عرض مشاركة واحدة
قديم 16/08/2008   #5
شب و شيخ الشباب achelious
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ achelious
achelious is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
المطرح:
الغدّ
مشاركات:
2,008

افتراضي


الرضيع

حين أتت السيدة المحسنة التي تنتمي لجمعية رعاية الأطفال لزيارتنا سألتنا، كما يفعل الجميع، لماذا ننجب كل هذا العدد من الأطفال، فانبرت زوجتي التي كانت تشعر بانقباض في ذلك اليوم لتعلن صراحة ودونما مواربة: "لو كانت لدينا الإمكانيات لذهبنا إلى السينما في المساء. وبما أننا لا نملك النقود فإننا نأوي إلى الفراش، وهكذا يولد الأطفال". بدا الانزعاج على السيدة عندما سمعت هذه الملاحظة ومضت دون أن تضيف كلمة واحدة. أما أنا فقد عنّفت زوجتي قائلاً بأنه لا يصح الإعلان عن الحقيقة دائماً، وعلى المرء كذلك أن يعرف مع من يتعامل قبل أن يعلن الحقيقة.‏
في سن الشباب قبل أن أتزوج كنت أتسلى في كثير من الأحيان بقراءة الأخبار المحلية في الجريدة حيث يصفون كل المصائب التي يمكن أن تحدث للناس مثل حوادث السرقة، والقتل، والانتحار، وحوادث الطرق. من بين كل تلك المصائب واحدة لم أكن أتصور على الإطلاق أن أواجهها وهي أن أصبح "حالة تثير الشفقة"، أي حين يثير شخص ما مشاعر العطف بسبب حظه العاثر دون أن يعزى ذلك لمصيبة محددة أصابته، أي أن حالته تعود لمجرد كونه على قيد الحياة، ليس إلا. كنت شاباً حينذاك كما ذكرت، ولم أكن أعرف معنى إعالة أسرة كبيرة. غير أنني أرى الآن أنني تحولت تدريجياً إلى ما يعني بالضبط تعبير "حالة تثير الشفقة" وهذا ما يثير دهشتي. كنت أقرأ مثلاً: "إنهم يعيشون في حالة فقر مدقع". حسناً، ها نحن نعيش في حالة فقر مدقع. أو يقولون: "وهم يعيشون في بيت ليس له من مقومات البيت غير الاسم". وها أنا الآن أعيش في "تورمارانشيو"، مع زوجتي وأطفالي الستة في غرفة خالية إلا من مراتب كثيرة مفروشة على الأرض. وحين تمطر السماء يتدفق الماء فوق رؤوسنا كما يتدفق على المقاعد الموجودة في شارع "ربيتا". أو قد أقرأ: "وما أن اكتشفت المرأة المسكينة أنها حامل حتى قررت أن تتخلص من ثمرة عاطفتها تلك". حسناً، لقد اتخذت وزوجتي هذا القرار بناءً على اتفاق مشترك حين اكتشفنا أنها حامل للمرة السابعة. قررنا في الواقع أن نترك الطفل في إحدى الكنائس بعد أن يعتدل الطقس ويصبح أكثر دفئاً، أي أن نتركه لرعاية وإحسان أول من يصادفه العثور عليه.‏
بالمساعي الحميدة لمثل أولئك السيدات المحسنات دخلت زوجتي المستشفى لتضع مولودها. وما أن تحسنت حالتها حتى عادت مع المولود إلى "تورمارانشيو". قالت حين دخلت الغرفة: "أتدري؟ على الرغم من أن المستشفى يظل مستشفى إلا أنني كنت أود أن أبقى هناك بمحض إرادتي بدلاً من العودة إلى هنا". وما أن تفوهت بهذه الكلمات حتى أطلق الوليد صرخة لا تصدق، وكأنما فهم معنى كلماتها. كان طفلاً لذيذاً يانعاً له صوت قوي بحيث أخذ يمنع النوم عنّا جميعاً حين يستيقظ ليلاً ويبدأ في البكاء.‏
عندما حلّ شهر أيار وغدا الهواء دافئاً بحيث يسمح بالخروج دون ارتداء معطف انطلقنا أنا وزوجتي من "تورمارانشيو" إلى روما. كانت زوجتي تحتضن الطفل وتضمه إلى صدرها وقد لفته بكمية كبيرة من الخرق وكأنما ستتركه في حقل من الجليد دون أن يصيبه أذى. ما أن بلغنا المدينة، وكأنها تريد أن تخفي حقيقة أنها تمقت ما هي مقدمة عليه، فقد أخذت تتحدث دونما انقطاع وهي مبهورة الأنفاس وعلائم الإجهاد تبدو عليها وقد تناثر شعرها في كل اتجاه وبرزت عيناها من مآقيهما. تتحدث حيناً عن الكنائس المختلفة التي يمكن لنا أن نترك الطفل فيها، مؤكدة بأن من الواجب أن تكون كنيسة يرتادها الأغنياء. فمن الأفضل أن يتربى الطفل بيننا إن كان من سيلتقطونه فقراء مثلنا. وما تلبث بعد قليل أن تتحول لتقول بأنها تصرّ على أن تكون الكنيسة منذورة للسيدة العذراء لأنه كان لها ابن أيضاً وبذا يمكنها أن تتفهم أموراً معينة، وبذا ستمنحه ما يستحق من عطف. هذه الطريقة في الكلام أرهقتني وهيجت أعصابي- خصوصاً وأنني كنت أشعر بالإذلال أيضاً وأمقت ما أنا مقدم عليه. غير أنني كنت أحاول إقناع نفسي بأن علي أن أتمالك مشاعري وأبدو هادئاً لكي أساعدها على التماسك. تفوهت ببعض الاعتراضات مستهدفاً قطع هدير كلامها ثم قلت لها: "عندي فكرة... لم لا نتركه في كنيسة القديس بطرس؟" ترددت للحظة ثم أجابت: "لا، فهي كبيرة جداً وقد لا يرونه هناك... أفضّل تلك الكنيسة الصغيرة في شارع "كوندوقي" حيث توجد كل تلك المحلات الجميلة التي يرتادها الكثيرون من الأغنياء- إنها المكان المناسب!"‏
ركبنا الحافلة حيث جلست صامتة بين الآخرين، وكانت تعيد ترتيب الحرام الصوفي وتحكمه حول الطفل بين حين وآخر، أو تكشف عن وجهه بحرص وتتأمل وجهه. كان الطفل نائماً ووجهه محمرّ ومتورد في وسط كل تلك اللفائف. ثيابه رثة شأن ثيابنا، والشيء الجميل الوحيد الذي يرتديه هما القفازان المصنوعان من الصوف الأزرق، وكان في الحقيقة يفرد يديه على اتساعهما وكأنما يتباهى بقفازيه. نزلنا في "لارجو جولدوني" وعادت زوجتي تثرثر من جديد، ثم توقفت أمام واجهة أحد بائعي المجوهرات وقالت لي وهي تشير إلى المجوهرات المعروضة على رفوف مغطاة بالمخمل الأحمر: "هل ترى ما أجملها! الناس يأتون إلى هذا الشارع ليشتروا المجوهرات والأشياء الجميلة الأخرى. أما الفقراء فليس لهم شأن بهذا المكان. وفيما هم ينتقلون من محل إلى آخر يدخلون الكنيسة ليصلّوا للحظة من الزمن، وبعد ذلك، وبينما هم في مزاج رائق يجدون الطفل ويأخذونه..." قالت كل ذلك وهي تقف وتحدق بالمجوهرات وتشد الطفل إلى صدرها وعيناها مفتوحتان على اتساعهما، وهي تتكلم وكأنما تحادث نفسها. أما أنا فلم أكن أجرؤ على مجادلتها. توجهنا إلى الكنيسة، كانت صغيرة وقد دهنت بكاملها بحيث بدت وكأنها من المرمر الأصفر؟ وبها عدد من المحاريب ومنبر كبير. قالت زوجتي بأنها تتذكرها على نحو آخر، وأما وهي كما تراها الآن فإنها لا تحبها على الإطلاق. ومع ذلك فقد غمرت أصابعها في الماء المقدس، وصلّت ثم تابعت سيرها بخطى بطيئة حول المكان وهي تتفحصه بعينين مرتابتين وبعدم ارتياع وتضم الطفل إلى صدرها.‏
كان هنالك نور بارد ساطع ينبعث من قنديل يتدلى من قبة الكنيسة، وأخذت زوجتي تطوف من محراب إلى آخر وهي تتفحص كل شيء: المقاعد، والمحاريب والصور لتحكم فيما إن كانت مكاناً مناسباً تودع فيه الطفل.. أما أنا فقد كنت أتبعها وأسير على مسافة منها وأراقب الباب بحذر طوال الوقت.‏
دخلت فجأة فتاة شابة ممشوقة القوام ترتدي ثوباً أحمر، يزين رأسها شعر أشقر ينسدل كالذهب، ركعت الفتاة والتصقت حينذاك تنورتها بجسمها، وصلّت لفترة دقيقة واحدة فحسب ثم خرجت ثانية دون أن تنظر إلينا. أما زوجتي التي كانت تراقبها فقد قالت فجأة: "ليس هذا بالمكان المناسب، فالناس الذين يرتادونه هم، شأن هذه الفتاة، على عجلة من أمرهم كي يمضوا ليتسلوا ويتفرجوا على المحلات.. لنذهب! ثم خرجت على الفور.‏

يتبع..
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.03491 seconds with 11 queries