عرض مشاركة واحدة
قديم 03/10/2008   #10
شب و شيخ الشباب مأمون التلب
مسجّل
-- اخ طازة --
 
الصورة الرمزية لـ مأمون التلب
مأمون التلب is offline
 
نورنا ب:
Jul 2008
مشاركات:
8

افتراضي


مراجعات:
أريد أن ألخّص بعض الأفكار الماضية (2) حول مجموعة التجارب التي توفرت لي من هذه الكتابات:
1- القضايا الإنسانية، في هذه التجارب، لا تُصنَّف على أُسس العدل والحرية والمساواة (الخير باختصار)، بالعكس؛ فهي في حالة فحص دائم لهذه الكلمات، وهي خيانة هذه الكلمات عن طريق الحياة في الطَّرف الآخر (الشرّ) والمُخاطبة من موقفه، من داخله، من انفعاله، ومهاجمة الخير ودك حصونه ومعاقله الجَّبارة التي سوَّغت لكل أفعال القهر والظلم والامتهان أن تدوم وتستمر مادام الخير موجوداً ككلمات ومعانٍ ومصطلحات.
ولكن الأمر لا يتعلق بالكلمات فقط وصياغة الكتابة باللغة المغايرة والمختلفة، والداخلة ضمن تحالفات قوى الظلام وبواطن النفوس، فالأمر يتعلَّق في الأصل بخوض التجربة حياتياً، وتماماً مثلما كتب محمد الصادق الحاج:
(الْهُرُوبُ من كُلِّ ما يَجِب.
مُغَادَرَةُ كُلَّ ما هو واقعٌ أو مُتَوَقَّع.
إهْمَالُ كُلَّ ما يُحَاصِرُ بالحتميَّة.
خِيانةُ المجتمع.
استكمال الصِّفْر.
الدُّخُولُ في السَّالِب.
...
يَسُرُّنِي أَفْعَل).

وكما قال أحمد النشادر أيضاً:
(كَمْ هُوَ مُؤْذٍ أَنْ نَتَجَرَّدَ مِنَ الأَحْقَادِ والأَطْمَاعِ والشَّهَوَاتِ الذَّاتِيَّةِ
لأَجْلِ أَنْ نُتَابِعَ تَفْكيرَنَا أو نَتَخَلَّصَ من تَفْكيرِنَا في أمْرٍ ما بِنَزَاهَة).

فإن تجردنا من (الأحقاد والأطماع والشهوات الذاتية) في تفكيرنا، مالذي يتبقى إذاً من إنسانيتنا؟ مالذي يتبقى من الذات المفكرة؟ سوى ذاتٍ منساقةٍ إلى نهرِ التعميمات الخيِّرة، والكلمات الرنَّانة العادلة والأخلاقية التي ساقت العالم إلى هذا المستنقع النتن الذي نعيش فيه؟ ذاتٍ لا ترى من أمر نفسها سوى غواية الآخر بمنحها مجداً أو بطولة؟.
(العَمَلِيَّةُ الَّتِي افرَزَتْنِي: امْنَحِ الشَّحَاذ صَفْعَتَكَ كَي يَتَمَجَّد)
رندا محجوب

2- التعبير بجزيئات العالم، هو من أهم الخصائص الملاحظة في هذه الكتابات (...) أو (الحركة الفردية لجزيئات العالم) (...) إذ يتم في بداية الأمر تجريد الشيء، وفحص كل عاداته ودلالاته، ومن ثم ربطه مع موادٍ أخرى ليست بقريبةٍ منه في الواقع، ولن تجد فرصة بأن تلتقيها إلا عبر الكلمات، مواد لم تخضع من قبل لسلطة عاداته وأفعاله (الشيء المُعبَّر به). ومحاولة (تجريبه) مع تلك الأشياء البعيدة عنه هي التي تُنبتُ المعنى وتجعله غريباً عن أرض الخيال الإنساني والإدراك، ولكن بمجرد التعود ومتابعة مسيرة المجرب (الكاتب) نستطيع أن ندرك عالمه، ولن يحدث هذا ما لم نتخلص من صراعات الاشكال، وإن كان هذا شعراً أم لا، وأنا أحبذ بالطبع أن لا يكون شعراً، وأن لا يرتبط بأي تصنيف سابق. وما هي ميزة أن يكون هذا شعر أم لا؟ وما الذي تضيفه التسمية والتصنيف للنص سوى التزلُّف للنَّمط والقراءات القديمة؟.
نعود ونقول أن أهم جزء من أجزاء التعبير بجزيئات العالم، والذي يميز هذه الكتابات أيضاً، أنها تحتقر المجاز من خلال تعبيرها، وتحوِّله لنوعٍ من الأشباح غير المرئية، وتُبطِل دوره. وبذات الصورة تحتقر التشبيه، ولهذا تبدو بعيدة عن الشعر نوعاً ما، إذ تبدو العوالم والكائنات والأشياء موجودةً بصورةٍ مطلقة، أي أنها لا تدخل ضمن خطاب الخيال كخيال، إنها لا تلتمس لوجودها شرعية من الواقع، كالحمار ذو الأجنحة عند محمد الصادق أو ثيران أمير شمعون الأسطورية، أو أعضاء أحمد النشادر التناسلية التي ترتفع لمستوىً تصبحُ معه كائنات مستقلة عن البشر، مكتفيَّةً بذاتها، تعبِّرُ عن أحلامها وأشواقها وحروبها مع العالم بصورةٍ مستقلّة تماماً. لا نجد التشبيه كثيراً، أي جملة (مادة "ك" مادة) _هذه المعادلة التي تميِّز الشعر_ لا نجد المجاز إلا خفياً. يقول أمير شمعون:
(المجاز نكران التّجريد
والأفقُ؛ الأفقُ هذا دجّالٌ مغبونٌ من كُفْرِ الْهَول
والكيانُ-هذا البَغْل- يتَسَوَّلُ ملائكتي قشورَ الخيال
حتّى الخيال سَرَقته الأراملُ، لبّسْنَه الفساتين ودَهْنَّهُ بلعابِ الأولياء فساقَهنُّ عارياتٍ لزرائبي
والحبُّ- يا لِلْحمار- مُرْخياً كرشه يتسّول في دكاكينِ اللحم حريمَ الرُّسُل وشِعْرَ المحايات.
والموت-يا للكذبة- جمالٌ يتلوّى مصروعاً فوق كفِّ الوحدة وسط تهليلِ الرّسامين،
وجمالٌ في الحانات يتلوّى ساخراً من الموت وهو يأكلُ أصابعه نَدَماً بعد الجّماع.
والحرامُ عيونٌ مُخيّطةٌ في المعاجم؛ المعاجم الغريقة في طمث اللامعنى
القيامةُ-يا للموسيقى- أمومةٌ فارّةٌ من سيطانِ المعنى
وأنا يا مُلحدين مُذ تقاسمتُ والزّمان ألمَ التّجريد وفررتُ بإتجاه الحنان وباعني النّورُ
في أسواق الكِتمان، ومذ سلبتني الأبديّةُ أسبابي، ومذ السّمار يا مُلحدين وأنا أُهشُّ
بناتي العمياوات؛الأيام وهنّ يتزاحمْنَ فوق ضروعي المليئة بالموتى،أنا تجريدُكم
المُحْتَضر فوق عناقريب اللامعنى) .

ومن أمثلة احتقار المجاز والتشبيه وخلق العوالم التي لا تتوسَّل الواقع لتكون حيَّةً، لا تطلب قوانينه؛ هذا المقطع من نص (في وصف العدم كاملاً) لرندا محجوب:
(الحَاضِنَاتُ في الخَزَفِ البَارِّ يَتَشَقَّق:
هَمْهَمَةٌ مرتدَّةٌ مِن دَلالٍ سَالَ على خَدٍّ بطيءٍ سائبٍ ولم تُلْحَظ
حِزَامٌ في الْمَدَارِ الْمَصْدُومِ على يَسَار الهَوْل
أمْشِي وأمْشِي وأمْشِي ويصحو الْمَشْيُ على الهُوَّةِ تَتَكَسَّر
أما بيننا:
كُلُّ الجينْز العَاجِز عن نَارِهِ
الأمْعَاءُ الغليظةُ التي تَتَفَمَّمُ بقُنَيَّاتٍ دَقِيْقَةٍ قَذِرة (وهذا رَخِيصٌ لأنه يَتَقَوْلَب)
العَدَمُ الرِّجْسُ الذي يَمْرَض في عُرْفِ إجْمَاليِّ الشَّكِّ الخَانةِ الدُّميَةِ اليَكْ
المجنانينُ يُكتِّفُونَ أياديهم، يُنصِتون في عَنْبَر تشيخُوف القَاضِي
الْمَاءُ الزُّلالُ المُتهشِّمُ من شدَّةِ ما لامَسَ القِيْلَ والقَال، السَّيْلُ احْتَمَل الإسْفَنجَ كُلَّه
الإسفنج نوعٌ من البَشَر تَوَاجُدُهم واجِبٌ ولو على سَبِيْلِ الحِبْر
الصَوْتُ السريُّ وراءَ البَاب، رِهَانٌ يَخْسَرُ، نَصْلٌ يَثْمَلُ.. مُكَرَّر ـ ـ مُكرَّر
الفَرَاغُ البَدِيْنُ.. الهُرَاوَات.. عِقَابٌ نَاجِزٌ.. كقولهم: وصَلَتْ.
ما دُمْنَا لم نَنْتَحِر) .

السيرة النَّاجزة عند كلٍّ منهم عن عالمه، والذي يشابه العالم الواقعي في بعض الأسس، (كالبحث عن بدايةٍ ونهايةٍ، كتفسير الخير والشرّ، مثلاً) ولكن الأمر يكون قاطعاً ومحسوماً بالنسبةِ لكل منهم، فلا تجد تردداً وشكاً في رؤيته لبداية العالم ونهايته، لا يشبه هذا عالم الواقع، والذي يتجادل فيه البشر عن من هو نبيّ الحقيقة، وأي دينٍ هو الحق، وأي فكرٍ هو الأكثر انسانيةً والأصلح لواقع ما.
فتنمحي ثنائيات (ذكر/أنثى) (خير/ شر) (عدالة/ظلم) وغيرها، لينشأ عالمٌ هو _بما أنه كُتب_ موجودٌ داخل الذات البشرية لا ريب، وهو ما يجعله مربكاً وخارج سيطرة النقاد والأكاديميين الآن، حتَّى القراء، وهو لا يرجو كذلك أن يقبضوا عليه يوماً (وياريت يوم شكرو ما يجي ونحنا حيين نرزق).

3- يسرني أن أقول، بعد هذا الشرح، وإيراد بعض النماذج، أنني لا أرى أن هذه الملاحظات حول مشاريع بعض الكتاب هي شاملة، ولذلك لم أخض في تفاصيلٍ أكثر، فرؤيتي لا تتعدَّى ملاحظة مسحةٍ عامَّةٍ، ولكنها _وهو الأهم_ لا تتعلق بالأسلوب المختلف لكلٍّ من هؤلاء الكتاب، بل هي تؤكد أيضاً أن لكلٍّ منهم نظرة خاصة ومتفردة لهذه الموضوعات والأفكار، وهو ما لن يبرر وضعهم كلهم في صورةٍ جماعية: (الكتاب الجدد)، أو (كتاب الحداثة) (كتاب قصيدة النثر) إلخ.


هوامش:
(1)من كتاب (الجرح السرّي).
(2)المراجعات من كتابة بعنوان (صفحة بيضاء ومرض) ديسمبر 2007م.
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.05670 seconds with 11 queries