عرض مشاركة واحدة
قديم 21/12/2008   #5
شب و شيخ الشباب self directive
شبه عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ self directive
self directive is offline
 
نورنا ب:
Dec 2008
المطرح:
دبي
مشاركات:
81

افتراضي تزييف التاريخ (5) - أهواء المؤرخين


أهواء المؤرّخين

ينطلق المؤرخين من مقدّمات واحدة و لكنّهم يصلون إلى غاياتٍ مختلة , و كلٌّ منهم يفترض أن الغاية التي بلغها هي الصحيحة المنشودة. فالإقتناع يمكن نعتبره نتيجة يعتقد صاحبها أنّها صحيحة عن إحساسٍ شخصيّ , إمّا لأسباب عاطفيّة أو ذهنيّة , قد يضمرها أو يعلنها , ممّا يجعل كلّ اختصام حالة قائمة بذاتها , تتوقّف على طبيعة الموقف و التفسير أو التأويل أو السياسة التي تكمن وراء القضيّة. و هذا على خلاف ما في المسائل الرياضيّة , فلا يمكن أن يكون هناك اختصام في النتيجة لأنّ المقدّمات محدّّّّدة , و قواعد الإستدلال ثابتة , فيكون الجواب محتوماً. و لهذا لا يقوم خلاف بشأن المسائل الرياضيّة. فالفرق بين الأمرين هو مسألة تحديد عناصر القضيّة المختلف عليها , فهي لا توضع في الغالب وضعاً محدّداً دقيقاً , كمثل أن يقوم فريقين بقياس ارتفاع قمّة جبل بأجهزة المساحة , فقد يحدث بينهما اتّفاقٌ كامل , أو يقع بينهما اختلافٌ هيّن . أمّا إذا كان الإختلاف كبيراً في النتيجتين , فيكون أحد الفريقين قد أخطأ في الملاحظة أو الحساب , و متى صُحّح الخطأ عاد الإتّفاق بينهما. ذلك أن مسألة القياس هذه خارجة عن نطاق الإختصام , لأنّها تقاس بوسائل متّفق عليها , فنحن هنا لسنا بصدد نظريّة أو تأويل , بل بصدد واقع لا خلاف عليه. و لو أنّ جميع ما يتعلّق بالإهتمام البشريّ كان من هذا القبيل , لاختفت الخصومات و أصبحت أنواع الإقتناع واحدة , لحصول الإقتناع دائماً على أشياء واحدة.

إنّ اختلاف المقاصد و العقبات التي تحول دون توافقها و تجانسها من أهمّ موانع الإتّفاق على نتائج واحدة . و الحقيقة أنّ الإختلاف في تأويل عناصر القضيّة الفكريّة أخطر بكثير من الإختلاف على العناصر نفسها . فقد يتّفق الناس على العناصر من حيث هي , و لكن تأويلهم لكلّ منها هو سبب الإختلاف الذي لا يرجى معه اتّفاق. فالتأويل هو الذي يدخل العنصر الذاتيّ في القضيّة . لأنّ لكلٍّ من المتخاصمين هدفه الخاص من القضيّة و مقصده الشخصيّ . فليس الهدف بين المتخاصمين على الدوام واضحاً مثل قياس ارتفاع جبل . و ليست أدوات الحكم دائماً ممّا يركن إليه كأجهزة المساحة.

إنّ التحليل و التركيب يتمّ بهما تجزئة المواقف أو المفهومات , ثمّ إعادة إنشائها في صيغة جديدة , و هذا ما يتمثّل في الإتجاه العلمي في التاريخ , حيث يقوم المؤرّخ بباستخدام أدوات التفكير و يستعين بالملاحظة و الذاكرة و المخيّلة , و في هذه العمليّات جميعاً لا بدّ من خيوطٍ رابطة , يسمّيها علماء النفس عمليّة التداعي أو الترابط. و لا توجد قواعد ثابتة للتداعي السديد , الذي نقوم بالإستناد على نتائجه بالحكم على المعطيات .

و الحكم هوعبارة عن تمييز تضاف له قيمة معنويّة , مثل الصواب و الخطأ , و الجودة و الخسّة .و لكن كثيراً ما يقوم النّاس بالحكم بأحكامٍ متباينةٍ على ذات الأشياء , و هذا مرجعه الدوافع التي توجّهنا لإطلاق الأحكام انطلاقاً من ذواتنا , و ليس ارتكازاً على ماهيّة الشيء أو الموقف أو الفعل الذي نقوم بالحكم عليه . الأفعال الإنسانيّة علّتها ليس في نفسها بل لها دوافع . و هذه الكلمة الغامضة تدلّ في وقتٍ واحد على الحافز الذي يحفّز على إنجاز فعل و على الإمتثال الواعي الذي لدينا عن الفعل في لحظة إنجازه . و لا نستطيع أن نتخيّل دوافع إلاّ في ذهن إنسان على شكل امتثالات ٍ باطنة غامضة , مماثلة لتلك التي لدينا عن أحوالنا الداخليّة الخاصّة , و لا نستطيع أن نعبّر عنها إلاّ بكلمات , في العادة مجازيّة .
و تلك هي الوقائع النفسيّة التي تٌسمّى باللغة العامّة : العواطف و الأفكار.

و في الوثائق نستشفّ ثلاثة أنواع من الدوافع:
(1) دوافع و تصوّرات المؤلّفين الذين عبّروا عنها
(2) الدوافع و الأفكار التي نسبها المؤلّفون إلى معاصريهم الذين عاينوا أفعالهم
(3) دوافع يمكن أن نفترضها لأفعالٍ واردة في الوثائق و نتمثلها نحن لأنفسنا على غرار أفعالنا.

في القضايا التاريخيّة كثيراً ما نصل إلى نتائج غير دقيقة إمّا عن إهمال أو قصور في كفايتنا الفكريّة .

و عين الحبّ عن الأخطاء عمياء بالمزايا و المحاسن حديدة البصر . أمّا عين السخط و الكراهيّة فعمياء عن المحاسن , حديدةٌ في الكشف عن العيوب و المثالب. و نحن حريّون أن نعزو صفاتٍ و مزايا مستحبّة إلى ذوات الجمال و ربّات الحسن , و هنّ عاطلاتٌ من ذلك . و من العسير علينا أيضاً أن نتبيّن مزايا حقيقيّة موجودة فعلاً في ذوات القبح.

فالعلاقات الإنسانيّة عاطفيّة إلى درجة كبيرة . و لهذا تكون الأحكام الخاصّة بهذه العلاقات ميداناً خصيباً بنشاط الأهواءو لكن مرادنا أن نعامل المشكلات العامّة بأسلوبٍ عقليّ منزّه عن الأهواء , و ما يحدث عادةُ على الرغم من صدق نيّتنا في العدل أنّّنا نمزج المنطق بالهوى أو المعتقدات السابقة التي تٌسمّى بالسبقيّات . و في النهاية نجد سنداً سليماً بعض الشيء لنتائج أحكامنا , يسانده خليطٌ متباينٌ من الميول العاطفيّة التي تجنح بنا إلى القبول بتلك النتائج.

إنّ من أسباب الهوى في التفكير التاريخيّ أننا نفكّر جميعاً , على حسب ما يتراءى لنا , و الأهواء تتشرّب بها عقولنا . كما نتشرّب بالمعتقدات العامّة عن طريق الإيحاء و التقليد لمن نجعلهم قدوة لنا في سلوكنا و اعتقاداتنا ,و بتأثير الآراء و العواطف التي نتعرّض لها . فتفكيرنا متأثّر بصورة معقّدة و خفيّة بمشاعرنا الشخصيّة و الإجتماعيّة . و الآراء و العواطف تنتقل بالعدوى . و الهوى يسري بسهولة و من العسير اقتلاعه ما دامت العواطف غالبة على العقل كما هي الحال غالباُ.

ما أردنا قوله في هذا الفصل أنّ الأهواء - فيما يخصّ كتابة التاريخ - إذا ما تلاشت في فترة من الفترات لا تلبث أن تنشأ في مكانها أهواءٌ جديدة . فنحن أفراداُ و جماعاتٍ , معرّضون للهوى , بتأثير عواطفنا . و هذا الهوى تختلف درجة شدّته و تشويهه لعدالتنا و موضوعيّة نظرتنا إلى الأمور. و قد يصل تأثيره إلى حدّ المرض لدى المصابين بالبرانويا و ما إلى ذلك من الأمراض العقليّة التي يتصوّر امصابون بها أنّ الواقع مشكّل على غرار أوهامهم و تصوّراتهم.

و مع ذلك فالإصابات الخفيفة بهذا الشأن مألوفة لدى المؤرّخين بل حتّى بين رجال العلم حين يتعصّبون لفروضهم و نظريّاتهم مدفوعين برغباتهم و تصوّ!راتهم على حساب الموضوعيّة فيبيتون أقلّ موضوعيّة ممّا يبدون في الظاهر.

إن معظم المؤرّخين حين يقعوا في هذا الخطأ يكونوا مخدوعين . إذ يبدأون نسيج الحقيقة بلحمة من الواقع و سداةٍ منه . و لكن بينما هم يمدّون الخيوط في عمليّة النسيج يتدخّل خيطٌ من رغباتهم أو ذاتيّتهم من حيث لا يدرون. فإذا بالنسيج يأخذ اتجاهاً و لوناً خاصّاً يميل لإعتقادهم الشخصيّ , لا للموضوعيّة الخالصة .فالمؤرّخ الذي يستخدم خياله في تأويل الوقائع و إتمامها , يهديه إيمانه أكثر ممّا يهديه حبّ استطلاعه , و خياله في تأويل الوقائع ليس محايداً , فغرضه ليس تحقيق الفروض تحقيقاً نزيهاً بل غرضه إثباتها جهد الإثبات.

و قد دفع أمر انزلاق المؤرّخين كما غيرهم من الأناس و العقول العاديّة , الدكتور (ديفيد جوردان) إلى تسجيل اتجاهات هذا النوع من التفكير الذي يصدر عن عقولٍ ذات مخيّلة خصبة و منطق محدود , و أطلق على ذلك التفكير اسم (البلاهة العُليا أو الراقية) .

__________________________________________________ ______

المراجع:
نحن و التاريخ - د . قسطنطين زريق
النقد التاريخي - عبد الرحمن بدوي
التفكير السديد - جوزيف جاسترو - تعريب نظمي لوقا
فلسفة التاريخ - جون إيلون بودين - ترجمة عمر ديراوي

أحسن خمس شغلات بهلدنيا, هي تلات شغلات, الحب و الحرب!... و بعضهم يفضّلون مجبرين, الأكل و النوم.. بقى إنتيه و حظّ الدي إن إيه اللي اسلقّيتو عن اللي خلّفك
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.03556 seconds with 11 queries