عرض مشاركة واحدة
قديم 24/02/2008   #24
صبيّة و ست الصبايا فدوى يومة
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ فدوى يومة
فدوى يومة is offline
 
نورنا ب:
Feb 2008
المطرح:
مدينتي الملائكية "طنجة"
مشاركات:
119

افتراضي


لم يتبق في حياة دوستويفسكي سوى خمس دقائق ! فها هي ثلاثة أعمدة خشبية منصوبة في الساحة. وها هو صف من الجنود ببنادقهم مستعدين لإطلاق الرصاص. قبل ثوانٍ فقط لم يكن يعلم أنه مساق إلى الموت، إنما في يوم الثاني والعشرين من ديسمبر/كانون الأول 1849 استيقظ مع رفاقه، المساجين المتهمين بالانضمام إلى جمعية “بتراشيفسكي” الثورية، على وقع أقدام وقعقعة سلاح وأصوات مزمجرة آمرة: “على كل المساجين ارتداء ملابسهم بسرعة”. تم حشرهم في عربات، وأحاطت بالموكب فرقة من خيالة الدرك.. ودوى صوت آمر فانطلق الجميع. وبعد حوالي ساعة توقف المسير، وفتحت العربات أبوابها، فإذ بهم في ساحة سيمونوفسكي الفسيحة! بدا لدوستوفسكي أحد الكهنة بثوبه الأسود.. وقف في مقدمة الركب كغراب شؤم، وخطى فتبعه المساجين إلى قدرهم المجهول!
تساءل أحد السجناء: ترى ماذا سيفعلون بنا؟
أجابه أحدهم: إنهم سيقرأون علينا قرار الحكم، أي الأشغال الشاقة للجميع!
- ولكن لماذا هذه الأعمدة الخشبية المثبتة في الساحة؟!
- سنربط عليها - ثم تمتم - وربما أعدمونا بالرصاص
دوى صوت صائحا: “استعداد”! وتقدم المحضر بأوراق أخد يقرأ ما سُطر فيها من أحكام، مُعَددًا جرائم كل سجين ثم مختتما بإصدار الحكم. بصوت جاف رتيب لا أثر فيه لأي إحساس. نطق أسماء العشرين سجينا مع عشرين حكما بالإعدام!!
عندما سمع دوستويفسكي اسمه مقرونا بالحكم انتفض فجأة وكأنه استيقظ لتوه من حلم! وصاح قائلا لرفاقه: “لا يمكن أن يطلقوا علينا النار”! لكن هاهم الجلادون يربطون السجناء الثلاثة الأوائل بالأعمدة الخشبية.. وها هو الأمر يصدر فتخرج ثلاثة مفارز من الجنود، ليقفوا قبالة المساجين المرتجفين بالبرد والخوف! أغمض دوستويفسكي عينيه.. حانت لحظة الموت إذن! إنه السادس في الترتيب، بمعنى أنه سيربط في الدفعة التالية مع اثنين من رفاقه على ذات الأعمدة!
احتسب الوقت بسرعة.. لم يتبق في حياته سوى خمس دقائق! لقد قفز الفلاسفة والشعراء بأفهامهم ومخيلاتهم إلى ما وراء الطبيعة، أما هو فسيقفز بعد حين بكيانه كله إلى الماوراء! لم يسبق له أن كان قريبا جدا من جدار الميتافيزيقا قربه اليوم!
لم يتبق سوى خمس دقائق! فماذا بإمكانه أن يفعل بها؟ لا يجب أن تضيع! إنها أثمن ما يمتلكه الآن! لذا قبل أن يبتلعه الموت فكر في تقسيم ما يملك من آنات الزمان! فوزعها إلى ثلاث: دقيقتان لتوديع أصدقائه، ودقيقتان ليجيب على سؤال معنى الحياة، والدقيقة الأخيرة لينظر ويتملى في العالم قبل أن يغادره!
دوت الطلقات! فذهل مما حدث.. لم يسقط رفاقه الثلاثة، بل لا زالوا مشدودين إلى الأعمدة الخشبية.. لقد كانت الطلقات مصوبة إلى الأعلى فطاشت في الفضاء.. ثم تقدم المحضر الذي قرأ حكم الإعدام قبل قليل، ليقرأ حكما جديدا: “حَكَمَ جلالة القيصر بالعفو عنكم وتحويل عقوبة الإعدام إلى السجن مع الأشغال الشاقة”!
أن يقف المرء على حافة الميتافيزيقا، هي بلا شك لحظة مثقلة بالاستيهام الروحي والفلسفي .. لكن تُرى فيم يفكر ذاك الذي يخطو نحو الموت؟ يستحضر لنا دوستويفسكي هذا الشعور الأليم الذي عاشه، مفصحا عن السؤال الذي هجس بداخله “ما معنى الحياة؟”! أليس غريبا أن يستفهم الإنسان عند مغادرة الحياة عن معناها وكيف ينبغي عيشها؟ لماذا ينبجس سؤال الحياة هكذا بقوة عند لحظة فراقها؟! موت/حياة.. ثنائية غير قابلة للتجزيء على مستوى الوجود. يقول سبينوزا “إن التفكير في الموت هو تفكير في الحياة أيضا”.
لكن هل ثمة قيمة للتفكير في الموت؟ تحرص الأديان، وكذا الفلسفات في عمومها، على أن تدفع بالكائن الإنساني إلى أن يفكر في الموت، وتحفزه إلى أن يرنو بنظره إلى الماواراء.. ويذهب أفلاطون إلى تعريف حياة الحكيم بكونها “تأمل الموت”! كأنه يؤكد أن حياتنا لا تمتلئ وتغتني إلا بمقدار استذكارنا للحظة انطفائها! وهذا الاقتران بين التماع الحكمة وتأمل الموت هو ما نجد شوبنهور يحرص على التوكيد عليه عندما يرجع أصل التفلسف ومبتدأه إلى وجودية الموت. فهل أقول مع شوبنهور “إن الموت يعلمنا التفلسف”؟، أم سأقول بقول الشكاك الفرنسي مونتين “أن نتفلسف هو أن نتعلم كيف نموت”؟
لا تنافي بين القولين .. فالموت في تقديري مكمن الأسئلة الوجودية الحافزة للتفكير ..لأن يقين الكائن البشري بفنائه هو ما يدفعه إلى التفكير في ماهية وجوده ومآل صيرورته.

لك لمجهودك



سوف أعلمك التحليق بشرط أن تعلمني كيف تنمو لذي أجنحة
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.05806 seconds with 11 queries