عرض مشاركة واحدة
قديم 16/03/2009   #4
شب و شيخ الشباب مـــــداد
شبه عضو
-- اخ حرٍك --
 
الصورة الرمزية لـ مـــــداد
مـــــداد is offline
 
نورنا ب:
Sep 2007
المطرح:
القاووش التحتاني..
مشاركات:
59

إرسال خطاب MSN إلى مـــــداد
افتراضي وزهرٌ أينع في يبوس..





رويداً رويداً.. يختنق الليل ببحّة المرتعش الصوت لينبلج ضياء الصباح الذي يسافر عبر اتكاء الحنايا ناشراً في ثنايا البيت ضوءاً يفضح العوز على وجنات ذات الإحدى عشر خريفاً.. ينحشر الهواء ضيقاً ولا يعود الصبح يتنفّس.. ينحسر المدى ويغادر الفرح كسيراً على نصل الحلم..

تستيقظ الصغيرة المتدثّرة بوسائد الحلم على أضرحة تعفّن فيها الصمت وتحوّل الكلام إلى سعالٍ يستوطن أطراف فراش والدتها العجوز.. تلملم بقاياها وتلفّ وشاح الجراح البالي على والدتها، تودّعها الأخيرة بحشرجة غصّة تقتات هواجساً جائعة من جسدها النحيل.. وتشيّعها بدموعٍ محتضرة.. تشتم في قرارة نفسها لعنة النهار بكلماتٍ كسيحة..

تنتعل الصغيرة أحذية أيامها البائسة وتلتحف معطف العوز.. وتنطلق.. ينحدر الطريق بقسوة.. طفولة الخطوات تفضح رتق الثياب، يتشقّق جيبها بدراهم البعثرة، تتعثر بأصوات الجراح التي تصدح في رأسها الصغير.. تلعق الوحل إنهاكاً، تتحامل على نفسها متكأةً على برد الرصيف لتزاول البقاء لثماً للأراض التي عانقت الأحذية.. ثم تقف لتستمرّ في السير.. (مصابيح الشارع تبدو هزيلة هذا اليوم ربما يوهنها الشتاء هي الأخرى) تتحدث إلى نفسها ببراءة..

في زاوية الزقاق القديم تفترش صقيع الأرض ثم ترتب قليل بضاعتها. تفيض الوجوه.. والأماكن.. بالغيّاب.. وتراب الطريق يشاكس الخطى المعدومة للظلال التي حجبها زحام النهار المتخم بالبرد.. تهب نسمة شتائية قارسة أخرى فوق الوجه البارد.. ترتعش ثنايا الفتاة المتدثّرة ببردها.. وترسم الريح على مفرق الملامح حزناً باهتاً..

الرصيف باردٌ جداً.. وما زال الشارع ندياً من مطر البارحة، واليوم عطلة.. المارة قلائل.. لكن الصغيرة تستمرُّ في مراقبة الشارع وأشجار الكستناء المقابلة.. (ستزهر أشجار الكستناء هذا الشهر، سأراقبها.. سأرسمها.. ستبدو جميلة) تداعب نفسها بهذه الكلمات هاربةً من جحيم البرد.

- هل لي بهذه الكعكة أيتها الجميلة.

ذا الصوت الخشن اقترب منها وهو يلتقط الكعكة الصغيرة ويدسّ في يدها الدراهم..

- سيدي.. دفعت أكثر مما يتوجب عليك..!!

- لا بأس صغيرتي.. اشتري بالباقي قلماً ودواة..

انفرجت أسارير الصغيرة مع ارتفاع شمس الظهيرة وقتها.. أحست بنسيم لطيف هبّ من بين الأزقة العتيقة.. وفي يدها أحسّت بالقلم، تسلّل شيء من ذلك القلم إلى راحة يدها، شيء عذب مثل أول نسمة تهبّ من قبل البحر.. شيء هادئ جداً ودافئ.. كورقة تسقط حين لا ريح تهب..

توقف الزمن.. افترشت الأرض من جديد.. أخرجت من جرابها كرّاسها الصغير.. الريح هي الأخرى بدأت تعبث برتقٍ في ردائها الممزق.. تبتسم وهي تشعر بدغدغة الريح لجسدها.. تحتضن كرّاسها بكلّ لهفة، تستند على ركبتها الصغيرة، ثم تبدأ بواجبها المدرسيّ..

وكأني بها تحمل حلماً بكفيها تخشى اندلاقه.. حلمٌ ينسدل بفتنة من ضفاف الأوراق متشبثاً بأطرافٍ ملكوتية.. حلم برائحة المطر العابقة صباح هذا اليوم.. يتساقط كالندى على وجنات ذلك المخلوق القادم من عالم الطهرانية.. ذلك المخلوق الهارب من أسواط القهر من ثقب الفجيعة.. إلى عالمٍ آخر تسطر ملامحه بنفسها.. عالم أكثر إشراقاً ومستقبل لا يعبث بالأنقياء مثلها.. هي شجاعة فرغم تعاستها لا تعبئ بكل ما يستوطنها من مدن الحزن والسواد.. تطأ بأطراف أقدامها كل أزقة الألم سعياً لفسحة أمل لتكتب حكاية أخرى مختلفة. حكاية لا تنام فيها أحلام الصغار على الرصيف، ولا يبحر أمثالها في مدن الحزن. حكاية لا يرفرف عليها الألم بأجنحة من قش. حكاية لا يلفظ فيها الفقراء إلى منافي الوحشة، ولا يفترش الصغار أحلامهم البريئة.. حكاية تكتب بأهازيج من ماء.. وأعراس من فرح..

تبقى الصغيرة إلى ما قبل الغروب بقليل.. يبدأ المطر بالهطول من جديد.. تلملم نفسها وتشق طريق العودة فرحة.. تتلو تعاويذ المطر، ويبحث الحلم عن مستقرٍّ في قلبها.. تغنّي طوال الطريق للأمنيات التي لا تموت..
تقف أمام باب الدار وتتمتم بابتسامة: (ما زال هناك متسع وقتٍ للحُلم)..!!!

زُرني هــنــــــــــــا
http://NJ180degree.com
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.02872 seconds with 11 queries