عرض مشاركة واحدة
قديم 27/01/2008   #8
شب و شيخ الشباب فاوست
عضو
-- قبضاي --
 
الصورة الرمزية لـ فاوست
فاوست is offline
 
نورنا ب:
Jul 2006
المطرح:
في وطني السليب
مشاركات:
655

افتراضي نجمة أخرى تصعد إلى السماء


نجمة أخرى تصعد إلى السماء
بقلم: طلال عوكل

بصمت أراده ولا يستحقه رحل القائد الفلسطيني التاريخي الكبير الدكتور جورج حبش "الحكيم"، رحل في زمان ليس زمانه، وظروف يعيشها الشعب الفلسطيني لا تشبه من قريب او بعيد الظروف التي تمناها الحكيم لشعبه وقضيته، رحل الحكيم صاحب الرؤية الواضحة والشخصية الكاريزمية بعد أن ذرف الدموع مراراً على عذابات شعبه، وعلى الشهداء والأسرى، رحل الحكيم بعد أن شرب حسرة عشرات القادة والكوادر الكبار الذين عايشهم وحاورهم، واتفق واختلف معهم، ومنهم من رافقوه رحلة التأسيس ثم تابعوا معه، او افترقوا عنه.
رحل حبش عن عمر يزيد قليلاً على ثمانين عاماً، استحق خلالها أعلى أوسمة الشرف والفخار، فهو الطالب الذي كان شاهداً راعياً على مأساة الشعب الفلسطيني خلال سنوات الانتداب والصراع مع العصابات الصهيونية لتشكل له مخزوناً هائلاً من التصميم على القتال والنضال لتحرير أرض وطنه. لم يكن والده ثورياً فلسطينياً، ولكنه كان كما كل الفلسطينيين الذين سيموا العذاب، وأورثوا الثورة لأبنائهم، ليبدأ طالب الطب في الجامعة الاميركية ببيروت اولى خطواته نحو تأسيس المجموعات الثورية، ولاحقاً حركة القوميين العرب، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي انبثقت من رحمها، يصعب الحديث عن القادة الكبار، ويكون من الصعب اكثر ان تكتب عمن تعرفهم من هؤلاء الذين صاغوا مسار الثورة الفلسطينية المعاصرة، التي حققت الكثير من الإنجازات التاريخية المهمة، حتى وإن لم تصل الى الاهداف الكبيرة التي عملوا بجد واجتهاد على تحقيقها.
رحل جورج حبش بعد أن أورث أفكاره، ومبادئه، ومؤيديه، منظومة من القيم الثورية، والأخلاقيات السامية، التي لا يزال يفخر الناس بها.
رحل صاحب الوجه الملائكي، الرجل الذي إن استمعت اليه عن بعد او سمعت عنه تصورت انك أمام انسان صارم، حازم، عنيد لا يتزحزح عن افكاره وآرائه، ولكن ما أن تقترب منه او تتحدث اليه حتى تجد نفسك أمام انسان على قدر مدهش من التواضع، والأدب، والاخلاق، وحسن المظهر، والحساسية المفرطة ازاء مشاعر الآخرين. لقد كان جورج حبش رقيقاً بقدر صلابته السياسية، وقناعته بما يتبنى من أفكار وما يفعل. انه باختصار انسان آسر، يعجبك أن تستمع اليه اكثر مما أن تتحدث اليه، فأنت في كل لحظة تتعلم منه الكثير.
لقد ترك حبش الكثير من الفضائل التي كانت جزءاً من شخصيته وقناعاته، فهو الذي كان يرغب اشد الرغبة في الاستماع الى ملاحظات رفاقه وزملائه ومجالسيه، فلقد كان واثقاً من ان الحقيقة لا يمكن ان تكون احادية الجانب او ملكاً لشخص مهما بلغ شأنه.
كان حبش مستعداً للتعلم والتغير، وهو صاحب الذاكرة الوقادة والفكر المتميز، فلقد تحول من طبيب ناجح الى بناء المجموعات الثورية، لكنه حين اقتنع بالعمل الجماهيري المنظم وبالمفكر القومي، تحول لبناء حركة القوميين العرب التي حظيت بشعبية عربية وفلسطينية واسعة. وما أن أدرك بعد هزيمة حزيران، ان الفكر القومي الذي تبناه لأكثر من خمسة عشر عاماً، لا يستجيب لأهدافه في تحرير فلسطين، قاد عملية تحول الحركة الى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين كتنظيم فلسطيني ثوري مقاتل بالفكر والبندقية.
ومن يقتفي بموضوعية أدبيات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين واجتماعات هيئاتها المركزية كان سيلاحظ، ان جورج حبش كان لا يخشى النقد والاعتراف بالأخطاء علنياً. فلقد سجلت الجبهة الشعبية على نفسها الكثير من الانتقادات الناجمة عن مراجعة موضوعية لسياساتها ومواقفها، وكان ذلك احد ابرز آليات تجددها، واستمرارها.
واذا كانت الثورة الفلسطينية قد واجهت العديد من الازمات والمحطات الصعبة، فقد كان الحكيم حريصاً على وحدة المنظمة ووحدة الشعب والنضال الفلسطيني، ولم يسجل على نفسه او الجبهة ولو لمرة واحدة، انه مستعد للاستجابة لكل المحاولات والضغوط التي كان اصحابها يرغبون في شق صفوف المنظمة.
فهو الذي شكل بقوة الطرف المعارض في منظمة التحرير، منذ بدايات الثورة العام 1967، ومن بعد ذلك، حين تم تشكيل جبهة الإنقاذ وجبهة الرفض، وكان آنذاك ما يبرر تصاعد التناقضات الداخلية على خلفية التعارضات السياسية في الرؤى والمواقف، لكنه الذي وقف في المجلس الوطني في الجزائر العام 1988، ليهتف: وحدة وحدة حتى النصر. كان النقاش الذي سبق الإعلان عن قيام الدولة الفلسطينية ساخناً بشأن ما سمي في حينه بمبادرة السلام الفلسطينية، وبشأن الموقف من قراري مجلس الأمن الدولي رقم 242 و338، وقد سجلت الجبهة تحفظها آنذاك بوضوح، لكنه لم يتردد في أن يضع يده بيد الرئيس الراحل أبو عمار بعد أن اعلن عن قيام الدولة الفلسطينية.
اكثر من انشقاق وقع في صفوف الجبهة الشعبية. فلقد انشقت الجبهة الديمقراطية عن الجبهة بعد عام من تأسيسها ثم انشق عنها فريق آخر العام 1972 تحت اسم الجبهة الثورية، ما أضعف الجبهة، وأضعف الحلم، وأثر كثيراً وبعمق في شخصية الحكيم، لكنه ظل مصمماً على أفكاره ورؤيته ومتابعة النضال من خلال الجبهة.
كان يمكن لتلك الانشقاقات ان تؤدي الى صدامات مسلحة وتسقط الكثير من الضحايا، غير أن اللجوء للعنف لمعالجة التعارضات والتناقضات في صفوف الثورة والشعب، لا تنتمي لا لفكر ولا لشخصية جورج حبش الذي آمن بالحوار الديمقراطي، وآمن بأولوية النضال ضد الاحتلال، وآمن بإمكانية تجاوز الاخطاء.
لم تنته التعارضات داخل الجبهة حتى بعد أن وقعت الانشقاقات، لكنه كان حكيماً في ادارتها، والمحافظة على وحدة الجبهة، ووحدة الشعب، ما ساهم في تقوية الجبهة الى أن أصبحت تنافس على مكانة التنظيم الاول في قطاع غزة خلال السنة الاولى للانتفاضة الشعبية الكبرى التي اندلعت العام 1987، وهي التي عرفها سكان القطاع، خلال قيادتها للنضال الفلسطيني المسلح اواخر الستينيات وأوائل السبعينيات بقيادة عضو مكتبها السياسي محمد الاسود المعروف بجيفارا غزة.
لم يكن جورج حبش الذي يهون او يستسلم أمام الصعوبات والازمات، فلقد استقوى على مرضه الذي رافقه منذ بداية الثمانينيات، ليستمر معه حتى وفاته في عمان، وكانت شهادة أطبائه انه صاحب إرادة فولاذية، كان لها فضل كبير في تحدي المرض، الذي ادى الى شلل في بعض أطرافه، لكنه لم يقعده عن متابعة مهماته.
ولكنه حين شعر بأن حالته الصحية قد تشكل عبئاً على دوره وعلى رفاقه، تقدم مبكراً في احدى اجتماعات اللجنة المركزية، باقتراح لترك منصبه، خصوصاً انهه كان يطمح في أن يتفرغ لكتابة تاريخ الحركة والجبهة، ولكنه حين لم يلق قبولاً من رفاقه قدم اقتراحاً بتعديل النظام الداخلي لا يسمح لعضو المكتب السياسي للترشح اكثر من دورتين متعاقبتين، بما في ذلك منصب الامين العام.
وقدم حبش لاحقاً، سابقة في تاريخ القيادات السياسية والحزبية العربية وربما العالم حين استقال من منصبه، حيث تم اختيار الشهيد القائد ابو علي مصطفى خلفاً له، فيما كان بإمكانه أن يحذو حذو قيادات اخرى يعرفها ونعرفها، لكنه آثر أن يكون من نوع مختلف.
حبش تاريخ مطابق يمتد بالذاكرة لعشرات السنوات، لم تسعفه الظروف لكي يكمل كتابته، كما وعد، فلقد كان من الصعب عليه ان يتفرغ للكتابة فيما شعبه وثورته، وقضيته تمر في أقسى الظروف وأخطر المراحل، وأراهن ان تألمه مما تشهده القضية، وما يشهده الشعب الفلسطيني قد كان واحداً من أسباب رحيله.
يستحق الحكيم أن يلقى تكريماً يستحق بقائد كفؤ، وطني وقومي، ثوري حقيقي، لم يعرف يوماً طعم الحياة الخاصة، ويستحق أن يرفع اسمه الى مكانة القادة الثوريين الكبار.
جورج حبش ليس قائداً للجبهة الشعبية، إنه احد القادة الفلسطينيين والعرب التاريخيين الكبار، الذين تركوا بصماتهم واضحة في سجل التاريخ، ومثل أقرانه من القادة الكبار فإن الوفاء له، يعني الوفاء للأهداف التي أمضى حياته سعياً لتحقيقها.
رحل الحكيم في ظروف بالغة الصعوبة، لكن أفكاره، وأخلاقه، وتراثه وسيرته، ستظل باقية، راسخة في عقول الملايين من أبناء شعبه، وشعوب الأمة العربية، وراسخة أيضاً في عقول عشرات آلاف المناضلين من أبناء الجبهة الشعبية وأبناء الثورة الفلسطينية.

جريدة الأيام

الحرية لسوريا من الإحتلال الأسدي
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.04287 seconds with 11 queries