الموضوع: محمود البدوى
عرض مشاركة واحدة
قديم 19/08/2008   #21
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي طلقة فى الظلام


كانوا ثمانية خرجوا في الظلام من مدينة العريش والعدو على مبعدة ثلاثة كيلو مترات منها .. وهدير القصف يسمع في كل مكان .. وعندما تجاوزوا حدود المدينة وجدوا خلقا كثيرا يتحرك مثلهم إلى الغرب ..
واكتسحت الجموع الطريق الضيق، كانوا يسيرون في مشقة، وقد اختلط الحابل بالنابل، والرجال بالنساء، والأطفال بالشيوخ، والعذاب يلفهم في كل خطوة.
كانت الحرب تتحرك بسرعة رهيبة . والحياة نفسها تتحرك في قلوب هؤلاء المشردين بسرعة ولهفة.
وكانت السيارات قد اختفت عن المنطقة كلها، أخذها من سبقهم إلى الفرار.

والطريق المألوفة قـد خربت بالقنابل لتعوق المدرعات من الانسحاب، فاضطر الأهالي إلى الاتجاه إلى البحر، والتفرق في صحراء سيناء، وساروا على وجوههم.. وكانت الأرض والسماء ملفوفتين بالدخان والنار.. والطيور تطير مذعورة وريح الصيف تزفر نارا وبخارا ..
وكان القلق يعصف برؤوسهم ..
وظلوا يسيرون طوال الليل ، والقنابل تتناثر حولهم ، ودوامات الرمال تثور فى وجوههم والفراغ الرهيب الذي يحدث من الانفجار يعريهم من ثيابهم ، ويطير متاعهم من أيديهم ..


***

ورغم تفكك الجموع. ظل الثمانية كما هم.. وكانوا جميعا من الموظفين المصريين الذين يعمـلون في العريش ومن بينهم سيدتان .

ورغم تزايد عدد الرجال على النساء في هذه الرحلة الرهيبة فقد استراحت المرأتان إلى الصحبة.
ولم تكن بين هذه الجماعة أية علاقة عمل أو جوار .. ولكنهم اجتمعوا على الطريق لغرض واحد..
وساروا أولا حـذاء البحر، والنخيل الكثيف النابت في الماء على يمينهم يتمايل ويلطف الجو كله. فلما جاءتهم أنباء بنـزول الأعــداء من ناحـية البـحـر، غيروا اتجاههم ودخلـوا في الصـحراء.
وبعد نهار خانق وشمس حامية، ورمال حارقة. عثروا في الليل على سيارة قديمة ، وقبل سائقها بعد مساومة طويلة ، وبعد الضراعة ، وكل ضروب التوسل .. قبل أن يحملهم إلى القنطرة شرق وهم وحظهم في العبور.. !
وتقاضى منهم الأجر مقدما قبل أن يضعوا أقدامهم في العربة.. تقاضى منهم أجرا باهظا كأنه سينقلهم إلى أوربا .. ودفعوا صاغرين ولم يتعجبوا إنها دقات الحرب ونوازعها الشريرة في النفوس الوضيعة.

وقال السائق القصير العنق ، النمش الوجه ، الأحمر الشعر ، بعد أن تحرك بالسيارة في طريق ملتوي يعرفه أمثاله :
ـ سنتعرض في الطريق للتفتيش .. فقد نزلوا بالمظلات وهم الآن أمامنا.
ونظر للسيدتين بخبث فالتهب وجهاهما .
ثم أضاف :
ـ وأرجو ألا يكون معكم سلاح .. وإلا تعرضنا للمهالك ..
فلم يرد عليه أحد .. كان الانكسار قد سحق مشاعرهم ، وجمـد إحساسهم ، فلم يعودوا يعبأون بأي شيء يقع لهم .
وكانوا قد خرجوا من بيوتهم دون أن يتزودوا بزاد الطريق، حمـلوا نقودهم فقـط، وتركوا كل شيء آخر، ومنهم من نسى حتى ذلك..
ولم يجدوا على الطريق من يبيع لهم الماء.. وشكروا الله لأنه ليس معهم أطفال.
وبعـد سـير بطيء أسرع منه المشي على القدم.. وفى جو الحرب والقصف .. فاجأتهم غارة مروعة فخرجوا جميعا من السيارة ، وطاروا على وجوههم يدفنون أجسامهم في التلال الرملية المحيطة بهم

***

ولمــا فتــح إسـماعيل عينيـه وأفـاق من غشيته ، وجــد أمينة وحدها هي الباقية من الثمانية ، ولم يعرف أين ذهب الباقون ، غيبتهم الصحراء في جوفها ، أم مزقنهم القنابل.
وشكرت أمينة ربها لأنها وجدت رجلا بجانبها في الليل والحرب .. وكانت قد استراحت إلى إسماعيل منذ ركبت معه السيارة، استراحت إلى أعصابه الهادئة وجلده.. واشتمت في ملامحه وطباعه النبالة .. ولم تكن فراستها تخيب أبدا في نظرتها إلى الرجال ..
فمنذ بدأت تعمل وتخرج إلى الحياة ، وتنتقل من بلد إلى بلد ، وهى تحمل بين جنبيها ذخيرة تجارب صادقة ..
ولم تكن وهى الأنثى الشابة الجميلة إلى حد الفتنة .. ترفض البعد عن الأهل في سبيل العمل والحصول على رزق أوسع .. وكانت بعد العريش تتطلع إلى العمل في الكويت .. وليبيا.. والسعودية لتجمع لأسرتها من المال ما يبنى لهم بيتا.. فيلا جميلة بدلا من السكن بالإيجار..
ولكن أحلامها أوقفتها الحرب عند وجه إسماعيل .
وتطلع إليها في غبش الظلمة والصحراء في لون الرماد ، والطلقات تصفر .. وقال بتؤدة وهو يتألم لما لاقته في سفرها من عذاب :
ـ يجب أن نخرج من هذا المكان.. ونسرع ما أمكن .. وكنت أود أن يعطيني الله القوة لحملك. وما أحسبك ثقيلة الوزن .
فقالت ورغم الضنى ابتسمت :
ـ في حدود ستين كيلو ..
ـ ليس هذا بالصعب .. إنه وزن استطيع حمـله والسير به عشر خطوات .!
ونظر إلى عينيها على اتساعهما ، تلمعان في الظلمة .. وقد هزتها كلماته المداعبة في هذا الجو .
وقال وهو يجلس على الأرض :
ـ يجب أن نتخفف من حملنا لأن المشوار طويل.. وسأبدأ بنفسي .
وفتح حقيبته وأخرج حاجات قليلة وضعها في جيبه .. وألقى بالحقيبة وما بقى فيها في الرمال وهو يقول:
ـ إنها مطمع للأعراب .. ولا خير فيها .

وقالت بعد أن شاهدته يضع مسدسا في جيبه .
ـ أكنت تحمل المسدس.. بعد أن حذرك السائق من التفتيش..؟
ـ المسدس حملته من أجلك .. ومن كان يضع يده عليك سأرديه قبل أن يتحرك له أصبع ..
فانشرحت لقوله وقالت في رقة :
ـ ولكنك ستموت بعدها..
ـ وما قيمة الموت للمرء . بعـد أن يشعر بأنه أدى واجبه كرجل ..
وقال وهو يشير إلى حقيبتها :
ـ والآن جاء دورك ..!
فقالت وهى تفتح الحقيبة ..
ـ انظر ليس بداخلها سوى أشياء قليلة . ماتتزين به النساء .. ونقودي وجواهري، أما ملابسي كلها فقد تركتها في البيت .. وليس معي سوى فستاني الذي أرتديه ..
وتأمل فستانها الوردي، الذي كان لا يزال منسجما على جسمها، رغم رحلة العذاب وكانت رشاقتها تنبع من حيوية جسمها فبعد التمرغ في الرمل يبدو كل شيء بعد لحظات بكل جماله الطبيعي.. العينان والشفتان.. كلها تفيض بالحرارة والفتنة ..
وكانت قد غطت شعرها الأسود المتموج بإيشـارب وخلعـت ساعتها الذهبية .. كما خلعت حذاءها.. وأبقت سلسـلة ذهبية في عنقها لأن في نهايتها المصحف ..
وأعطاها جوربه وهو يقول :
- البسي هذا... وسنسير في الليل.. وفى بكائر الصباح .. أما في وهج الشمس فسنتوقف عن السير .. ونحتمي في أي مكان نراه صالحا.
ووضعت يدها في داخـل حقيبتها ، وأخرجـت منها حزمـة من الأوراق المالية وقالت له :
ـ ضع هذه النقود في جيبك ..
ـ خليها في مكانها وسأحمل عنك الحقيبة بما فيها .. ولكن ما هذا المبلغ كله ؟
ـ كنت ذاهبة إلى غزة لأشترى ثلاجة وتليفزيون، وأدوات مائدة لأختي، والحمد لله لو ذهبت ما استطعت العودة..
ـ خذي هذا المبلغ احتياطيا للظروف .. فربما طوقونا .. وفصلوا بيننا ..
ـ معي ثلاثين جنيها..
ـ أين .. ؟ !
واستغرب فلم يكن لثوبها جيوب .. وأشارت إلى صدرها فى خجل .
ـ يا لبراعة النساء..
وابتسم والليل تبدو غياهبه في كل موضع .. وبقيت النجوم وحدها تتلألأ في السماء بين الدخان ولهب الحرب ..
وحمل لها الحقيبة وسارا .. وعجب ـ وهو يسير إلى جانبها في الليل والحرب ـ لما أحس به.. فقد شعر بقـوة لم يشعر بمثلها في جسمه .. وكانت الريح الخفيفة تحرك الرمال . ولكن سماء شهر يونيه بدت صافية .. كلما خف الدخان ووهج النيران..

وشعرا معا بوجود جسم رمادي يتحرك عن يمينهما على مبعدة مائة خطوة لا أكثر، ثم تبينا أنها سيارة عسكرية للعدو.. وكانت تسير ببطء شديد فى طريق متعرج .. وتتـوقف لتسير.. ولعلـها ترسـل الإشارات .. وأحس إسماعيل بالخطر. فأمسك بيد أمينة وجذبها إلى الأرض .. فانبطحت بجانبه في رملها وترابها .. وهمس في أذنها .. فكتمت أنفاسها والتصقت بالرمل أكثر وأكثر .. وتخشبا تماما .. ووضع يده على مسدسه .. ثم تركه بعد أن تبين أنها مخاطرة.. فيها من الطيش أكثر مما فيـها من التعقـل .. ومـا ذنب أميـنة فهي إن نجـت من القتـل لن تنجـو من العـار..
وأمسك بيدها وضغط وأحس بالحرارة والعرق والتراب والرمل .. أنه ترابه ورمله . ولن يخوناه أبدا .. وراقب السيارة بعين الصقر حتى ابتلعتها الصحراء في جوفها ..
وأنهضها واستأنفا السير ..
ولم يكن يدرى أهي خائفة..؟ كما تخاف النساء من الليل والحرب أم لا . ولكنه كان مستيقنا من أنها شجاعة.. وأنها سريعة الخاطر ومتحركة.. وتبين له هذا من كل الأشياء التي اعترضتهما في الطريق .
ولم يكن يسير في طريق يعرفه ولكنه كان بحسه يتجه إلى القنال بعيدا عن طريق الحرب.. وعن جوف الصحراء حتى لا يظل في التيه..
سار على هدى بصيرته مستضيئا بالنجوم .. وسارت بجانبه مطمئنة راضية .. ونسى تعبه وجوعه ، ونسى قدميه وقد أخذتا في التورم .. ولم يكن يدرى الذي جرى لقدميها ولكن كانت تتحمل العذاب في صمت ..
وأحس بأن له هدفا وسط هذه المعمعة، التي لم يشترك فيها بسلاح.. وهو أن يهون عليها السير، ويحميها من شر الليل، وشر الإنسان

شُذَّ، شُذَّ بكل قواك عن القاعدة
لا تضع نجمتين على لفظة واحدة
وضع الهامشيّ إلى جانب الجوهريّ
لتكتمل النشوة الصاعدة
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.07369 seconds with 11 queries