تهاوى بجسده المنهك على مقعد في زاوية مهملة .. كحضوره .. مظلمة كألمه .. هي " بشراه " فكيف له أن يحيا دون نظرتها الطفولية التي تتزاوج فيها شقاوة الطفولة بشقاء الألم .. هي " بشراه " التي اعطت لحياته روحا ً .. فبأي حق يسمح لهم أن يسرقوا روحها ؟ استرجع تساؤلها الطفولي المحبب ومفرداتها البريئة : " أبي ! عندما اموت هل سأصبح ملاكا ً في السماء ؟؟ لا تخف سأعتني بك جيدا ً "
تراه اعتنى بها جيدا ً ؟
شعر بشخص ما يتحرك قربه .. انها تبكي .. نظر إليها برفق .. لم تتجاوز الثانية عشر من عمرها .. هي الأخرى كان قد لحظها مراراً في أروقة هذا المشفى البيضاء الكئيبة ..
مد إليها منديله القديم خجلا ً .. وابتسم .. صديقته الصغيرة الجديدة " سارة " على وجهها الصغير المتعب ابتسامة .. حدثته مطولا ُ عن زياراتها المتعددة .. وخيبات أملها .. شاركته صلاتها السرية :
" يا رب يقولون أنك جميل جدا ً وتحبني جداً .. دعني أرى جمالك "
حادثها عن بشرى حكى لها عن جدائلها .. عن كلماتها الأولى .. عن دميتها التي تشاركها السرير .. صديقها السحري الذي يزورها في الحلم .. عن عيناها اللامعتين الجميلتين .. تذكر" بشرى " وابتسم
لقد اتخذ قراره .. سارع إلى غرفة الطبيب .. بحسم واخبره قراره .. ناقشه كثيرا ً ودرس معه جميع الاحتمالات الممكنة .. والابتسامة لا تفارق وجهه الطيب .
غادر المشفى مسرعا ً .. بخطى واثقة . اخرج من جيبه كل ما تبقى معه من نقود ..وقف أما محل ألعاب الأطفال ذاته واشترى " لعبة صيد السمك " ..
وفي الأسبوع الذي يليه عاد إلى المشفى ليزورها .. ترك على بابها هديته .. استجمع صلواته كلها .. وقلقه كله .. ساعة كاملة .. وهو يناظر الباب خائفا ً .
وأخيرا ً خرج الطبيب .. ليخبره فرحا ً :
لقد نجحت العملية ..
ستستطيع " سارة " الرؤية أخيرا ً بالعينين التي أهدتهما إياها " بشرى " .
|