عرض مشاركة واحدة
قديم 17/10/2006   #4
post[field7] dot
مشرف متقاعد
 
الصورة الرمزية لـ dot
dot is offline
 
نورنا ب:
May 2006
مشاركات:
3,276

افتراضي


لمناهج ومدارس الفلسفة الهندية عقلٌ واحد في ما يتعلق بغاية الحياة وبوجود صالح على الأرض. فالروح الأساسية لفلسفة الحياة في الهندوسية والبوذية والجينية تكمن في اللاتعلق (الزهد). ويُعتبَر اللاتعلق هذا موقفًا عقليًّا يحققه الفرد في النصيب المقسوم له من الحياة. وعلى هذا الأساس، يحيا وجودًا يوميًّا "عاديًّا" مع الناس، دون أن يتبرم بنتائج أفعاله أو يتورط فيها؛ وبهذا يبلغ نوعًا من التسامي الروحي والعقلي على المفاهيم الأرضية دون أن تستعبده. ولا يكون هذا الموقف سلبيًّا أو هروبًا، لأن الفرد يشارك في نشاطاته اليومية بما يتفق مع موقعه في المجتمع. ويكون هذا العيش والسلوك والعمل الخالي من إحساس التعلق بالأشياء القضيةَ الرئيسةَ التي تجعله يحيا في هذا العالم دون أثرة أو أنانية.

*

تعترف مدارس الهندوسية والجينية والبوذية بعقيدتي كَرما والتقمص. وتؤمن هذه المدارس بأن الإنسان ملتزم بتحقيق الكمال الروحي والأخلاقي إن هو شاء الخلاص. وتعتقد أيضًا أن العدالة هي قانون الحياة الأخلاقية تمامًا كما أن ناموس "العلة والمعلول" قانون العالم الطبيعي: "ما يزرعه الإنسان إياه يحصد." ولما كانت العدالة والكمال الأخلاقي لا يتحققان في عمر واحد، فإن هذه المناهج تؤمن بالتجسد من جديد (التقمص) حتى يُمنَح الإنسانُ فرصةً تتيح له إمكان التقدم الأخلاقي الذي يؤدي به إلى الكمال. لذا يعزز الفلاسفة الهندوس، باستثناء أتباع مدرسة تشارفاكا، منذ بدايات الفيدا حتى المراحل اللاحقة، فكرة النظام الأخلاقي للكون. فكَرْما والتقمص هما الوسيلتان اللتان، من خلالهما، يتحقق النظام الأخلاقي للكون في حياة الإنسان.

نظام الطوائف

ثمة عامل آخر يوحِّد المدارس الهندية في الحقل العملي، على الرغم من أن مدارس تشارفاكا والبوذية والجينية لا توافق عليه، وهذا لأن نمط الحياة الاجتماعية الذي تقبل به المدارس، دون الأخذ بعين الاعتبار الاختلافات القائمة بينها في حقلَي الميتافيزياء والإپستمولوجيا، يتجلَّى في تقسيم المجتمع إلى أربع "طوائف"، تمثل للمراحل الأربع للحياة، أي القمم الرئيسية التي يبحث عنها الإنسان. ففي الهندوسية، ينقسم المجتمع إلى أربع فئات تتحد في الوظيفة، وهي: الكاهن المعلم (برهمِن)، الملك أو القائد السياسي والحربي (كشتريا)، والتاجر (فَيشيا)، والعامل (شودرا). وتسمَّى الطوائف الثلاث الأولى "المولودة مرتين"، ويشير هذا اللقب إلى الهندوس الذين تلقوا أسرار الدين؛ أما الطائفة الرابعة فإنها لا تتصف بهذه المزية. وتشمل حياة "المولودين مرتين" مراحل أربع هي: الطالب (برهمتشارِن)، ورب البيت (گرِهَستها)، وساكن الغابة (فانَپرَسْتها)، والراهب الجوال (سنياسِن).

وفي هذا النظام الاجتماعي، لا يدخل الفرد حياة العزلة ما لم يكن قد أتم واجباتِه نحو الناس كطالب وكربِّ أسرة؛ وفي المرحلتين المتأخرتين من حياته، يركز أكثر فأكثر على الناحية الروحية ويبحث عن الحقيقة لكي ينعتق. لذا كانت غايات الحياة التي يتقبلها الهندوس تتجسد في الاستقامة أو طاعة القانون الأخلاقي (دهرما)، وفي الثروة والتقدم المادي (أرْتها)، وفي الرغبة (كاما)، وفي التحرر (مُكشا). ويسيطر دهرما، القانون الأخلاقي، على الحياة؛ وهذا يعني أن تحقيق الثروة وتلبية الرغبة لا يتمان بكسر قواعد الأخلاق. لذا، كان مُكشا يمثل الغاية السامية التي يهفو إليها الناس. ويتقبل الهندوس هذه الفلسفة الاجتماعية دون أي تعليق. وتتجلَّى هذه الفلسفة في أدبيات دهرما شاسْترا، لكنها لا تحظى بأيِّ بسط ولا توجد إلى جانب أيِّ تبرير فلسفي في النصوص الفلسفية التطبيقية. وفي نظر الهندوس، تكون هذه الحياة المثالية بمثابة روح الوحدة لحياة البلاد الاجتماعية والخلقية، وذلك على الرغم من أن البوذية والجينية – وهما أقليتان – لا تتبعان هذا النموذج الخاص المحتذى للحياة.

خاتمة: القيمة المتضمَّنة في دراسة الفلسفة الهندية

تُعتبَر دراسةُ الفلسفة هامةً من النواحي الفكرية والتاريخية والسياسية. ويعتبر الموروث الهندوسي الفلسفةَ أقدم وأطول تطور مستمر للبحث العقلي عن طبيعته الحقيقية ومكانة الإنسان في نظرها. وقد بدأ هذا الموروث باستهلال الفيدا القديمة، التي يمكن لنا اعتبارها أقدم المخطوطات التي وصلتنا عن العقل الإنساني والتي استمرت، على كرِّ العصور، في تقدم فلسفي مزدهر، جاهدةً أن تستوعب الحياة والحقيقة. ودراستنا، نحن أبناء اليوم، لهذا الموروث يجب ألا تكون عملية تنقيب أثريٍّ عن شيء مضى. وعلى الرغم من أننا نحترم الماضي ونقدِّره، فقد اهتم العقَّال الهنود، إبان العصور، بالحقيقة الجوهرية التي لا تخضع لزمان ولا لمكان.

كذلك، يجب ألا ندرس الفلسفة الهندية كمجرد دراسة إقليمية لبلد ماضٍ حاول أن يبلغ تخوم الحقيقة. وعلى الرغم من اتهام بعض النقاد الغربيين للفلسفة الهندية بإهمال الطريقة العلمية، فإن المفكرين الهنود لم يكونوا ضد التجربة، ولم يهملوا الطبيعة في دراساتهم للحقيقة؛ وفي دراستهم للإنسان، لم يقتصروا على صفات الإنسان الهندي. إذن، فالتركيز الهندي على دراسة طبيعة الإنسان الداخلية هو، في غالبيته القصوى، تركيز على دراسة الإنسان العالمي.

كانت تعاليم فلاسفة الهنود، ولا تزال، نقاط تحوُّل للفكر الإنساني. ولم تكن جميع الأفكار والمناهج الفلسفية الهندية عميقة وذات دلالة؛ لكن العمق والسموَّ اللذين بلغهما الراؤون والمفكرون الهنود يشيران إلى عمق القوى التي يتحلَّى بها العقل الإنساني. لذا تمثلت الفلسفة الهندية في عقل الإنسان وروحه وهما يتسنَّمان ذروات قواهما في الحقلين الديني والفلسفي.

ومن الناحية الفلسفية، تُعَد دراسةُ الفلسفة الهندية هامة في البحث عن الحقيقة؛ وهذا لأن واجب الفلسفة يتضمن شمولية أنماط البصيرة كلِّها والتجارب الواقعة في نطاقها جميعًا. والحق أن للفلسفة الهندية أثرًا واضحًا في هذا المجال. وتتمثل المسائل الرئيسة في الفلسفة الهندية في تلك الموضوعات التي يواجهها الإنسان المفكر منذ أن بدأ يتساءل عن الحياة والحقيقة. ولهذه الفلسفة قضايا أخرى خاصة بها، وتوكيدات مختلفة، ورسائل فهم للحقيقة، وحلول فريدة، هي: مساهمة الهند في رسم الحقيقة داخل إطارها الكلِّي. والحق أن الحاجة الماسة إلى الفلسفة، في الوقت الحاضر، تشير إلى الإلمام بسائر المنظورات الفلسفية التي تشتمل على البصائر الفلسفية العائدة إلى الموروثات العالمية الكبرى كافة. إذن، فالهدف ليس أن نتبنَّى فلسفةً فريدةً تقضي على الفوارق في المنظور، بل أن نتفق على قيم ومنظورات مطلقة تُعتبَر أساسيةً للفلسفات جميعًا. وإن فلسفة عالمية كهذه تتضمن البصيرة الروحية التي تميز بها أصحاب الرؤى والمفكرون الهنود الذين قادوا البحث الفلسفي الهندي أو وجَّهوه طوال عصور عديدة.

يُعتبَر من الأهمية السياسية بمكان أن تُقدِم شعوبُ العالم على دراسة الفلسفة الهندية. وكما يبدو، تظهر الدعوة إلى "عالم واحد" وكأنها من مآثر الفكر السياسي. والواقع هو أنه يتعذر تحقيق الوحدة السياسية في معزل عن تفاهُم فلسفي. فالبصائر السياسية، والاتفاقيات، والفوارق السياسية، إلخ، تُعتبَر ثانوية من منظور العقل الإنساني. وتعتمد الأحوال الاجتماعية والسياسية في المناطق المتعددة للعالم، في تحليلها النهائي، على الفكر الفلسفي والروحي وعلى مثاليات شعوب العالم. إذن، فالفلسفة هي القطب الذي لا مناص للإنسان من الاتجاه إليه، وهي الأمل الذي ينشده الإنسان من أجل تقريب شعوب العالم بعضها من بعض في مودة وتفاهم وفي انسجام روحي وعقلي. من دون هذا الانسجام والتقارب، يتعذر تحقيق الوحدة السياسية أو غيرها؛ وهذا لأن مستقبل الحضارة يعتمد على عودة الوعي الروحي إلى قلوب الناس وعقولهم. وقد ساهمت الفلسفة الهندية، إبان تطورها الطويل الذي ركَّز على الناحية الروحية، مساهمةً قيمةً يصعب علينا الاستغناء عنها في هذا المجال.

*** *** ***


مراجع أساسية
- DASGUPTA, S., Indian Idealism, Cambridge University Press, 1962.

- GARRATT, G.T. (ed.), The Legacy of India, Oxford University Press, 1938.

- LEVY, J., The Nature of Man According to the Vedanta, Routledge & Kegan Paul, London, 1956.

- RADHAKRISHNAN, S., Indian Philosophy, vols. I & II, The Macmillan Company, New York, George Allen & Unwin, London, 1956.

- RADHAKRISHNAN, S., The Hindu View of Life, George Allen & Unwin, London,
1954

بقلم:
ندره اليازجي

ندره اليازجي (1932- ) فيلسوف ثيوصوفي سوري، كاتب ومحاضر ومترجم في الفلسفة والإپستمولوجيا وعلم النفس. من مؤلَّفاته: الاشتراكية ومفهوم العدالة، رد على اليهودية واليهودية المسيحية، دراسات في المثالية الإنسانية، رسائل في مبادئ الحياة؛ ومن مترجَماته إلى العربية: الفكر الفلسفي الهندي (س. رادهاكرشنان وش. مور)، ظاهرة الإنسان (تلار دُه شاردان)، الطفرة الروحية للألفية الثالثة (روبير لنسن)، علم النفس اليونغي (يولاند ياكوبي).

13-05-2007

مدونتــي :

- ابو شريك هاي الروابط الي بيحطوها الأعضاء ما بتظهر ترى غير للأعضاء، فيعني اذا ما كنت مسجل و كان بدك اتشوف الرابط (مصرّ ) ففيك اتسجل بإنك تتكى على كلمة سوريا -
 



آخر تعديل dot يوم 17/10/2006 في 01:01.
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.14792 seconds with 11 queries