعد جيل.

قُيدت فيها من قلبي على الحديد الشائك بين جدران الحنين والرطوبة السابحة فوق بساط النباح والعيون اليابسة.

ويمر شبابي على زيارات تبتعد كلما انتظرتها. على قسوة اجتاحتني، وتركتني ضائعاً. على شفقة أهلي لم يتركوني، رغم قناعتي أني لا أساوي شيئاً، على فراق خلاياي عن بعضي!!

على البعد، على النسيان، يمحو أمواجاً، كانت تحطم صخور الذبول، على رسالة هُرِّبت لي تقول فيها صديقتي.. عفواً..عفواً.. حبيبتي:

"اعذرني لم أعد أحتمل انتظارك.. كما وعدتك".

كالصدى أرجع على متن سيارة مسيّجة بالمعادن والحراب وروائح النفط اللئيمة، فأصحو في معسكرات جديدة، على الغفلة، على الصياح في كأس الأذن، على الصوت يخيّرني بين الحبس أو انحباس الصوت..!!

وأختار الانحباس!! اتركوا المطر لا يهطل، فلن أعطش أكثر من عطشي الآن.

ألصقت بصمتي في الورق. بصمتين اثنتين:

لا لأمثالي.

نعم لكم وحدكم.

وحبستْ بصمتي صوتي. أراقب بصمتي. أخاف، وأنا أتساءل هل خرجتُ؟!أم خرجت من نفسي، وبقيت عالقاً بالبصمات ؟!

هذا شارعٌ. هذا مقهى. تلك مصابيح كهربائية.

الناس يمرون. يمشون بهدوء وكثافة..!!

وأنا..!! أنا أين كنتُ؟! وهم أين كانوا؟!

كانوا في داخلي وقد خرجوا.. ومن الآن!!

الخطوط البيضاء تقطع الطريق، والبؤر المشعة تتوهج، فيلكزني صوت الشحار.

يلكزني في خاصرتي، لأفيق. أمسك خاصرتي.

لا..لا..لن أصحو. لن أغادر هذا الحلم المدني، ولماذا أصحو؟!

ليراني صاحب البدلة الخاكية، ويدون رقمي في دفتره؟!

لأستطلع تفاصيل المهجع، وأنا أحفظه فتراً، فتراً؟!

ليمضي الوقت، وأنسى أن أقول لأصحابي صباح الخير، هذا صباح آخر يُقلع في مهاجعنا الذابلة؟!

لا لن أفيق، ليضربني أبو البدلة الخاكية.

ليضربني ما شاء، وكيفما شاء!!

يوجعني اللكز، ويتطاول إلى صدري، ينخر، ويخنقني،فأتذكر السِّل الذي أصبتُ به.

فتحت عينيّ المفتوحة، وعرفتُ أني لست في حلم.

لا يوجد تفقد. لست في فراشي، وإنما يحتويني موقف باص..

طفله صغيره هجرتها الطفولة. رائحتها كريهة، وجهها جاف.

عيناها تُمثلان الفقر في لوحة من الخُبث الهجين.

قالت راجية بِنَفَس آمر:
ـ "من مال الله... عمّو الله يخلّيك..!!"

طائر واحد يكفي لكي لا تسقط السماء
فرج بيرقدار
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.05157 seconds with 11 queries