عرض مشاركة واحدة
قديم 06/10/2009   #74
شب و شيخ الشباب قرصان الأدرياتيك
عضو
-- زعيـــــــم --
 
الصورة الرمزية لـ قرصان الأدرياتيك
قرصان الأدرياتيك is offline
 
نورنا ب:
Jan 2008
مشاركات:
1,446

افتراضي


الخميس 28 تمّوز 2008 (روما): القلمُ الأجير

"كم أحتقرُ كذبةَ الأدبِ وزائفيه! قد لا تكونُ كأسي كبيرة لكنّي لا أشربُ إلا منها".
هكذا هتفَ ألفرد دو موسيه لاعناً القلمَ الأجيرَ.
دعتني هذا الصّباح الصّحافيّة جمانة حدّاد إلى الكتابةِ من جديد. فقد تمتّعتُ وتلذّذتُ ملتهماً وجبتَها الطيّبة التي أعدّتها ثمَّ نشرتها في جريدة "النهار" (هذا اليوم) تحت عنوان "القلمُ الأجيرُ ظاهرةٌ قديمةٌ في الأدبِ أثيرتْ حولها الفضائحُ في كلّ الأزمنة".

مرَّ في خاطري للحال مؤرّخٌ وكاتبٌ سريانيّ نجا من مذابحِ الأتراكِ والأكرادِ إبّان الحرب العالميّة الأولى، بعدما افتداه أخوه بنفسِه، فقامَ، ردّاً لفضلِه، بأود عائلةِ أخيه البارّ وربّى بنفسِه أطفالَه، وقضى بقيّة العمرِ دون زواج. ولم يكن له من معيلٍ إلا قلمه، فكم من مرّةٍ ومرّة دفعَ به إلى الأجرِ لحاجةٍ إلى المال، وحاجةٍ إلى سدّ أبواب العوز والجوع! كان ناسخاً من أمهر النسّاخ، يكتبُ باليُمنى وإن تعبتْ كتبَ باليُسرى، وهكذا يقضي ساعات النّهارِ يعملُ حاملاً قلماً أجيراً ذا فاقة.

كما تذكّرتُ صديقاً لي قضيتُ معه ردحاً من الزمنِ في لبنانَ في أثناءِ الدّراسة الجامعيّة، كانَ يتيماً منذ الصِّغَر، وفي السّنة الجامعيّة الأولى توفّيتْ والدتُه، ولم يبقَ له من معيل إلا اللهُ والقليلُ الذي كانَ يجنيه قلمُه الأجير! فقد كانَ على كلّ طالبٍ أن يُعدَّ ثلاثةَ أبحاثٍ على الأقلّ في كلّ عام، وهكذا كانَ صديقي الحمصيّ يقوم بكتابة العشرات منها عنه وعن بعضِ الكسالى مقابلَ أجرٍ زهيدٍ لا يتجاوزُ الخمسةَ أو الستة آلاف ليرة لبنانيّة، يصرفُها على سجائرَ اللوكي سترايك وعلى حاجاته الأخرى! كنّا نعيشُ في مبنىً واحد، وكانَ له، برغمِ فاقته، قلبٌ طيّبٌ لا يرفضُ شيئاً لأحد، حتّى وجدني يوماً في حاجةٍ إلى بعض النّقود، فأخذَ ما كانَ له وقدّمه لي من دون أن يقولَ شيئاً. تمنّعتُ في البداية عالماً بحالِه، لكنَّ يدَه الممدودة وطرفه المخفوض حملاني على الموافقة. أذكرُ ليلتها أنّي بكيتُ ألماً على فقيرٍ أغنى من أصحابِ الملايين.
كانَ صديقي السّمين يفتحُ علبة السّجائر بطريقةٍ غريبةٍ، إذ كان، بدلَ أن يفكّ الرّابط البلاستيكيّ وينزعه كاملاً، يشعلُ بولاعتِه أحد أطراف فتحتها، فيزيحه قليلاً ثمَّ يفكّ الأوراق المثلّثة بعنايةٍ ويغلقها من بعدِ كلّ لفافة! سألتُه مرّةً عمّا يفعل ولمَ! أجابَ: أحاولُ قدرَ الإمكان الحفاظَ على التبغِ من الجفاف، فالعلبة عليها أن تكفيَني أربعة أو خمسة أيّام... وكانَ يضحكُ لاعناً الفقرَ!

لعبتُ هذا الدّورَ أيضاً في مجلّةٍ محليّةٍ أصدرها أحدُ الأصحاب عملتُ في تحريرِها، وكنتُ أقومُ بكتابةِ أكثر من مادّة لتصدرَ واحدة فقط باسمي والبقيّة بأسماء العاملين معنا. كما كنتُ أصوغُ وأحرّرُ لا بل أعيدُ كتابة مقالات كاملة كتبَها الأصدقاء بسبب رداءة لغتها وركاكة أسلوبها.
كما جعلتُ قلمي أجيراً طوال سنوات الدّراسة تماماً كما كانَ يفعلُ صديقي الحمصيّ اليتيم، لكن بدون مقابلٍ ماليٍّ، بل لقاءَ كتابة أعمالي على الآلة الكاتبة أو الكومبيوتر وطباعتها، وهكذا كانت المقايضة هذه تكلّفني ساعات من الليلِ أقضيها في إعدادِ أعمال الآخرين!

قد يندمُ الكاتبُ عندَ بيعِه الكلمة، وخصوصاً كلمته هو، ولكأنّها طفلٌ يُنزعُ من حضنِ والدةٍ خرساءَ مقعدةٍ، فلا تجيبُ إلا بأنّات وحركات أليمة باكية! لكنّ الحياة ورغيفَها أثمنُ من الكلمة.
إنَّ القلمَ الأجيرَ يتركُ صاحبَه في ندمٍ وأسىً، لا بل يذكّره بين الحينِ والآخر بجريمته وخيانته، فتدمى كلومُه من جديد بعدَ أن رفأتها الأيّامُ ومضيّ السّنين!
اليومَ أذكرُ ما فعلتُ ولستُ بنادمٍ، إذ أذكرُ أيضاً حاجتي التي قادتني إلى مبادلة كلمتي بما يقيتني ويكسيني؛ وإن اضطررتُ إليه من جديد لفعلتُ ما فعلت!

Mors ultima ratio
.
www.tuesillevir.blogspot.com
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.04003 seconds with 11 queries