عرض مشاركة واحدة
قديم 21/09/2008   #12
شب و شيخ الشباب achelious
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ achelious
achelious is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
المطرح:
الغدّ
مشاركات:
2,008

افتراضي


أبهة الموت

كثيراً ما قلت إن قلبي لا يتحمل مشاركتي في دفن أصدقائي . ولكنني في الثاني من شهر تشرين الثاني الماضي , وهو يوم جميع الموتى , أردت مرافقة زوجة شخص عزيز جداً لحضور مراسم احراق جثته . كان الجسد قد امضى تلك الليلة في النزل الجنائزي التابع لوكالة غايوسو لدفن الموتى , في جادة فيلكس كويفاس بمدينة مكسيكو . وكانت الوكالة المذكورة قد انجزت جميع المعاملات الخاصة بالاحراق والنقل الأخير الى محرقة أجساد الموتى . كان الموعد المحدد هو الساعة الحادية عشر صباحاً , وجميعنا كنا نظن ان العملية ستكونت مجرد امر تقني , بلا طقوس من اي نوع , ويمكن لها ان تستغرق نحو ساعتين . عندما وصلنا الى المكان , أرونا جثثاً أخرى تنتظر الدور , وقالوا ان جثة صديقنا ستنتظر حتى الساعة الخامسة مساء على الأقل . في صالة الانتظار الكئيبة والمثلجة , التي لا وجود فيها لوردة واحدة ولا لمقعد بائس واحد يمكن الجلوس عليه , كانت توجد مجموعة من التوابيت المستعملة , مصفوقة على الجدار بوضع عامودي , وكانت تلك التوابيت قد استخدمت ممن اتخذوا الاحتياطات وماتوا مبكرين . فقد باعتها وكالات الدفن واستخدمت للسهر على الموتى ولنقلهم , انما كان واضحاً ان الاقرباء الذين دفعوا ثمنها ذهباً , لم يعودوا بحاجة اليها , لذلك كان هناك من سيتولى بيعها ثانية الى الموتى مستقبليين . قال لنا سائق العربة التي حملت جثمان صديقنا : "لماذا لا ترجعوا غداً وتحاولوا ان تكونوا اول من يصل ؟" . ان هذا السؤال وحده صاغه شخص يعرف دون ريب خيراً منا مأسي البيروقراطية الماتمية جعلنا ندرك نوعية اليوم الذي ينتظرنا .

تولت الأمر أنا ماريا بيكانيناس , وروت تلك التجربة للصحافة في رسالة يجب الا تمر مرور الكرام , لأنها ليست الا عينة صغيرة من الخذلان الذي يجد فيه الأحياء أنفسهم أمام الوكالات الجنائزية , بعد ان يكونوا قد دفعوا نفقات الخدمة كاملة . ومنذ بضعة شهور , روى فيرناندو بينيتس لاحدى الصحف كذلك كيف عاملت وكالة غارسيو أسرة كاتب لم تكن تملك المال لدفع تكاليف الجنازة , وهي نفقات ربما تكون اكبر من كل ما تقاضاه الصديق الميت طوال حياته من حقوق التأليف . كما اهتمت مجلة (الهيئة الوطنية للمستهلك) , وفي عدة مناسبات بأسعار الموت الباهظة في المكسيك , لكن موعظتها مثل غيرها من المواعظ حول موضوعات فانية ضاعت الى الأبد في البرية . حتى لكأن وكالات دفن الموتى في العالم بأسره, تتمتع بامتياز خاص يضعها بمنجى من أية عقوبة قد تتخذ ضد استغلالها .

روت أنا ماريا بيكانيناس ان الموظف الوحيد الذي وجدته في محرقة الجثث قدم لها تفسيراً واقعياً لدرجة انه بدا أقرب الى تفسير خباز , فقد قال لها : "الفرن مشغول , والفران في الداخل وهو لن ينتهي من (التفرين) قبل ثلاث ساعات" . ولم تكن هنالك أية معلومات اخرى حينئذ اتصلت أنا ماريا بيكانيناس بوكالة غايوسو , وهي تظن انها قد تحصل على مساعدة خاصة بعد ان دفعت للوكالة جميع التكاليف كاملة , فأعلمها موظف قال ان اسمه ريكاردو لوبيث بأن مسؤولية الوكالة تنتهي لحظة خروج الجثة من المبنى الجنائزي وأغلق الهاتف . عادت أنا ماريا بجسارتها الكتلانية الى طلب الرقم ذاته فرد عليها عندئذ موظف أخر , أوضح لها بصوت له نبرة أصوات تجار الموت ذات التلاوين قائلاً إنه لا يستطيع عمل أي شيء لتعجيل الاحراق . وربما دون ان يدري اخترع مثلاً كئيباً حين قال لها : "لسوء الحظ , ان المحظوظ هو من يصل أولاً" . ولم يكن ممكناً عمل أي شيء بالفعل . أما الخدمة والمساعدة والتفهم المتعاقد عليه مع بائعي الموت الذين يصل بهم الامر الى الوعد بإدخال المتوفي الى السماء بصحبة أبواق ملائكية, فقد ذهبت كلها أدراج الرياح .

لقد كانت تلك مأساة اخرى , لكنها ربما كانت الأقل خطورة بين ما يحدث من مأسي في كل لحظة في العالم بسبب جشع وكالات الدفن وفظاظة قلوبهم الحجرية . ففي المكسيك , حيث تجارة الموت هي احدى اقسى التجارات واكثرها ازدهاراً , وحيث اعتاد الاستغلال على غزو اكثر مناطق الادب الخيالي نفوراً تقول نشرة دعائية لاحدى وكالات الدفن : "الخدمة كلها لا تكاد تستغرق عشر دقائق أو خمس عشرة دقيقة في أقصى الحدود . وهي ليست بالامر المحزن بل يمكن الذهاب اليها وكأن المرء ذاهب الى نزهة . والمكان جميل , فهو ليس مدفناً تقليدياً , وانما هو ضريح حديث مفروش بالسجاد , ومزود بالانارة , والتكيف , وفيه أيضاً فتحات لتهوية السراديب" .
لقد قدرت هيئة المستهلك انه يوجد في المكسيك 195 وكالة دفن نظامية مسجلة , و110 وكالات اخرى تعمل بطريقة شبه سرية . وهذه الاخيرة على وجه الخصوص محكومة بقوانين العرض والطلب الآنية , وتدخل في منافسة وتدافع على الجثث مرعبين أمام أبواب المشافي وفي ممراتها . ولكن حتى في جنازات الأثرياء , فإن الوكلاء البياعين يفتقرون لأي قاعدة محددة لاسعار خدماتهم انهم يتصرفون في أغلب الاحيان بناء على مظهر الزبون وحالته في لحظة عقد الصفقة . وسعر التابوت هو الذي يحدد نوعية الخدمة كلها اذ لا يمكن الجمع بين تابوت غالي الثمن وخدمة متواضعة او العكس . والموت في نهاية الامر ليس الا رحلة مهما كانت أبدية والوكالات لا تجد سبباً يمنعها من تنظيم خدمات الموت كما لو كانت رحلة سياحية جميع الخدمات فيها مضمونة بما في ذلك احتمالات الحب العابر . انها تجارة خرافية : ففي عام 1976 بلغت أرباح وكالات الدفن الشرعية وحدها في المكسيك 175 مليون بيزو .


لقد جاءنا هذا المفهوم للدفن من الولايات المتحدة , وهو أمر في منتهى البساطة هناك : فأبهة الموت هي ضرورة أولية . والامريكي المتوسط لا يتمتع في أية لحظة من حياته بمستوى حياة أرقى من مستوى موته , ولا يكون في أية لحظة أجمل مما يكون عليه وهو في التابوت : حتى ان افراد اسرته بالذات يصابون بالذهول لمدى مناسبة التحنيط له , ولمدى الرقة التي يتسم بها, ولمظهر التفهم والمحبة التي يبديها وهو يسند رأسه الى وسادة الموت , وربما تألموا في سرهم لأنه لم يتم التوصل بعد الى امكانية تحنيط من هم قساة المعشر وهم على قيد الحياة . لكنه وهم باهظ الثمن تزدهر من ورائه تجارة من أقسى التجارات واكثرهم قذاره في العالم . لقد قرأت منذ سنوات عديدة حكاية مرعبة في كتاب مذهل حول التجارة الجنائزية في الولايات المتحدة . فأرملة من الطبقة المتوسطة انفقت كل مدخراتها لتقدم لزوجها الميت جنازة اكثر ابهة من امكانياتها الواقعية . وكان كل شيء يبدو محكماً الى ان اتصل بها احد موظفي الوكالة تلفونياً ليقول لها ان الجثة أطول مما هو وارد في العقد , وأنه عليها بالتالي ان تدفع مبلغاً اضافياً . لم يكن قد بقي في حوزة الأرملة سنت واحد . فقدم لها الموظف حينئذ الحل بصوته الرخيم الذي يشبه اصوات جميع ابناء مهنته قائلاً : "في هذه الحالة أرجو منك ان تمنحينا تفويضاً لننشر قدمي الجثة" . لكن الأرملة المسكينة وجدت كيفما اتفق المال الذي لم يكن تملكه كي تمنحها زكالة الدفن الرحمة وتدفن زوجها كاملاً .

  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.03374 seconds with 11 queries