الموضوع: سقوط التغيير
عرض مشاركة واحدة
قديم 06/11/2009   #2
شب و شيخ الشباب sheldi
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ sheldi
sheldi is offline
 
نورنا ب:
Apr 2008
مشاركات:
281

افتراضي m


مقاربات
ثمة ثلاث مقاربات لتفسير التحوّلات التركية الجذرية في الشرق الأوسط. الأولى تركية، تضع هذه التطورات الهامة في إطار ما يُسميه وزير الخارجية التركي داود أوغلو نهج “العمق الاستراتيجي” الجديد، الذي يتطلب من بلاد الأناضول العمل على ضمان أمنها القومي من خلال ممارسة النفوذ واستخدام “القوة اللينة” في بيئتها الإقليمية، ولعب دور مؤثّر في الساحة الدولية. يقول داود اوغلو: “ تركيا كلاعب دولي كان يُنظر إليها سابقاً على أن لديها عضلات قوية، ومعدة ضعيفة، ومشاكل في القلب، وقوة دماغ متوسطة. بكلمات أخرى، هي جيش قوي واقتصاد ضعيف، وتفتقد الثقة بالنفس وليست جيدة في التفكير الاستراتيجي. أما الآن، فتركيا موجودة في مستويات عدة من السياسات الدولية وتوّسطت في العديد من النزاعات في البلقان والشرق الاوسط والقوقاز، فحوّلت بذلك أعداء سابقين كروسيا وسوريا إلى حلفاء حميمين”.
وهناك مقاربة الصقور الإسرائيليين الذين يعتبرون التقارب التركي مع سوريا والعراق بمثابة انقلاب كامل على التحالف الاستراتيجي التاريخي التركي – الإسرائيلي، ويربطون بين استبعاد تركيا لإسرائيل من مناورات “نسر الأناضول” الجوية الأطلسية وبين الاتفاقات الاستراتيجية التركية مع سوريا والعراق وخطوة إجراء مناورات عسكرية سورية – تركية على مرمى حجر من العمق الإسرائيلي. كما يتوقفون، كدليل على النزعة الانقلابية، أمام البيانات المتلاحقة لأردوغان، التي أعلن فيها غداة حرب غزة أن “الله سيعاقب إسرائيل على أعمالها بعد أن حوّلت القطاع إلى معسكر اعتقال دموي”، ثم بعد المشادة الكبرى التي حدثت بينه وبين الرئيس الإسرائيلي بيريز في مؤتمر منتدى دافوس والتي خاطب خلالها الأخير بقوله:” أنتم تعرفون تماماً كيف تَقتُلون”.
ويرى الصقور الإسرائيليون، ومعهم المحافظون الاميركيون اليمينيون كما الجدد، أن مواقف تركيا الأردوغانية نابعة أساساً من المنظور الإسلامي الذي تُطل من خلاله على العالم، وهو بالضرورة منظور معادٍ للغرب وعلى رأسه إسرائيل. ولذا، يدعون إلى فتح النار على تركيا وعلى كل الجبهات، خصوصا منها جبهات الكونغرس وهيئات الضغط الكبرى المالية والسياسية الأخرى في الولايات المتحدة.
ثم هناك أخيراً مقاربة إدارة أوباما التي تبدو مطمئنة إلى ان تركيا لن تذهب بعيداً في توجهاتها الاستقلالية الحالية، وأنها محكومة بحتمية التحالف مع واشنطن بسبب اعتمادها الكلي على التسليح الأميركي، وعلى دعم الولايات المتحدة لجهودها الهادفة إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وأيضاً لأن أميركا هي بطاقة تأمين دائمة لها ضد الدب الروسي في حال أراد مواصلة ما انقطع من طموحاته الجيو- استراتيجية.
هل ثمة قاسم مشترك ما بين هذه المقاربات الثلاث؟
أجل. فهي كلها تتفق على أن هناك بالفعل “تركيا جديدة” في الشرق الأوسط القديم، وبأنه (كما أقرَّ إيهود باراك) لم يعد ثمة مفرّ من الاعتراف بها كلاعب إقليمي كبير في المنطقة. ورغم ان ذلك لن يعني بأي حال احتمال انتقال أنقرة إلى المعسكر المعادي للغرب كما الأمر مع إيران (ولا حتى إلى المعسكر المعادي لوجود إسرائيل)، إلا أن المضاعفات السلبية على الدور الإسرائيلي في النظام الشرق الأوسطي ستكون كبيرة بالفعل، وربما تاريخية أيضاً.
بالطبع، لا أحد على وشك القول بأن العلاقات التركية- الإسرائيلية ستصل إلى مرحلة القطيعة العدائية، كما حدث مع إيران غداة انتقالها من عرش الشاه الطاووسي إلى عمامات آيات الله السوداء.
صحيح أن نقاط الافتراق بين الطرفين عديدة، في مقدمها قضية الشعب الفلسطيني التي يعتبرها الإسلاميون الأتراك مُقدّسة والتي يجلّها حتى العلمانيون الأتاتوركيون لأن الفلسطينيين، في رأيهم، لم “يخونوا” الاتراك العثمانيين في الحرب العالمية الأولى. لكن الصحيح أيضاً ان تركيا وإسرائيل بلورتا على مدى ستة عقود مصالح مشتركة واسعة النطاق وعلى المستويات كافة. فطوال حقبة الحرب الباردة، وجد الطرفان نفسيهما في زورق واحد: فتركيا الكمالية كانت عضواً في حلف الأطلسي وإسرائيل الصهيونية كانت حاملة طائرات أميركية ثابتة في شرق البحر المتوسط. وكلتاهما خاضتا مجابهات ساخنة مع حركة التحرر العربية الناصرية. ثم أن كلتيهما طورتا تعاوناً ما لبث ان تحوّل إلى تحالف استراتيجي غداة توقيع الاتفاق العسكري بينهما في العام 1996، والذي نص على حق الطرفين في نشر قواته الجوية والبرية والبحرية في مناطق الطرف الآخر، وفي استخدام موانئه البحرية والجوية وقواعده البرية.
لكن منذ ذلك الحين طرأ تطوران. الأول، الانقلاب الذي حدث في البيئة الدولية ومع انهيار الاتحاد السوفياتي، ومع امتلاك العديد من القوى الإقليمية في الشرق الأوسط أسلحة الدمار الشامل، ما أثار الشكوك في أنقرة حول فعالية حلف الأطلسي في الدفاع عن أمنها القومي. علاوة على ذلك، شهدت حقبة التسعينيات تحوّلات كبرى أخرى في موقع تركيا الجيو- استراتيجي في مثلث الشرق الأوسط- القوقاز- البلقان، فرض عليها بدء الخروج من عزلتها التاريخية المديدة. والثاني، صعود الإسلام السياسي التركي إلى السلطة. ورغم أن هذه الطبعة من الإسلام ليبرالية القسمات، و”ودودة” مع الغرب، ولا تجهر برفض وجود إسرائيل، إلا أنها غير متحمسة البتة للنوم في سرير واحد مع الدولة العبرية.
بيد ان العامل الأهم الذي يجب التوقف عنده ملياً هو بدء وضع توجّه العمق الاستراتيجي” التركي (الذي أشرنا إليه) موضع التطبيق. إذ رغم أن رغبة تركيا الأردوغانية في استعادة النفوذ العثماني السابق عبر القوة المخملية أو اللينّة لا تتضمن إزالة إسرائيل من الوجود، إلا أن إسرائيل لا يمكن أن تشعر بالارتياح لهذا الدور التركي الجديد.
لماذا؟ لأنها كانت في العقود السابقة، ولاتزال الآن، تحتاج إلى تركيا، أو بتحديد أدق إلى الفضاء التركي. فهي تمتلك أسلحة نووية وقريباً سيكتمل بناء درعها الصاروخية. لكن وبسبب صغر حجمها الجغرافي، وكثافة سكانها، وتمركز تسهيلاتها العسكرية، فإن اختراق صاروخ واحد يحمل أسلحة كيميائية أو بيولوجية لأجوائها سيكون كافياً لإلحاق دمار شامل بها. ولذا فهي في حاجة إلى استخدام العمق الاستراتيجي التركي للدفاع عن نفسها صاروخياً. ثم هناك سبب آخر: بما أن إسرائيل هي الآن القوة المهيمنة في الشرق الاوسط، فأي دور جديد لتركيا فيها سيأكل حتماً من دورها. وهذا ما قد يُسبب العديد من نوبات المغص في المعدة الإسرائيلية.
والخلاصة؟ إنها واضحة: القطاران التركي والإسرائيلي سيسيران من الآن فصاعداً في خطين متعارضين. قد لا يصطدمان، لكن مجرد مرورهما الى جانب بعضهما بعضاً، سيطلق الكثير من الحرارة الشديدة والضغط المرتفع والضجيج الصاخب.

سأفتح نوافذي لكل رياح العالم شرط ألا تقتلعني من جذوري
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.03828 seconds with 11 queries