عرض مشاركة واحدة
قديم 02/10/2009   #4
صبيّة و ست الصبايا جلنارالغالية
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ جلنارالغالية
جلنارالغالية is offline
 
نورنا ب:
Aug 2009
المطرح:
تحت شجرة ياسمين
مشاركات:
109

إرسال خطاب MSN إلى جلنارالغالية إرسال خطاب Yahoo إلى جلنارالغالية بعات رسالي عبر Skype™ ل  جلنارالغالية
افتراضي بين الجنون والعظمة


وقال لنا بأنه سمع مرة بدوي الجبل يقول بأنه ليس هو الذي يكتب أشعاره ، وإنما هي التي تكتب نفسها بنفسها، فهي تجيئه وهو ماش أو نائم أو صاح وتنزل عليه كالإلهام. ويجد نفسه عندئذ وهو "يدندن" بها كما هو على غير علم منه. وما عليه عندئذ إلا أن يسجلها بسرعة على الورق قبل أن تتبخر وتضيع.. وأتذكر أن إحسان عباس قد أبدى بعض الشكوك فيما يخص هذه النقطة واعتبرها أحدى مبالغات الشعراء. ولكني الآن، وبعد مرور أكثر من عشرين سنة على هذه الحكاية، أميل إلى تصديق بدوي الجبل أكثر من ذي قبل، دون أن يعني ذلك إنكار دور الصنعة والجهد في إنتاج القصيدة.
فالمبدعون الكبار ينفجرون بالإبداع انفجاراً . ربما كان مايبدعونه يعتمل في داخلهم ويختمر لفترة طويلة، ثم تجيء فجأة لحظة الحسم التي لا يختاروها هم ، وإنما تختار هي نفسها بنفسها رغماً عنهم. مهما يكن من أمر فإن انفجار اللحظة الإبداعية قد يجيء بعد مرور الكاتب بأزمة، أو مباشرة بعد الصحو والخروج من الحلم : أي في حالات التنويم المغناطيسي تقريباً، والهلوسة، أو أحلام اليقظة.
ولكن هذه الحالات الإبداعية نادرة، ولذلك يحاول بعض الكتاب إثارتها في أنفسهم عن طريق تناول المخدرات أو شرب الكحول.. نضرب عليهم مثلاً نيتشه أو بودلير أو سارتر في عصونا الحاضر. فقد عرف عنهم تناول هذه"المنبهات" من أجل إيقاظ وعيهم الإبداعي وتحريكه. ولكن العملية خطرة وقد تؤدي إلى نتائج مزعجة. ولذلك يمكن القول بأن أفضل اللحظات الإبداعية هي تلك التي تجيء بشكل طبيعي لا مصطنع. وهي لحظات قصيرة وخارقة، ولكن تأثيرها يتجاوز الدهور، يكفي أن نفكر هنا ببعض هذه اللحظات الاستثنائية التي غيرت وجه التاريخ: ليلة 10 نوفمبر 1619، حيث نزل الإلهام على ديكارت وتوصل إلى الحقيقة. ثم يوم 13مايو 1797، أي قبل ما يزيد على 200 سنة حيث نزل الإلهام على الشاعر الألماني الكبير نوفاليس. ثم صيف 1831 حيث يشهد جوته فترة الهام مكثفة.. ولكن انفجار هذه اللحظات العبقرية في وعي أصحابها لا يمر عادة بسلام. وإنما يدفع ثمنه غالياً أحياناً . صحيح أنه يحرر الشخصية من عقدها وأوجاعها، صحيح أنه يحلق بها في الأعالي، أو أعلى الأعالي ولكنه يسقط إلى الحضيض بعدئذ. ثم تظل دائماً متأثرة به، حتى لكأنها تئن تحت وطأته. فليس كل الناس يستطيعون تحمل الإلهام، خصوصاً إذا ما كان منفجراً كالحمم من أفواه البراكين، وخصوصاً إذا ما نزل كالصاعقة. ولكن عدد الأشخاص الذين يشهدون مثل هذه اللحظات الاستثنائية قليل في التاريخ. لنتوقف هنا قليلا عند لحظة ديكارت من أجل تشريحها من الداخل ومحاولة فهم أبعادها. من المعروف أن الفيلسوف الفرنسي كان في بداية شبابه شخصاً ضائعاً لا يعرف ماذا يفعل بحياته. كان مغامراً يذهب من بلد أوروبي إلى آخر لكي يطلع على"كتاب العالم" كما يحب أن يقول: أي لكي يقرأ العالم ويطلع عليه كما تقلب صفحات كتاب، وقد انخرط في جيش أحد الأمراء في هولندا. وعندما اختلى بنفسه في غرفته في المعسكر جاءته الأحلام الثلاثة المرعبة التي هزته هزاً وكادت تودي به (4). ولكن العناية الإلهية شاءت أن تكون هداية له نحو الحقيقة التي يبحث عنها دون علم منه. لقد كانت ليلة ميلاد تلك التي عاشها ديكارت في العاشر من نوفمبر، ولولا حلم الله وعفوه لقضت عليه. وهكذا ولدت فلسفة ديكارت بعد مخاض شديد البأس. ونتجت عن تلك الليلة المنهجية العقلانية التي حكمت كل أوروبا طيلة ثلاثة قرون (أي حتى اليوم بشكل من الأشكال. أنظر المنهجية الديكارتية. أو العقلانية الديكارتية ).
وأما نوفاليس فقصته مختلفة. فقد شهد لحظة الإلهام الشعري في 13 مايو 1797، وشعر بفرح لا يوصف وحماسة خاطفة دامت عدة ثوان فقط. ولكنها أضاءته من الداخل بشكل لم يسبق له مثيل. وابتدأ عندئذ يكتب أشعاره الخالدة. هكذا نجد أن الإلهام جاء بعد لحظة غير طبيعية، لحظة تفوق كل اللحظات. ومن يعشها أو يذق طعمها لا يعود ينساها. والواقع أن هذه اللحظة جاءت بعد فاجعة حقيقية أصابته. فقد ماتت خطيبته وحبيبة عمره "صوفي" بمرض السل وعمرها لا يتجاوز الخمسة عشر ربيعاً. ثم مات أخوه بعدها مباشرة. وقد اعتملت الأشياء في داخله واختلجت وتفاعلت حتى انفجرت أخيراً في لحظة إلهام مدوية . يقول نوفاليس في تفجعه على حبيبته التي ماتت في عمر الزهور"رحت أنحني" وأبدد القبر وتراب القبر في نفسي. وأصبحت السنين ثواني وشعرت بحضورها، كدت ألمسها، شعرت بأن القبر سوف ينشق عنها فتخرج منه حية معافاة كما كانت، كما كنت أعرفها.."(5)، وقد كتب كل أعماله الشعرية في الأعوام الثلاثة التي تلت تلك اللحظة لحظة انفجار الإلهام والعبقرية في داخله. وما لبث أن مات هو أيضاً بمرض السل عام 1801 وعمره لا يتجاوز الثلاثين عاماً.
وأما عن جوته فحدث ولا حرج. فهذا الرجل الذي يعتبر مفخرة ألمانيا كلها لم يعش قرير العين. ولم يخل من الأزمات والهزات النفسية المؤلمة على عكس ما نتوهم. هو أيضا دفع ثمن إبداعه، أو ثمن عبقريته، باهظاً. وقد واتته الجرأة لكي يعترف في بعض اللحظات بأنه مريض نفسياً ، وبأنه يعاني معاناة هائلة لا يعرف كنهها ولا سببها. ولذلك استنتج أن هناك علاقة بين العبقرية وبين المرض النفسي أو العقد النفسية التي تصيب الشخصية. وربما لولا هذه العقد ومحاولة التغلب عليها لما كان الإبداع. فالشخصية المريضة لا تستطيع أن تتوازن إلا من خلال الإبداع. فالتناقض بين المبدع والعالم يكون حادا جداً إلى درجة أنه ينكد عيش الفنان ولا يدعه يستمتع بالحياة إلا في لحظات قليلة. ولذا يمكن أن نقول في ختام هذه الدراسة ينبغي ألا نحسد العباقرة كثيراً على شهرتهم، ففي بعض اللحظات يتمنون لو أنهم لم يولدوا.
تحدثنا عن العبقريات السريعة التي تلمع فجأة ثم تنطفىء كعبقرية رامبو مثلاً. لكن هناك عبقريات من نوع آخر، عبقريات بطيئة تتطلب وقتاً طويلاً وصبراً قبل أن تنضج وتتفتح. والواقع أن معظم العباقرة يتميزون بهذه الخاصية: الرغبة الكبيرة في الصبر والمثابرة عل نفس الخط لفترة طويلة من الزمن. إنهم لا ييأسون بسهولة ولا يتراجعون عن الهدف الذي وضعوه نصب أعينهم. يقول ألفريد دوموسيه بهذا الصدد ما يلي: لا توجد عبقرية حقيقية بدون صبر. وبالتالي فإن العبقرية لاتتشكل بين عشية وضحاها، وإنما هي خاتمة لمسار طويل عريض.
ويرى بودلير أن الإلهام لا ينزل علينا فجأة من السماء وإنما هو بالأحرى نتيجة للتدريب اليومي المستمر والمتواصل والدؤوب. نقول ذلك ونحن نعلم مدى القلق الذي يشعر به الكاتب أمام الصفحة البيضاء فهو لايستطيع أن يملأها إلا بشق الأنفس، وأحياناً لا يستطيع أن يكتب جملة واحدة. وقد عرف أحد الكتاب الانجليز العبقرية قائلاً بأنها نتيجة التعب والجهد بنسبة 99% ونتيجة الإلهام بنسبة 1% فقط ! وهذا دليل على أن الجهد هو الأساس، وأما ما تبقى فيجيء بعد بذل الجهد لا قبله. مهما يكن من أمر يبدو أن العناد هو أحدى الصفات الأساسية التي يتميز بها العباقرة. فالناس العاديون سرعان ما يملون بعد فترة من الزمن إذا لم يصلوا إلى نتيجة. وأما العباقرة فيظلون مصرين على نفس الخط رغم كل الخيبات والعقبات حتى يصلوا إلى نتيجة في نهاية المطاف.
وطالما تحدث الناس عن أسطورة بلزاك وقدرته الرهيبة على العمل خصوصاً ليلاً. فقد كان يغلق النوافذ عليه بدءاً من الساعة العاشرة مساء ثم يحضر "طنجرة" كاملة من القهوة ويبتديء الكتابة حتى الصباح دون توقف.
وهكذا كان يشتغل خمس عشرة ساعة يومياً، بعد أن يبتلع عشرات الفناجين من القهوة. ولولا ذلك لما استطاع كتابة كل هذا الإنتاج الضخم المتمثل بالكوميديا البشرية، وهو لم يعش أكثر من خمسين عاماً ! نعم إن العبقرية بحاجة إلى جهد جهيد، ولا تنزل علينا كهدية من السماء. يقول بلزاك في إحدى رسائله إلى حبيبة عمره مدام فانسكا: إن حياتي تتلخص بخمس عشرة ساعة من العمل، وبالمحن والعذاب، وهموم المؤلف، وصقل العبارات وتصحيحها(6).
ولكن هذا التدريب اليومي المستمر والدؤوب لا يفسر لنا وحده سبب العبقرية. فهناك دارسون أكاديميون يشتغلون ساعات وساعات يومياً دون أن يتوصلوا إلى أكثر من مرتبة دارس جيد أو جامع مفيد للمعلومات، وإذاً فهناك سبب آخر للعبقرية غير الجهد والتعب: إنه الموهبة أو شرارة الإبداع. فهناك كتاب يمتلكونها، وآخرون لا يمتلكونها. ولذلك نسمعهم يقولون: هذا الكاتب موهوب،وهذا الكاتب عنده شيء، الخ... إذاً فالعبقرية هي نتاج الموهبة والجهد في آن معاً، وقد لا يكون حظ الموهبة فقط 1% كما قال الكاتب الانجليزي، وإنما 50% .
إن فلوبير يجسد في مجال الأدب، المثال الأعلى للمثابرة والمواظبة وبذل الجهد والتعب،. وكان يجلس وراء طاولته من عشر إلى اثنتي عشرة ساعة يومياً لكي يستطيع أن يكتب رواية واحدد كل أربع أو خمس سنوات. ولذلك لم يكتب كثيراً: خمس أو ست روايات طيلة حياته كلها ما عدا "مدام بوفاري" رائعته الخالدة. إنه يشبه المقلين في الشعر العربي القديم الذين اشتهروا بقصيدة واحدة أو عدة قصائد فقط. إنه يشبه عبيد الشعر الذين لا ينفكون يصقلونه ويعيدون النظر فيه أياما وشهوراً وربما سنوات. وطالما تحدث فلوبير عن عذاب الكتابة وكيف أنه يفني الساعات الطويلة. وأحياناً بضعة أيام، لكي يجد الجملة المناسبة أو حتى الكلمة المناسبة. وكم يلعن نفسه أثناء ذلك ويلعن الكتابة والأدب وكل شيء... وأذكر أني عندما زرت بيته الواقع في ضواحي مدينة"روان" على شواطىء نهر السين قبل بضع سنوات فوجئت بمدى التشطيب الذي كان يمارسه على كل صفحة يكتبها. فلا تكاد تقرأ فيها شيئاً واضحاً من كثرة الحذف والتشطيب والإضافة والتصحيح أو التعديل، الخ.. وقد تحول منزله إلى متحف يزوره الزائر متى يشاء كي يستمتع بالجو الذي كان يعيشه صاحب"مدام بوفاري" في القرن التاسع عشر. وعندئذ تستطيع أن تملأ عينيك بجمال الغابة المحيطة أو أن تراقب من النافذة مرور المراكب والسفن كما كان يراقبها فلوبير نفسه قبل قرن وهو جالس وراء مكتبه يسطر"مدام بوفاري"..

مـا أجـمـل أن يـبـكـي الإنـسـان والـبـسـمـة عـلـى شـفـتـيـه وأن يـضـحـك
والـدمـعـه فـي عـيـنـيـه
فـي لـحـظـة تـشـعُـر أنـك شـخـصٌ فـي هـذا الـعـالـم بـيـنـمـا يـوجـد
شـخـص فـي الـعـالـم يـشـعُـر أنـك الـعـالـم بـأسـره
اهواك بلا امل...
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.06414 seconds with 11 queries