الموضوع: محمود البدوى
عرض مشاركة واحدة
قديم 18/08/2008   #15
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي حدث ذات ليلة


حدث ذات ليلة من ليالي الصيف عام 1919 وكانت الثورة المصرية مشتعلة في طول البلاد وعرضها، أن نشبت المعركة بين المصريين والإنجليز في مدينة أسيوط.. وبدأت بإطلاق النيران على معسكرات الإنجليز عند الخزان .

واحتملت قرية الوليدية وهى قرية صغيرة مجاورة للخزان كل أعباء المعركة .. على أن القرى المجاورة لم تتركها وحدها بل أرسلت إليها أحسن رجالها الشجعان .

كان الرجال يأتون إليها من كل صوب على ظهر المراكب الشراعية الصغيرة والكبيرة.. ويخوضون غمار المعركة مستبسلين.

وكنا نحارب كما يحارب الثوار في غير نظام ولا قيادة.. ومع هذا فقد فكرنا في أن نفعل ما يفعله المحاربون في الميدان حقا .. فكرنا في أن نقطع الخط الحديدي عند قرية منقباد لنمنع المدد والمؤن عن الأعداء وبذلك نميتهم جوعا .

واجتمع في قرية صغيرة على الضفة الشرقية للنيل أكثر من خمسمائة رجل من مختلف القرى مسلحين بالبنادق القديمة والحديثة والخناجر والعصى والحراب .. ومعهم خيولهم وجمالهم وحميرهم .

ونحرت لنا الذبائح .. وجلسنــا نتعــشى في العراء على الطبالى خمسة .. خمسة .. وكنا نتحدث في حماسة بالغة ، ونلتهم الطعام على ضوء المشاعل .. ونسمع صهيل الخيل وهدير الفحول .. وعواء الكلاب في القرية .. وكنت أرى عيون الرجال تبرق في الظلام .. وأشاهد في دائرة الضوء لحاهم وشواربهم الضخمة وأجسامهم الطويلة .. وكانوا يرتدون الجلابيب السمراء والزرقاء ويعصبون رءوسهم .. ويتمنطقون بالأحزمة الجلدية المليئة بالرصاص والخرطوش .

وكانوا يمسحون أفواههم بأطراف أكمامهم ، ويشعلون لفائف التبغ .. ويشربون القهوة .. ويتحدثون عن الليل والرجال .

وكنت مأخوذا بسحر حديثهم وبقوة شخصيتهم .. وبجبروتهم الذي لاحد له .

كان أكثرهم من الرجال الشجعان الذين يقطنون في الجبل الشرقي .. وقد نشأوا أحرارا أشداء .. يأبون الضيم ويدافعون عن العرين .

وعندما وقف واحد من الطلاب وأخذ يتحدث عن الاستعمار والبلاء الأسود النازل بالبلاد .. رأيتهم ينصتون في سكون وعيونهم تلمع ووجوههم منفعلة من فرط الغضب .. ثم أخذوا يعمرون البنادق ويشحذون الأسلحة .

وتركنا الخيل والجمال والحمير مع الغلمان .. وعبرنا النيل إلى الضفة الغربية وهناك انقسمنا إلى فرق صغيرة اتجه بعضها إلى الخزان .. وذهبت مع فرقة مكونة من ثمانية عشر رجلا من الرجال الأشداء إلى منقباد لنقطع الشريط الحديدي وكنت على رأس هذه الفرقة .. وسرنا حذاء النيل على الرمال الناعمة .. وكان الليل في أخرياته والظلام شاملا والسكون رهيبا .. ثم انحرفنا عن الطريق السوى وسرنا وسط الحقول .. وكانت السماء كابية والريح تزأر في أخصاص البوص التي مررنا بها .. ولما صعدنا المنحدر واقتربنا من الخط الحديدي بدا صوت اقدامنا يسمع بوضوح في هذا السكون العميق .. وتقدمنا في قلب الليل ولما بلغنا الجسر كان الشريط يلمع ملتويا في الظلام .. وكانت أعمدة البرق وأسلاك التليفون تهتز والريح تصفر في جنبات الوادي المقفر .. وعندما أخذت أرجلنـا تضرب على الزلط الذي يتخلل القضبان .. شعرت بعظم المهمة الملقاة على عاتقي وانتابتنى الرهبة .. وأخذت المكان بنظرة خاطفة وأعطيت الإشارة للرجال .. وبدأت المعاول تعمل .. وبعد قليل فرغنا من مهمتنا وقفلنا راجعين .

***
تفرقنا في قلب الليل كالذئاب بعد أن تنفض مخالبها من الفريسة .. وسرت وحدي وسط الحقول .. وكان الليل ساكنا وأشجار النخيل تخيم من بعيد على قرية الوليدية وتغرقها في لجة من الظلام الشديد .. وكانت الكلاب لا تزال تنبح في الحقول .. والديكة تصيح في أكواخ الفلاحين معلنة طلوع الفجر .. وعندما بلغت طرف القرية الشمالي شعرت بالجوع والنعاس فتمددت في ظل شجرة كبيرة من أشجار السنط .. وأخذني النوم واستيقظت على دوى الرصاص .. وكان اليوم الثالث للمعركة بيننا وبين الانجليز .. فذهبت إلى الميدان وظللت أقاتل حتى المساء .

وفي اليوم الخامس ظهرت طيارة في السماء .. وأخذت تلقى القنابل على غير هدف .. وذعر الناس ولم يكن لنا بها عهد ..

وحملنا بنادقنا في أيدينا وأخذنا نهيم على وجوهنا في الأرض .. وأخذت المراكب الشراعية تعود بالمحاربين إلى ديارهم ..

وكان الوجوم والتعاسة والخيبة المرة مرتسمة على الوجوه ، وكنا نحن الشبان الأشداء نغلى غيظا فلم نكن ندرى علة هزيمتنا .. لقد بدأنا المعركة كجنود من الطراز الأول وعندما كففنا عن النار خيل إلينا أننا قد انتهينا .. ولكننا مع هذا لم نلق السلاح .

***
وخمدت الثورة في القاهرة وأرسل الإنجليز فرقة جديدة إلى أسيوط .. وكانت ترابط عند الخزان في حديقة كبيرة هناك .. وكانوا يخرجون من معسكراتهم في الليل سكارى ويشتبكون في عراك مع الأهالي .

وكنت قد هجرت قريتي وأخذت أمضى الليل في بستان صغير قريب من الوليدية لأن الإنجليز انطلقوا يفتشون القرى في الشرق ، باحثين عن الأسلحة ورجال الثورة .

وذات ليلة جلست كعادتي في البستان .. وكان بجواره طريق صغير ينحدر إلى النيل ومنه تنزل الفلاحات لملء جرارهن .. وكن يحملن الجرار على رءوسهن وينزلن إلى الماء .. ويشمرن عن سواعدهن ويرفعن أطراف ثيابهن ، وتبدو سيقانهن البللورية وهى تغوص في اللج .. وعندما يملأن الجرار ويطلعن على اليابسة يتركن ثيابهن تنسدل وشعرهن يهتز في ضفائر على ظهورهن .. والخلاخيل الفضية تبدو في السيقان الممتلئة وهن صاعدات المنحدر .

ومر في الطريق بعض الجنود الإنجليز .. وأخذوا في معابثة النساء الخارجات من الماء .. وطار هؤلاء مذعورات وتركن الجرار تسقط وتتهشم .. وأمسك واحد منهم بواحدة من يدها ورأيته يعابثها ويهم بتقبيلها وهى تصرخ وتستغيث ، وتملكني غيظ مستعر وأنا أشاهد هذا المنظر .

وتجمع الأهالي واشتبكوا في عراك دموي مع الإنجليز .. ورأيت أحد الجنود يخرج مسدسا ويطلق النار كالمجنون .. وكان الأهالي عزلا من السلاح .. فأخرجت بندقيتى من مكمنها .. وسددتها وسقط .. وأطلقوا النار في كل اتجاه .. فأصابتني رصاصة في ساقي ولكنني تحاملت على نفسي وزحفت في الظلام .

وفرغت الشوارع من المارة بعد دقيقة واحدة .. وخيم سكون القبور على كل شيء ، وأخذ الظلام يشتد ، وسمعت وأنا ممدد في مكمني حركة في طرف البستان .. ثم ظهرت عن بعد داورية إنجليزية تفتش في كل مكان وبدا لى أنهم أخذوا يطوقون البستان .. فأسرعت وربطت ساقي بقطعة من القماش نزعتها من ثوبي بعد أن حشوت الجرح بالتراب .. وزحفت في حذر .. ودارت عيناي فيما حولي تبحث عن ملجأ في هذا الظلام .

وشاهدت منزلا صغيرا على النيل فاتجهت نحوه وأنا مدفوع بقوة لاقبل لي بها .. ودفعت الباب ودخلت .. وسمعت صوتا نسائيا يقول :

ـ مين ..؟
ـ أنا ..

ورأيت امرأة في صحن الدار .. وكانت تلبس جلبابا أسود .. وعلى رأسها منديل أسمر .. ونظرت إلىّ في هلع وأنا داخل بيتها وبيدى البندقية وعلى وجهي الشر .

وقالت بصوت مرتجف :
ـ مالك ..؟
ـ جريح .. وعطشان ..

ودخلت ومشت إلى الداخل دون أن تنبس ، وعادت بعد قليل بكوز فتناولته منها ورفعته إلى فمي مرة واحدة .. وسمعت حركة شديدة ولغطا في الشارع .. فانزويت خلف الباب وأمسكت البندقية في يدي .. وتهيأت لكل الطوارئ .. ووقفت المرأة تنظر إلىّ من بعيد وهى مضطربة واجمة .

وسمعت طرقا شديدا على الباب .. فلم يرد أحد .. وخيم السكون لحظات .. ثم سمعت من يقول بصوت عال :
ـ دا بيت حميدة .. يا شيخ الخفر .. وهيا مسافرة ..
ـ مسافرة ..؟
ـ أيوه .. مسافره بحري .. من مدة ..

وبعد الصوت .. وخيم السكون من جديد فتنفست الصعداء .. ورجعت إلى صحن الدار وأنا أتحامل على نفسى وتمددت هناك .. ونظرت إلى المرأة طويلا ولم تقل شيئا .. فقلت لها :

ـ لا تخافي .. سأستريح قليلا ثم أذهب .. متى فرغوا من التفتيش
ـ ولماذا تخاف أنت ..؟
ـ البندقية .. وأنت تعرفين الأحكام العسكرية ..
ـ هاتها .. وأنا أخبئها في مكان لا يعرفه أحد ..
فقلت لها وأنا أبتسم :
ـ إنها سلاحي .. وأنا لا ألقى السلاح ..
فهزت كتفها ووقفت ساكنة وبعد قليل تحركت نحو الباب الخارجي .. فقلت لها بصوت هادئ :
ـ إلى أين ..؟
ـ سأشترى بعض الأشياء من السوق ..
ـ مكانك .. لن تبرحي هذا البيت ما دمت أنا فيه ..
ـ إنك مجنون ..
قالت هذا واحمر وجهها غضبا .. وظلت واقفة في مكانها بجانب الباب .. ثم استدارت ومشت إلى الداخل .. وعاد إليها بعض الهدوء ..

وقالت مبتسمة بصوت رقيق :
ـ ألا تعرفني ..؟
ـ أبدا..
ـ أنا حميدة الغربية .. بياعة القماش .. وأنت من بنى مر .. وأنا أعرفك جيدا .. واسمك عبد الرحمن المرى ..

فذهلت .. كيف عرفت اسمي ..
واستطردت :
ـ لقـد ذهبت إلى منزلكم في غرب البلد مرارا .. ألا تذكرني ..؟
وتذكرتها بخالها الأسود على خدها الأيمن .. وبعينها العسليتين وابتسامتها الحلوة .
ـ عرفتني ..؟
ـ أيوه ..
ـ سيبنى أطلع بره ..
ـ لأ..

وجلست على الأرض أمامي .. وكان المصباح البترولي الصغير تهتز ذبالته وبريق الضوء على وجهها الصبوح ، وكان ثوبها الأسمر يلف جسمها الممتلئ ، ومنديلها يغطى جزءا من شعرها .

وأخذنا نتحدث حتى مضى جزء كبير من الليل .. وكنت أتصور أنها تمهلني لأنام .. ومتى نمت خرجت ، ولهذا ظللت ساهرا لا تغمض لي جفن .. وذهبت هى إلى فراشها ..

وفي الصباح ابتدرتها بقولي :
ـ حميدة .. هاتى مفتاح الباب الخارجى ..
فأعطتني المفتاح وهى صاغرة ووضعته تحت رأسي ..

ومكثت معها ثلاثة أيام .. وظلت محبوسة قلقة مضطربة وزادها الحبس اضطرابا وعصبية وكاد ما في البيت من خبز وإدام أن ينفد وجعلها هذا أكثر قلقا .. وكانت ترميني بنظرات نارية وتبتعد عنى ما أمكن ..

ولما نفد معين صبرها قالت لي بصوت خافت :
ـ أنا عارفة ..
ـ عارفة إيه ..؟
ـ القاتل ..
وانتفضت ..

ومضت تقول في خبث ظاهر :
ـ لقد رأيته بعينى هاتين من سطح البيت .. وكان في البستان ..

وتحركت من مكاني أزحف على قدمي ، وعيناي ترميانها بنظرات ملتهبة .. واجتاحتني موجة من الغضب جارفة عارمة .. عندما تبينت أنها تعرف سرى كله .. وأنني معلق في حبل المشنقة ، وهى التي تمسك بيدها الحبل .. وإن شاءت جذبته وطوقت به عنقي ..

وأمسكت بقبضتها وجذبتها نحوى
وقالت بصوت راعش :
ـ سيبنى يا مجرم .. سيب ..

ودارت يدي حول رسغها .. وشددتها إلىّ .. وكنت قد نهضت نصف قومة .. فدفعتني بيدها إلى الوراء بقوة .. وقد تدحرجنا على الأرض فطوقتها بذراعي ، وأخذت أضرب وجهها وجسمها ضربا مبرحا ، وأخذت تبكى بصوت مكتوم وتضربني ما وسعها الضرب .

واشتبكنا في عراك طويل .. ولم تعد بي قوة على الإمساك بها فأطلقتها .. فنهضت وعيناها مخضلتان بالدمع .. وكان شعرها منفوشا ووجهها محتنقا .. ودارت في صحن الدار كالمجنونة ثم بصرت بقالب في الكانون فأسرعت ورمتني به .. وحط القالب على صدغي وغبت عن الوجود .

ولما فتحت عيني كان الظلام يخيم .. وكان الدم يلطخ وجهي وثوبي .. وكانت حميدة جالسة عند رأسي تمسح الدم بمنديلها ! ولما شعرت بأنني تنبهت حركت يدها في لين ورفق على جبيني ، ثم أخذت تتحسس ذراعي .. وقربت وجهها من وجهي ونظرت طويلا في عيني .. ثم ارتمت على صدري ، وطوقتها بذراعي ورحنا في عناق طويل .

ولما التأم الجرح وقويت على السير خرجت في ظلام الليل مودعا حميدة وكانت في لباسها الأسود وعلى رأسها منديلها وخرجت معي إلى الزورق الذي أعدته لي ..

ولما تحرك الزورق بي وقفت على الشاطئ تمسح عبراتها .. فتحولت بوجهي عنها ، وأنا أغالب عواطفي واتجهت إلى الشرق ..


شُذَّ، شُذَّ بكل قواك عن القاعدة
لا تضع نجمتين على لفظة واحدة
وضع الهامشيّ إلى جانب الجوهريّ
لتكتمل النشوة الصاعدة
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.08252 seconds with 11 queries